2020/06/28
حروب السعودية في اليمن.. من جنرالات عبدالناصر إلى "أشباح" الخميني

للمصدر أونلاين:

قبل 58 عاماً، كان اليمن (الشمالي) ساحة حرب بين المصريين والسعوديين. 

كانت البداية في 26 سبتمبر 1962، عندما قرَّر مجموعة من الضباط اليمنيين الشجعان تصويب مدفعيتهم باتجاه قصر البشائر، وسط العاصمة صنعاء، بينما كان الإمام محمد البدر يعقد اجتماعاته في الأيام الأولى من توليه الحكم خلفاً لوالده الراحل. أطلق الضباط القذائف ناحية القصر مباشرة مستهدفين بذلك رأس النظام الملكي الإمامي إيذاناً باقتلاعه وإعلان النظام الجمهوري.

لم تكن العملية مضمونة النجاح. كان القيام بالخطوة الأولى يتطلب جسارة خارقة وإيمان صلب بعدالة القضية. القذائف أصابت مرماها وأسدلت على مصير الإمام غموض تام لم ينجلِ إلّا بعد مضي أسبوعين أو ثلاثة عندما تم التأكُّد أن الرجل نجا من القتل وتمكن من الفرار متنكِّراً إلى مناطق بعيدة من العاصمة على مقربة من الحدود الشمالية مع المملكة العربية السعودية.

وقد تلقَّى الثوار الجمهوريين على الفور مساعدة عسكرية مباشرة من النظام المصري بقيادة جمال عبدالناصر، في حرب مفتوحة خاضوها ضد الملكيين، أنصار الإمام المخلوع محمد البدر، الذين تلقّوا، بدورهم، الدعم، سياسياً وعسكرياً، بصورة غير مباشرة، من المملكة العربية السعودية وعدد من الدول الحليفة لها في ذلك الحين: بريطانيا، الأردن، إيران في ظل نظام محمد رضا بهلوي، وحتى إسرائيل.

كانت تلك الأحداث تؤسِّس لفصل جديد لا سابق له في تاريخ اليمن. وكان لنجاح الثورة وقيام الجمهورية العربية اليمنية، أول جمهورية في شبه الجزيرة العربية، صدى هائل في العالم أجمع، كما كتبت الباحثة الروسية (جولوفكايا. ايلينا. ك).

قبل الثورة بـ 4 سنوات، 1958، كانت اليمن "المتوكلية" قد أصبحت في دائرة النفوذ المصري عبر اتفاقية الاتحاد الثلاثي الذي يجمع مصر وسوريا واليمن. ويقال أن الإمام أحمد حميد الدين لم يعرض الانضمام إلى ذلك الاتحاد إلّا ليحتوي تأثيرات الدعاية الثورية الناصرية، وقطع الطريق على المعارضين اليمنيين، في الداخل وفي الخارج، المفتونين بخطاب الثورة المصرية ورسالتها التحررية. 

عوضاً عن النتيجة التي أرادها الإمام من انضمامه، تغلغل التأثير المصري في عمق الدولة الإمامية، بل وتحوّلتْ اتفاقية الاتحاد مع مصر إلى مصدر من مصادر شرعنة التدخل العسكري لدعم الثورة.

أمّا ذريعة السعودية في دعمها للملكيين، فهي مواجهة المد الثوري الناصري على إثر اتصال الإمام البدر بالملك سعود بن عبدالعزيز الذي بادر إلى إرسال مبعوثين من آل السديري (أحمد وتركي السديري)، حيث استقبلهما البدر في المحابشة، وطلب مساعدته بالسلاح ضد من أسماهم بـ"المتمردين ومؤيديهم المصريين، وذلك لاستعادة عرشي"، (مقابلة أجراها سعيد محمد باديب مع الإمام البدر في لندن 21 ديسمبر عام 1983، ونشرت في كتابه "الصراع السعودي المصري حول اليمن الشمالي"، ص184).

وكان الملك فيصل بن عبدالعزيز يعرض في العلن صفقة تنسحب بموجبها قوات المصريين من اليمن مقابل أن يوقف السعوديين دعمهم وتسليحهم للملكيين، وأن يترك للشعب اليمني تقرير مصيره.

صحيح أن الخطر الناصري لم يكن هو المبرِّر الوحيد في دعم السعوديين للإمام وأنصاره. ذلك أن السياسة التقليدية للرياض، في اليمن وفي المنطقة بشكل عام، مبنية على نوع من التطيُّر والريبة إزاء أي تحول ثوري أو حدث من المحتمل أن يكون ناقلاً للعدوى. المملكة ما كانت لتسعد بفكرة قيام نظام جمهوري ثوري في البلد المجاور، فكيف وقد التحم ذلك النظام الوليد في صنعاء بالموجة الناصرية المصرية المتوهجة وأصبح جزءا منها، بخطابها الثوري والقومي المحرض على "التحرر" واسقاط الانظمة "الرجعية" العميلة للاستعمار.. إلخ! 

