شهدت المفاوضات اليمنية في الكويت، أخيراً، تحولاً مفاجئاً في مسارها السياسي، وذلك بعد تداول خريطة طريق أممية لحل الأزمة اليمنية، بما يعني فرضها على الأطراف المتفاوضة، لإنهاء انسداد مفاوضات عبثيةٍ دخلت شهرها الثاني، ولا يبدو أنها ستفضي إلى تسويةٍ سياسيةٍ قريباً، قرّر المجتمع الدولي، ممثلاً بالأمم المتحدة والدول المؤثرة في الأزمة، اللجوء إلى التدخل الجراحي بـ"خريطة طريق غير قابلة للنقاش"، لكن الطريقة التعسفية التي تم بها إخراج صيغة خريطة الطريق هذه ومضامين بنودها، لا تظهر حرص المجتمع الدولي على إيجاد مخرجٍ آمن للأزمة اليمنية، بقدر الحرص على إيقاف مؤقت للحرب، وبما يكفل إعادة الكرة إلى الملعب اليمني وإعفاء الأطراف الاقليمية منها، وليس إنهاء حالة الاحتراب والقضاء على جذور الصراع، بما يضمن عدم تكرار دورات العنف مستقبلاً.
المضامين السياسية للإحاطة التي قدمها مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ، وكذلك خريطة الطريق الأممية التي تطرّق إليها، يلخصان التموضع الجديد للمجتمع الدولي في الأزمة اليمنية، إذ يتعدّى دور المراقب الذي طالما اتخذه المجتمع الدولي، منذ بدء الحرب في اليمن، إلى دور المشرعن لاستدامة الصراع، عبر القفز على التهيئة للخيار السياسي بين الأطراف اليمنية، وكذلك إنشاء آلية دولية لمراقبة الأعمال القتالية في الميدان، وتثبيت وقفٍ نهائي للقتال، وكذلك تأمين وصول المساعدات الإنسانية في المناطق المغلقة.
تتضمن الخريطة الأممية في صيغتها المسربة، أو ما أطلق عليها تجاوزاً اسم "المبادرة الخليجية الثانية"، أربعة بنود: إجراء الترتيبات الأمنية التي ينص عليها قرار مجلس الأمن رقم 2216، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، تعمل على تأمين الخدمات السياسية، وإنعاش الاقتصاد، وتولي الحكومة الوطنية التي ستشكل مسؤولية الإعداد لحوار سياسي، يحدّد الخطوات الضرورية للتوصل إلى حل سياسي شامل، والاتفاق على قانون الانتخابات، وتحديد مهمات المؤسسات التي ستدير المرحلة الانتقالية، وإنهاء مسودة الدستور، وإنشاء آليات مراقبة وطنية ودولية، لمتابعة تطبيق ما تتوصل إليه الأطراف من اتفاقيات.
لا تقتصر خطورة خارطة الطريق الأممية على أنها محصلة نهائية لتوافق أطراف إقليمية ودولية حول صيغة الحل السياسي في اليمن، وبأنها ليست نتاجاً لرؤية الأطراف اليمنية لحل الأزمة، حيث اطلعت هذه الأطراف على المسودة لاحقاً؛ فمكمن خطورتها هو في فرض تسويةٍ فوقيةٍ بعيدةٍ عن الواقع السياسي والعسكري الذي تتحرّك فيه أطراف الصراع اليمنية وحلفاؤهم الإقليميون، فعلى الصعيد السياسي ما زالت الأطراف اليمنية المتصارعة متخندقةً في رؤيتها لحل الأزمة، منطلقة من أجنداتها المحلية لتأكيد استحقاقها المشروع في أي تسوية سياسية. وعلى الصعيد العسكري، تصاعدت حدة المواجهات بين جماعة الحوثي وعلي عبدالله صالح من جهة والمقاومة الداعمة للشرعية في معظم الجبهات اليمنية من جهة ثانية، إضافة إلى تطور عسكري في الجبهة الجنوبية، بعد سيطرة جماعة الحوثي وصالح على جبل جالس ذي الأهمية الاستراتيجية في منطقة القبيطة، المطل على معسكر العند في محافظة لحج، في حين تعرّضت مناطق متفرقة في اليمن، بما فيها منطقة نهم شرق العاصمة صنعاء، لغارات طيران التحالف العربي.
