أسقط الحوثيون العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، ومنذ ذلك وهم يحتفلون بما يفترضون أنها ثورة، ولكن منفردين، بينما يحتفل بقية اليمنيين بثورة 26 سبتمبر التي أسقطت نظام الإمامة عام 1962 ليصبح اليمن بلدا جمهورياً، الحدث الذي يعتبره الحوثيون انقلاباً عسكرياً.
يكشف الحدثان عدة أمور، أهمها حالة العزلة المجتمعية والسياسية التي يعيشها الحوثي، فهو يحاول فرض الاحتفال بقوته وسلطته، ولكن من دون أي تفاعل مجتمعي. وتنبع هذه العزلة من طبيعة الجماعة اللاسياسية، مستنداً على عصبية مذهبية وسلالية هاشمية، وكأي عصبيةٍ تنكفئ على نفسها، وتنظر إلى الآخرين بعداء، وفي أحسن الحالات بتشكّك. لذا من الطبيعي أن تنعكس طبيعته المغلقة على أدائه السياسي، حيث أطاح الحوثي بكل تحالفاته السياسية، ولم يلتزم بأي اتفاق.
لا يمكن للحوثي أن ينطلق خارج عصبيته، بسبب أفكاره ومرجعياته الدينية والتاريخية التي عفا عنها الزمن، ولا تحترم أبسط مقومات الدولة الحديثة من مفاهيم دستور ومواطنة. كذلك نشأته في منطقة معزولة، كجماعة تمرّد ضد الدولة، حتى ارتفعت مكانتهم من جماعةٍ صغيرةٍ لجماعة حاكمة، ما عزّز لديهم مفاهيم الحق والتمكين الإلهي، وأكد لهم صوابية الاعتماد الكلي على السلاح. كما تضاعفت هذه العزلة مع وصولهم إلى السلطة التي مارسوها بأقصى درجات القمع، ما قطع أي إمكانية للتواصل مع بقية أبناء المجتمع.
سمي الحوثيون ما جرى في 1962، فثورة 1962 كانت تحرّكا عسكريا، قاده مجموعة ضباط يمنيين لإسقاط نظام الإمامة، ما دفع كثيرين إلى وصفه انقلابا عسكريا امتداداً لانقلابات عسكرية شهدتها المنطقة، لكن هذا أمرٌ يخلّ ببعض الحقائق، مثل الإسناد الشعبي الواسع لهذا التحرك العسكري، حيث لم يكن مجرد انقلابٍ، وصراع نخبوي على السلطة، وإلا لكان قد سقط النظام حديث النشأة خلال حربٍ أهليةٍ بامتداداتٍ إقليميةٍ، طحنت اليمن سبع سنوات. والحليف الإقليمي للنظام الجمهوري انسحب فجأة عقب هزيمة مصر عام 1967، بينما استمر دعم نظام الإمامة من السعودية عامين آخرين، حتى تم حسم الحرب الأهلية نهائياً لصالح النظام الجمهوري، ولا يصبُّ هذا كله في صالح التفسير الانقلابي للحدث.
في المقابل، تحرّك الحوثيون في سبتمبر/ أيلول 2014 منفردين، جماعة عصبوية واحدة. والثوار ليسوا بالضرورة غالبية مجتمعية، ولكن من المهم أن يكونوا ممثلين كل شرائح المجتمع، مثلما كان الحال عام 1962، حيث نجد تنوعا مجتمعيا في أسماء الثوار، بينما كان الحوثيون يمثلون فئة مجتمعية واحدة من منطقة محدّدة في اليمن. وكانت مطالبهم منخفضة السقف في البداية، بل لا يمكن وصفها بالثورية، فهي لا تتجاوز التراجع عن رفع سعر المشتقات النفطية، وإسقاط الحكومة، وتطبيق مخرجات الحوار الوطني. بعد إسقاطهم للعاصمة، صارت لهم مطالب جديدة مع صبيحة كل يوم جديد، ليدرك الجميع، بسهولة، إنه لا سقف لمطالبهم، فهي متحركة دائماً، وغير واضحة معظم الوقت.
ويعود هذا إلى حقيقةٍ لا يصعب كشفها، أن الحوثيين تحرّكهم مجموعة أوهام دينية وتاريخية، تجعلهم يؤمنون بحقهم الحصري والإلهي لحكم اليمن. نقطة ارتكازهم التاريخية ومرجعيتهم الفكرية هي الإمامة، وهذه ليست مجرد نظام ملكي اعتيادي، بل منظومة اجتماعية متكاملة، قائمة على تراتيبة اجتماعية صارمة قائمة على النسب والوظيفة. تلاشت تقريبا، وطرأ على بعضها تغييرات كبيرة، فطبقة القضاة، وهي طبقة وظيفية مهمة في إضفاء شرعية للإمام، اختفت، ولم يعد لها وجود تقريباً، وصارت كأي مهنة عادية لا تورّث، ولا تحمل أي دلالات طبقية، إضافة إلى طبقاتٍ أخرى كثيرة، صارت تعرّف نفسها بشكل مختلف، بعد انفتاح مجالات العمل لديها وعمومية التعليم.