ليس هذا فحسب، بل إن الإلتحام الفكري والوجداني ما لبث أن أصبح حماية عسكرية وسياسية من طرف النظام الناصري المصري منذ الشهور الأولى للثورة اليمنية. 

ومع ذلك، فقد كان تَحجُّج السعوديين بالوجود العسكري المصري في اليمن، باعتباره السبب الحقيقي الذي يقف خلف مساندتهم لأعداء الجمهورية، يوفِّر لهم مخرجاً ممكناً من الحرب مثلما وفَّر لهم مدخلاً للإنخراط فيها. إنّ حجَّة السعوديين تلك كان يمكن فهمها لأنها قابلة للملاحظة والقياس. وبدا كما لو أن الرياض تقول إنني لن أكون ضد النظام الجمهوري في صنعاء لو رفع المصريين أيديهم من اليمن. أما في الواقع فقد كان يقينها أنه بدون المصريين لن يتمكن النظام الجمهوري من الصمود لحظة أمام الملكيين. في البداية كان لهذا اليقين السعودي ما يؤكده بالفعل. فالخبرة القتالية وعناصر القوة كلها كانت ستجتمع لمصلحة الملكيين، فينقضوا مجددا على صنعاء ويسحقوا الجمهورية في مهدها، لو لم يهب المصريين لنجدة النظام الثوري المستهدف بالعواصف والارتدادت القاتلة. 

في التاريخ الوطني اليمني، تلك الحرب هي حرب الجمهوريين والملكيين الإماميين. وعلى المستوى الإقليمي، هي حرب السعوديين والمصريين. ومن المنظور التاريخي العالمي لما سُمِّيَتْ بالحرب الباردة، يمكن أن يقال بأن حرب اليمن كانت قصة فرعية من قصص الصراع بين المحور الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وحلفاؤهما في المنطقة وعلى رأسهم السعودية، والمحور الاشتراكي الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي وحليفه في المنطقة ممثلاً في مصر بقيادة عبدالناصر. المفارقة هي أن الولايات المتحدة الأمريكية اتخذت موقفاً ايجابياً تجاه النظام الجمهوري في صنعاء واعترفتْ به في وقت مبكِّر.

ما يعنينا الآن هو المقارنة بين الاستجابة السعودية للتحدي الناجم عن ذلك الحدث، 26 سبتمبر 1962، الذي رأت فيه الرياض خطراً يهدد أمنها ومصالحها، واستجابتها الراهنة أمام خطر سيطرة الحوثيين، حلفاء إيران، على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، وفرض الإقامة الجبرية على الرئيس اليمني المعترف به دولياً عبدربه منصور هادي الذي استطاع بعد ذلك الفرار إلى عدن ومنها إلى المنفى في العاصمة السعودية الرياض. وفي 26 مارس 2015، أطلق تحالف بقيادة السعودية حملة عسكرية واسعة ضد الحوثيين في اليمن تحت إسم "عاصفة الحزم". 

وهذه أبرز النقاط التي قد يخرج بها الباحث من التأمُّل في حدثين يفصل بينهما أكثر من نصف قرن، وفي استجابة السعودية لكل منهما:

- في المرَّتين تأخَّرت السعودية عن نجدة حلفاءها إلى أن أصبحوا مطارَدين خارج العاصمة صنعاء: الإمام محمد البدر، والرئيس عبدربه منصور هادي. التدخل العسكري المصري في الستينات جاء لتثبيت نظام ثوري بعد أن سيطر على العاصمة صنعاء، وأعلن قيام الجمهورية التي أرادها الثوار على صورة النموذج الجمهوري الناصري. على عكس السعودية، سواءً عام 2015 أو في ستينات القرن الماضي، فهي لم تأتِ إلّا بعد إطاحة حلفاءها والتشريد بهم.

في المرّة السابقة، فضّلت السعودية التصدي للخطر المصري عن طريق حرب بالوكالة قامت فيها بتمويل وتسليح أنصار الإمام الزيدي محمد البدر على مدى 8 سنوات من الحرب. أمّا هذه المرة فقد أطلقتْ السعودية، ومعها تحالف كان يضم في البداية عشر دول عربية، عملاً عسكرياً مزدوجاً: تدخُّل مباشر عبر الطيران وأعداد رمزية من الوحدات العسكرية وضباط الارتباط، وتدخُّل غير مباشر من خلال تمويل وتسليح قوات الحكومة اليمنية الشرعية والجماعات المناوئة للحوثي.

