2020/07/12
الحاكم الجديد للشرق الأوسط .. عن مهمة محمد بن زايد المستحيلة

أطلقت انتفاضات الربيع العربي لعام 2011، والظهور القصير للديمقراطية في مصر، موجة من التدخلات العسكرية والانقلابات والحروب الأهلية التي لا تُظهِر أي إشارات على الانحسار حتى بعد مرور عقدٍ من الزمن.

وأهداف هذه الحملة إمَّا انتهت، أو في السجن، أو في المنفى، وباتت جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وتنظيما القاعدة والدولة الإسلامية "داعش" في سوريا والعراق، كلها قوى في طور التراجع. وفي حين أن هذه قوى متعارضة، فإنها تمثل نفس الشيء في أعين الثورة المضادة.

المرشد

لم تعد الإسلاموية، في صورتها السياسية أو المسلحة، تمثل إلا جزءاً يسيراً من القوة التي كانت عليها في 2011، وستكون عاجزة في المستقبل القريب عن استدعاء مئات الآلاف إلى الشوارع والإطاحة بأنظمة، مثلما فعلت من قبل في تونس ومصر واليمن.

مع ذلك، فإن الثورة المضادة، التي أُطلِق لها العنان حين أُطيح بالرئيس المصري محمد مرسي في 2013، لا تزال مستمرة بشراسة.

وهي تنتج ديكتاتوريين بملامح متماثلة: محمد بن سلمان في السعودية، وعبدالفتاح السيسي في مصر، وخليفة حفتر في ليبيا، وكلهم يزدرون الانتخابات، ويعيشون كالفراعنة، ويجعلون من أسرهم وأبنائهم عائلات حاكمة.

وكلهم مدينون لرجلٍ واحد إمَّا موَّلهم، أو سلَّحهم، أو كان مرشداً لهم في صعودهم إلى السلطة.

وهذا الرجل هو العبقري المُدبِّر للانقلابات في مصر، وهو لاعب أساسي في الحرب الأهلية في ليبيا، ويستغل موانئ بلاده ليحظى بحضور في منطقة القرن الإفريقي، ودفع السعوديين إلى حربٍ في اليمن من أجل الترويج لابن الرئيس اليمني الراحل علي عبدالله صالح، ثُمَّ تخلّى عن تلك الاستراتيجية ليُروِّج للانفصاليين الجنوبيين، وكان له دور فعَّال في إطلاق الحصار على جارته قطر، وقدَّم أميراً سعودياً مجهولاً لأسرة ترامب وتخلَّص من رجل وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) في الرياض.

لا يوجد شيء إلا ولمحمد بن زايد، ولي عهد أبوظبي، يد فيه. ونادراً ما يلقي الخطابات أو يشارك في مقابلات، وحين يفعل، يظهر باعتباره شخصاً غير مُتكلِّف قليل الكلام ويتحدث بلطف.

وفي المناسبات النادرة التي يتحدث فيها إلى صحفي مثلما فعل مع روبرت وورث من صحيفة The New York Times الأمريكية، يُصوِّر نفسه باعتباره المستجيب الأول على مضض، والإطفائيّ الذي يخمد حرائق الغابات الخطيرة، وكانت هجمات 11 سبتمبر/أيلول (اثنان من الخاطفين كانا إماراتيين) والربيع العربي حدثين مُبرِزين لهذا.

وهذا عمل مهم، مُوجَّهٌ إلى حدٍّ كبير للجمهور الغربي.

"التهديد الإسلامي"

وبمرور الوقت، لا يمكن أن تكون هذه هي كامل الحكاية. فمثلما طوَّر محمد بن زايد مكافحته للجهاد، توسَّعت كذلك طموحات ذلك الأمير الهادئ الذي يتحدَّث الإنجليزية وتلقّى تدريبه في أكاديمية ساندهيرست العسكرية البريطانية.

فلم يعد إحباط التهديد الإسلامي –كما يصفه- الذي يلوح بالأفق يُفسِّر طموحه ونطاق وتكلفة أحلامه. فالتهديد الإسلامي الموجود في كوابيسه خامل إلى حدٍّ كبير.

وبصفته مراقباً داهية، بإمكانه أن يرى، بوضوح مثل أي شخص آخر، أن الولايات المتحدة كقوة تنظيمية في الشرق الأوسط تتداعى. وهو يعرف كيف يتلاعب بالقرارات في البيت الأبيض. ويمكنه قراءة جهل مسؤوليه وغطرستهم وطمعهم الشخصي. وأمواله تذهب مباشرةً إلى جيوبهم. ويمكنه اللعب على فوضى عملية اتخاذ القرار الحالية في المكتب البيضاوي كما لو كان يعزف على آلة موسيقية.

ولابد أنه تراءى له أن الشرق الأوسط بحاجة إلى حاكم جديد. ولماذا لا يكون هو؟ فقرَّر أنَّه حان الوقت للخروج من الظلال وأن يعقد العزم والنية.