تصاعد حدة الحرب بين الأطراف اليمنية وتصلب مواقفهما السياسية من شواهد تدل على أن الخريطة الأممية ليست بأي شكل نقاطاً أولية لتفاهماتٍ بين الأطراف اليمنية، كما صرح ولد الشيخ، ما يعني أنها لن تكون إلا تعقيداً مضافاً للمرجعيات الأممية والدولية في حل الأزمة اليمنية، إذ ترحل خريطة الطريق كل المشكلات الوطنية التي كانت سبب احتراب الأطراف اليمنية، وفشلها في الاتفاق على حكومة وحدة وطنية. إن إقرار حوار سياسي يمني آخر، يعمل على إنهاء مسودة الدستور، وكذلك إقرار قانون الانتخابات، يتجاهل فشل الحوار السابق الذي استمر أكثر من تسعة أشهر بين أطراف الصراع وكذلك القوى السياسية، وكان برعاية أممية، لم يحقق اتفاقا مرضياً بين هذه الأطراف، بل كان سبباً غير مباشر في انقلاب جماعة الحوثي وصالح على السلطة الشرعية، واتساع رقعة الاقتتال الأهلي؛ كما أن خريطة الطريق، في صيغتها الحالية، هي بمثابة تقويض للقرار الأممي والمرجعيات التوافقية، سيُفضي فقط إلى توسيع رقعة الحرب، وسقوط مزيد من اليمنيين في متاهة صراع أكثر تعقيداً.
تؤكد القراءة الأولية لخريطة الطريق الأممية سعي الراعي الدولي إلى نقل الأزمة اليمنية من السياق الإقليمي الذي ولدته الحرب إلى سياقٍ يمني، لم يعد مؤهلاً لإدارة النزاع بين الأطراف المتصارعة، متجاهلة الظروف السياسية والعسكرية والاجتماعية التي أحدثتها الحرب، وانعدام الثقة بين هذه الأطراف، خصوصاً مع استمرار القتال؛ كما لم لم تضع خريطة الطريق في حسابها تعدّد أطراف الصراع، والثقل الإقليمي لدول التحالف، واستمرار فرض أجنداتها في الميدان. تؤكد صيغة خريطة الطريق قرار المجتمع الدولي بالتنصل من التزاماته حيال اليمنيين، ومسؤولياته إزاء معاناتهم جرّاء استمرار الحرب، وعلى حرص الخريطة على إرضاء أطراف الصراع الإقليمية، بما فيها دول التحالف، وإيجاد مخرج لها من المستنقع اليمني بأقل الخسائر، مع حفظ ماء الوجه.
كان موقف أطراف الصراع اليمنية المتحاورة واضحاً من خريطة الطريق الأممية، حيث رفضت جماعة الحوثي بنودها، وأكدت على أسبقية تشكيل سلطةٍ سياسيةٍ على الإجراءات الأمنية والعسكرية، تكون المعنية باستلام الأسلحة من المليشيات وضمان خروجها من المدن اليمنية، وأن يبدأ الاتفاق السياسي من إعادة هيكلة مؤسسة الرئاسة اليمنية، ورفض صالح الخريطة الأممية، معتبراً رؤية حزبه للحل السياسي خريطة الطريق الممكن قبولها، والتي تتمسّك بإلغاء العقوبات الأممية بحقه هو وابنه وقيادات حوثية، وإخراج اليمن من الفصل السابع، وإيقاف العمليات العسكرية في اليمن، والاتفاق على سلطةٍ تنفيذيةٍ توافقية، تمارس مهمامها وفقاً للدستور النافذ لفترة انتقالية لا تمدّد، وتشكيل لجنة عليا للانتخابات وإجراء انتخاباتٍ برعايةٍ دولية، وتشكيل لجنة عسكرية تضم خبراء دوليين، تتولى الإشراف على الانسحاب من المدن واستلام الأسلحة، وأن يكون التنفيذ برعاية الأمم المتحدة وأميركا وروسيا والكويت وعمان والجزائر. في حين أصر وفد الشرعية اليمنية على تطبيق القرار الأممي بترتيباته، كما تشترط الشرعية اليمنية، وتوفير ضماناتٍ سياسيةٍ تؤكد على خروج صالح من المشهد السياسي، وتحول جماعة الحوثي إلى حزب سياسي.
أمام الضغوط الدولية المستمرة لتسويق خريطة الطريق، وفرضها على الأطراف اليمنية، لا يمكن الجزم باستمرار رفض الأطراف اليمنية، أو قبولها، صيغة تسويةٍ سياسيةٍ مشوهة، لا تقل سوءاً عن المبادرة الخليجية. لكن، من الأكيد أن هذه الخريطة، أياً كانت التطورات اللاحقة لإقرارها، لن تقدم حلاً سياسياً ناجعاً ومستداماً، ولن تفضي إلى إنهاء الحرب في اليمن، كونها لا تمثل أرضيةً سليمةً لخريطة طريق تُخرج اليمنيين من نفق مظلم، بل هي مفخّخات أممية ستعمل على تكريس بنية الصراع في اليمن واستدامته أمداً أطول، وبكلفة إنسانية ومادية أقسى وأكبر.