في المرّة السابقة، كان مسرح التدخل يقتصر على شمال اليمن، لأن جنوب اليمن في ذلك الوقت كان مجالاً سياسياً منفصلاً، بينما يشمل تدخلها الحالي اليمن كاملا شماله وجنوبه.

في المرّة السابقة، كان الوجود المصري الناصري في اليمن، الذي أقلق السعوديين، وجوداً مباشراً ومحسوساً، عسكرياً وسياسياً وآيديولوجياً، طيران حربي يضرب في العمق السعودي وجنرلات مصريين يحكمون في صنعاء، بينما الوجود الإيراني هذه المرة غير مباشر يعتمد على استراتيجية الحرب بالوكالة. الوجود الايراني العسكري يظهر في الإعلام بصورة أضخم من حقيقته على الأرض، وذلك بالمقارنة مع زحف الموجة الناصرية وتأثيرها الكاسح لدرجة استقطابها أمراء سعوديين من أبناء الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود. فطبيعة النموذج الإيراني تلعب دوراً مؤكَّداً في تقييد فاعليته وتأثيره على نطاق جماعات مذهبية غالباً، بينما ثورة ناصر ورسالتها القومية، لم يكن بينها وبين مجتمعات الجزيرة العربية حواجز اللغة ولا القومية ولا المذهب.

في المرّة السابقة، حظي النظام الجمهوري في صنعاء ومنذ اليوم الأول، باعتراف كل من مصر، لبنان، سوريا، العراق، السودان، الجزائر وتونس. وفي الأول من أكتوبر عام 1962، اعترفتْ حكومة الاتحاد السوفيتي بحكومة الجمهورية العربية اليمنية وهي الدولة العظمى الأولى التي تعترف بالجمهورية الفتية. واعترفت بها في الاسبوع الأول من الثورة الدول الاشتراكية الأخرى. وفي وقت لاحق اعترف بالنظام الجمهوري اليمني، الولايات المتحدة الأمريكية، مخالفة بذلك موقف حليفتها المملكة العربية السعودية.

في حين لم يحصل الحوثيين، حتى الآن، على اعتراف من أي دولة من دول العالم باستثناء إيران التي تأخر اعترافها بالحوثيين عبر تبادل التمثيل الدبلوماسي إلى العام 2019. وهذا يمكن احتسابه نجاح للسعودية مقارنة بعجزها عن منع الاعترافات الدولية بالنظام الجمهوري اليمني في ستينات القرن الماضي.

في المرّة السابقة، لم يكن لدى السعودية حليف اسمه الإمارات العربية المتحدة يمول مجموعات تتبنى أجندات مناهضة للحكومة اليمنية التي جاءت السعودية لنجدتها. بقي معسكر الملكيين المدعومين من السعودية موحداً بقيادة محمد البدر، ولم يشهد تصدعات وتناقضات عنيفة كما هو الحال في معسكر الحكومة الشرعية المدعومة من السعودية هذه الأيام.

بالنسبة للوطنيين اليمنيين، فإن ما يُحسب للرئيس المصري جمال عبدالناصر هو أنه لم يكتفي بإرسال قواته المسلحة ومدرعاته وطائراته الحربية، فبالتزامن مع تدفُّق وحدات من الجيش المصري إلى اليمن، "تدفَّق جيش آخر، من الخبراء، الإداريين والإقتصاديين والتربويين والإعلاميين والرياضيين، وغيرهم. وكانت مهمة هذا الجيش المدني الموازي مهمة حضارية: وهي بناء الدولة الحديثة، بمؤسساتها المختلفة، ونشر التعليم الحديث، وإرساء قاعدة اقتصادية وتنموية حديثة، بما في ذلك إنشاء البنوك واستبدال العملة القديمة وتنشيط التبادل التجاري مع الخارج ورفع الحواجز الجمركية في الداخل...إلخ"، (علي محمد الصائدي، من مقدمة كتاب "اليمن عشية الثورة.. تقرير البعثة الطبية الألمانية" ص6).

بعد 5 سنوات من الحرب المكلِّفة جداً بالنسبة للموارد المصرية، وجد عبد الناصر نفسه، مضطراً لسحب قواته من اليمن عام 1967، ودونما اتفاق مع السعوديين. كان ذلك القرار أحد نتائج ومضاعفات هزيمة ناصر العسكرية أمام الاسرائيليين، الهزيمة المعروفة بنكسة يوليو 1967. 