ما المهمة إذاً؟

قد يقول البعض بصراحة إن هذه المهمة صِيغَت مؤخراً بكلمات أفضل عملاء محمد بن زايد في الخارج، سفيره لدى الولايات المتحدة يوسف العتيبة.   

فكان المقال الذي كتبه في صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية في ظاهره يهدف لتحذير إسرائيل من أنَّ عملية الضم خطوة مُبالَغ فيها. كتب العتيبة المقال باللغة العبرية، وتوجَّه إلى الجمهور اليهودي باعتباره عربياً صديقاً، وذكَّرهم بأنَّه كان "أحد ثلاث سفراء عرب موجودين بالغرفة الشرقية في البيت الأبيض حين كشف الرئيس ترامب مقترحه للسلام في الشرق الأوسط في يناير/كانون الثاني".

لكن في الحقيقة، لم تكن الرسالة كذلك. فالإمارات ليس لديها مشكلات مع الاحتلال الإسرائيلي، ومستعدة لإرسال طائرتين معبَّأتين بمعدات الحماية الشخصية علانيةً إلى مطار بن غوريون وأن تقوم بأي عدد من الصفقات التجارية رفيعة المستوى مع إسرائيل بهدف تطبيع العلاقات.

لقد ولَّت منذ زمنٍ طويل أيام إخفاء خطط الرحلات الجوية للطائرات من أبوظبي إلى مطار بن غوريون بجعلها تختفي فوق الأردن. هناك علاقة رومانسية بين الإمارات وإسرائيل. ولا حاجة لأن يختبئ الحبيبان خلف الأشجار. كما أنَّها لم تكن رسالة من الأردن، الذي يعتبر ضم الضفة الغربية تهديداً وجودياً للمملكة.

واتضح أنَّها رسالة من اليهود الليبراليين في أمريكا لليهود اليمينيين في إسرائيل. وبحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي، كان العقل المدبر لهذه العملية هو الملياردير الأمريكي الإسرائيلي حاييم صبان. ووصفت مستشارة سابقة لنتنياهو، هي كارولين غليك، الرسالة بأنَّها من بنات أفكار صبان.

وعلى أي حال، لم يكن لها علاقة تُذكَر بالرأي العربي. لكنَّها ضمَّت فعلاً رسالة أخرى أكثر أهمية، إذ يَظهر بيان مهمة محمد بن زايد في فقرتين رئيسيتين كتبهما العتيبة.

كتب العتيبة: "فبامتلاكهما أقوى جيشين في المنطقة، والمخاوف المشتركة بشأن الإرهاب والعدوان، والعلاقة العميقة والطويلة مع الولايات المتحدة، يمكن للإمارات وإسرائيل تكوين تعاون أمني أوثق وأكثر فاعلية".

وأضاف: "باعتبارهما الاقتصادين الأكثر تقدماً وتنوعاً في المنطقة، فإنَّ العلاقات التجارية والمالية الموسعة قد تُسرِّع النمو والاستقرار في أرجاء المنطقة".   

وفي هذه الجمل، لا تدَّعي الإمارات فقط امتلاكها جيشاً أقوى من جيشي مصر والسعودية، بل تزعم أيضاً، بغرابة، أنَّها تملك أقوى وأكثر اقتصادات العالم العربي تنوعاً.

وهذه بعض المفاخرات التي يقوم بها وليّ عهد دولة خليجية صغيرة. فـ"إسبرطة الصغيرة" لديها طموحات كبيرة.

شريكة إسرائيل الصغرى

تُهمِّش الإمارات، بمقارنتها قوتها العسكرية بإسرائيل، حلفائها في الجيشين السعودي والمصري. لكنَّ هذا ليس مهماً. فمحمد بن زايد يريد تحويل دويلته إلى إسرائيل أخرى.

فكلا البلدان صغيران في الحجم وعدد السكان. وكلاهما مجتمعان متعسكران بقوة. و"جيش المواطن" الإسرائيلي مشهور. لكنَّ نظام التجنيد الذي قدمه بن زايد للرجال الإماراتيين في 2014، ثُمَّ تمديد فترة التجنيد من 12 إلى 16 شهراً في 2018، أقل شهرة.

ويملك كلا البلدين قوة عسكرية واقتصادية تتجاوز حدودهما بكثير وتصل إلى قلب إفريقيا. وإذا كانت إسرائيل أظهرت أنَّ لديها يداً طولى يمكنها بلوغ عنتيبي ومختلف أنحاء العالم للأخذ بالثأر، فإن الإمارات أيضاً أظهرت يدها الطولى في ليبيا وتركيا وسوريا، وهي بلدان بعيدة عن الخليج.

ولدى كلا البلدين سكان يتسمون بالحيوية يمكنهم خدمة المصالح الغربية. ولديهما أعداء مشتركون: الإسلاموية، وتركيا، وإيران. ولديهما استراتيجية مشتركة للسيطرة على المنطقة. فأكبر تحديين إقليميين للإماراتيين وإسرائيل هما تركيا وإيران على التوالي.