أما ما تبقى من طبقاتٍ، مثل السيد الهاشمي وشيخ القبيلة، فهي لا زالت أكثر الطبقات تماسكاً، وطبيعة الوظائف التي تؤدّيها الطبقتان لا تساعدها على الانخراط في عملية التحديث التي تفقدها مكانتها، دينيةً كانت أو قبلية عرفية. على الرغم من مقاومتهما التغيير، لم ينجحا في منع التغييرات المجتمعية، فالشيخ لم يعد تأثيره بفاعلية الماضي نفسها، فلم تعد القبيلة متماسكةً، ولا أعرافها ثابتة. أما الهاشميون، وهم العصبية التي نجح الحوثيون في إحيائها، فإضافة إلى الرفض المجتمعي لمحاولة إحياء مكانتهم، هناك تباينات واضحة بينهم. أبرزها الفرق بين الهاشميين الريفيين، خصوصا القادمين من صعدة، وهم عقائديون متشدّدون، انخرط معظمهم بالقتال منذ كان الحوثيون حركة صغيرة لا وزن عسكريا لها، وأولئك المقيمين في صنعاء وانفتحوا على المجتمع والعالم، ويسود العلاقة بين الطرفين توجس وقلق كثيران، لكن ظروف الحرب حوّلتهم إلى عصبية متماسكة ظاهرياً.
تغيرت المنظومة الثقافية أيضاً جذرياً، وبعد نصف قرن من النظام الجمهوري، لم يعد الحكم الديني، بشكله الصريح والمطلق، مقبولا لدى اليمنيين. التحكّم في هذا التغير صعب، فإذا تمكّن الحوثيون من تعديل المناهج التعليمية، لتعزيز فكرة الولاء والطاعة للقائد وتقديس آل البيت، فهو لا يستطيع فرض عزلةٍ كاملةٍ على اليمنيين، فلا يتفرج على تلفزيون ولا يفتح إنترنت، وكلها تفتح المدارك على حقيقة أن العالم يسير بشكل مختلف كلياً. وينعكس هذا بوضوح في معتقدات الشباب، حيث تراجعت يقيناتهم الدينية والاجتماعية، وصارت محل شك، وهم يشاهدون هذه الحروب التي قضت على مستقبلهم باسم الدين، بينما تتطور دول يصفون أهلها بالكفار.
قرابة خمسين عاماً اخرجت اليمن من عزلة مخيفة، ليعرف اليمنيون أول مرة ما يعنيهما دستور ودولة ببعض الملامح الحديثة، أي لا يمكن محو ذاكرة جيلين (تقريبا) بهذه البساطة، لأن حقيقة مرجعية الحوثي ومطالبه غير مقبولة سياسياً واجتماعياً في اليمن، وغير ممكنة التطبيق. أصبح الحوثي متذبذباً، ويُظهر ما لا يُبطن، يحاول أن يتبنّى خطابا وطنيا، وتركيبته مذهبية سلالية، يحاول أن يظهر نفسه حركة سياسية منفتحة، فيما هو جماعة دينية مغلقة، يتصرّف كصاحب دولة، لكنه يرفض التعامل مع مؤسسات الدولة التي يكنّ لها العداء، بسبب نظامها الجمهوري، وتاريخه بوصفه حركة تمرد، لتظل تصرفاته مليشاوية خارج مؤسسات الدولة التي تقع تحت سيطرته.
ابتدع الحوثيون لزعيمهم اسما لا يخلو من دلالة قدسية دينية واضحة، وهو قائد المسيرة القرآنية، باعتبار غزوات الحوثي مسيرة قرآنية تتجسّد فيها آياته ومفاهيمه، وكذلك لا يصفه الحوثي بالإمام، على الرغم من قناعتهم الباطنية بذلك، لكنهم يكتفون باسم ديني آخر للزيدية، وهو "العلم"، أي العلم الذي يقود الأمة وتتجسّد فيه الروحانية والقيادة التي وهبها الله له. وهذا أيضاً أحد أسباب تملص الحوثيين من كل اتفاق سياسي، لأنهم يرون مرجعيتهم وأفقهم المحكوم بتصوراتهم الدينية يعطيهم الحق بنقض أي اتفاقٍ، قد تترتب عليه أية مسؤوليات، وتحصر سلطتهم التي ينبغي أن تكون مطلقة.
استحاله العودة إلى الإمامة دفعت الحوثي إلى إعلانهم الدستوري في فبراير/ شباط 2015، والذي يحاكي تجربة الثورة الإيرانية، فباسم الثورة يحكم وتسمّى سلطاته ثورية، لا جمهورية ولا إمامية. يبدو هذا مخرجاً جيداً، ولكن السلطات الثورية في إيران قرّرت الحكم ضمن مؤسسات الدولة، بينما يصرّ الحوثي على مزاولة حكمه بشكل مليشياوي، ما يجعل طبيعة سلطته هشّة، ومعتمدة على السلاح فقط.
بين حدثين في اليمن، يتجلي الفرق بين حالة مجموعةٍ تمثل أطياف المجتمع، بتطلعاتٍ ثوريةٍ ومفاهيم سياسية عصرية تواكب زمنها، وقادرة على تحمل مسؤوليتها السياسية، وأخرى معزولة عن المجتمع، ومنفصلة عن الزمن، مثل الحوثي.
*نقلاً عن العربي الجديد