فهل أوقفت السعودية دعمها للملكيين في اليمن بعد انسحاب المصريين؟ 

لم تفعل ذلك بالتأكيد. لكن في نفس الوقت لم يتهاوى نظام صنعاء الجمهوري إثر انسحاب داعميه المصريين كما كان السعوديين يتوقعون بيقين، وكما كانوا يأملون. في نهاية 1967، أي عقب مغادرة القوات المصرية اليمن بزمن قصير، نفَّذ المعسكر الملكي اليمني المدعوم سعودياً أكبر هجوم على صنعاء، عاصمة الجمهورية العربية اليمنية، أخضع المدينة لحصار شامل، على مدى سبعين يوماً، تمكَّنتْ فيها قوى الجمهورية، وببسالة ملحمية، معتمدة على قدراتها الذاتية، بلا سند ولا رعاية خارجية، من كسر الحصار وردّ فلول الملكيين الإماميين على أعقابهم.

بحلول 23 أبريل 1970، أي بعد انسحاب قوات ناصر من اليمن بثلاث سنوات، اعترف السعوديين أخيراً بالنظام الجمهوري. لم يتبق حينها في اعترافها به ما يدعو للحرج. لم يكن اعترافاً مُذلّاً بالنسبة للرياض، وخصوصاً بعد أن انفتحتْ قنوات اتصال مع نظام صنعاء الثوري، وبعد أن ترجَّحتْ كفَّة الفصيل الجمهوري "اليميني" "المعتدل" على حساب فصائل ما يسمى "اليسار" والقوميين الأكثر تشددا في خطابهم تجاه السعودية من منطلق تقدمي ثوري "ضد قوى الرجعية والاستعمار".

فهل من الوارد أن يتهيأ للسعوديين ظرف وسياق مشابه في حربها الحالية داخل اليمن؟ السعودية تقول بأنها تقاتل ضد الخطر الايراني متمثلاً في تحركات وأنشطة الحوثيين العدائية.. مثلما كانت تقاتل في الستينات ضد الخطر المصري الناصري. 

وإذا كان إنهاء الخطر المصري، في شِقِّه العسكري، قد حدث، بشكل عَرَضِي، بانسحاب المصريين عقب نكسة 1967، ولو لم يكن للسعودية يد في ذلك، فما هي العلامة التي تتحقَّق بها السعودية من زوال الخطر الايراني؟ 

يكتسب هذا السؤال وجاهته من حقيقة عدم وجود قوات إيرانية في اليمن على غرار قوات ناصر في الستينات. هناك دعم إيراني غير مباشر للحوثيين: تمويل وتسليح عن طريق التهريب، وهناك ارتباط ايديولوجي وسياسي، لكن لا وجود عسكري مباشر لإيران في اليمن. 

فما هي الطريقة التي ستنهي بها السعودية خطر إيران في اليمن؟

مع الأخذ بالاعتبار الفارق بين تدخُّل غير مباشر في الستينات، وبين تدخلها العسكري المباشر منذ 2015، ومع الأخذ بالاعتبار الاختلاف بين طبيعة وشكل الخطر الناصري من جهة وطبيعة وشكل الخطر الإيراني من جهة أخرى، فإنه لا يبدو أمام الرياض إلَا طريقتين، هي: إمّا أن تَهزم الحوثيين عسكرياً، وهذا يعني إجبارهم على الاجلاء عن صنعاء، وتأمين شريطها الحدودي الجنوبي من هجمات الحوثيين. والطريقة الثانية سياسية، وهي أن يتم تفعيل قنوات دوبلوماسية بين الطرفين تفضي إلى اعتراف متبادل يتعهد بموجبه الحوثيين بالابتعاد عن إيران. 

فهل هذا ممكن؟ 

من جهة الحوثيين، ليس في تحول كهذا ما يدعو للحرج الكبير، من الناحية السياسية والعسكرية. هناك حرج آخر، وربما خوف، من أن يعاد خطابهم العدائي تجاه السعودية، وادعاءاتهم الوطنية، إلى نحورهم بمجرد اتفاقهم معها. 

من جانب السعودية، سيكون التحول الجذري في موقفهم من الحوثيين، حالياً، أمراً مُحرِجاً بل وخطيراً إذا اقتصر إنجازها العسكري على ما حقَّقه التحالف حتى هذه اللحظة، لأن الرهانات السياسية والأمنية من الحرب كانت مرتفعة وكبيرة، ولا يلوح اليوم أن المملكة في سبيلها لكسب تلك الرهانات، إلّا في حال أن يوافق الحوثيين على إنهاء الحرب بطريقة من شأنها أن تراعي كرامة الرياض وسمعتها ولو على حساب مصالحهم ومصالح حلفاؤهم الإيرانيين. 

بالطبع، من المستحيل أن يفعلوا ذلك طوعاً وبدافع الاحترام!

 

تم طباعة هذه الخبر من موقع تعز أونلاين www.taizonline.com - رابط الخبر: http://taizonline.com/news28833.html