ويواجه الإماراتيون الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مباشرةً. فموَّلوا محاولة انقلاب غولنية في 2016. ويعارضون قواته في إدلب من خلال دفع أموال لنظام بشار الأسد لخرق وقف إطلاق النار الذي جاء بترتيب من روسيا، وتواجه الإمارات القوات التركية في ليبيا.

وحين هاجمت قاذفات مجهولة بطاريات الدفاع الجوي التركية في قاعدة الوطية الجوية الليبية المُستعادة حديثاً، غرَّد عبدالخالق عبدالله، وهو مستشار للبلاط الملكي الإماراتي، قائلاً: "الإمارات لقَّنت تركيا الدرس الذي تستحق نيابةً عن كل العرب الشرفاء".

وقد حذف التغريدة بعد ذلك.

لكن إسرائيل نفسها تبقى في الخلفية. فهي تعتبر الجيش التركي تهديداً رئيسياً. وكما ذكرتُ في يناير/كانون الثاني من العام الماضي، قال يوسي كوهين، مدير الموساد الإسرائيلي، خلال اجتماع لدبلوماسيين من السعودية والإمارات ومصر في إحدى العواصم الخليجية إنَّ إسرائيل تعتبر الجيش التركي أكثر قوة وأقل قابلية للاحتواء مقارنةً بالجيش الإيراني. لكنَّ إسرائيل نفسها لا تواجه تركيا.

وبالمثل، لا تواجه الإمارات إيران، حتى حين يجري تلغيم الناقلات قبالة أحد الموانئ الإماراتية. وتتولى إسرائيل القيام بالأمور الحركية، وهي التي يُعتَقَد أنَّها مسؤولة عن انفجار ضخم في نطنز في ورش تجميع أجهزة الطرد المركزية لتخصيب اليورانيوم، وربما عن ستة انفجارات غامضة أخرى في إيران أيضاً.

تعمل الإمارات وإسرائيل جنباً إلى جنب على الصعيد الإقليمي، وتُغطِّي كلٍ منهما ظهر الآخر. لكنَّ هذا لا يعني أنَّ المشروع نفسه مستقر أو طويل المدى. وبالفعل، قد تجد إسرائيل من المفيد أن تساير الأنا لدى محمد بن زايد لخدمة مصالحها بإبقاء الفلسطينيين تحت الاحتلال الدائم. لكنَّ مصالحها الوطنية تأتي أولاً.

لكن جرأة العتيبة أثارت ردود فعلٍ حادة من كارولين التي كتبت في صحيفة Israel Hayom: "لم يصنع أحدٌ معروفاً لأحد. وإن كنا سنتحدث من هذه الزاوية، فإنّ الطرف الأقوى في هذه الشراكة هو إسرائيل. إذ إن الاقتصاد الإسرائيلي أقوى بكثير من اقتصادات النفط الخليجية. فهل يعتقد العتيبة أنه سيُخفينا بينما لا تتجاوز أسعار النفط 37 دولاراً للبرميل الواحد؟".

لن يكون للغابة سوى أسد واحد، وإسرائيل لا تنتوي مشاركة هذا الدور مع عربي بأفكار تفوق قدراته.

والمشكلة الثانية في مهمة محمد بن زايد تكمُن في حلفائه العرب السُّنة. إذ سيبدأ السعوديون، والنخب العسكرية المصرية، في النظر إلى مغامرات بن زايد النارية من زاويةٍ أخرى حين يُدركون أن مصالحهم القومية والتجارية تُعاني.

حيث إنّ الاتفاق البحري الذي وقّعته تركيا مع الحكومة المدعومة من الأمم المتحدة في طرابلس تمنح مصر وصولاً إلى الثروة البحرية أكبر مما كانت ستحصل عليه في حال عقدت صفقةً مع قبرص واليونان، ومع ذلك ندّدت مصر بالاتفاق واعتبرته غير قانوني.

فضلاً عن أن تقسيم اليمن على يد الإمارات، التي احتلت جزيرة سقطرى وتدعم الانفصاليين الجنوبيين في عدن، لا يصُب في مصلحة الرياض التي تشعر بقلقٍ شديد حيال حماية أمنها بطول الحدود الجنوبية وتثبيت دولةٍ دمية في صنعاء.

دروس التاريخ

يجب ألا تنخدع إسرائيل بتعابير الدعم من الحكام التابعين للإمارات، مثل عبدالسلام البدري نائب رئيس وزراء حكومة شرق ليبيا في طبرق، أو هاني بن بريك نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي في عدن -وهو سلفيٌّ بالمناسبة.

ولا تبدو السوابق التاريخية مُبشّرةً لمشروع محمد بن زايد. إذ إن كافة الدول العربية التي تعاونت مع إسرائيل، أو اعترفت بها، صارت اليوم أكثر ضعفاً وانقساماً نتيجةً لذلك. وهذا ينطبق على مصر والأردن حيث يشعر الدبلوماسيون -الذين ظنّوا أنفسهم رُوّاداً يوماً ما- بالندم على ما فعلوه بدعوى السلام. إذ تبيّن أنه كان إنذاراً بفجرٍ كاذب.

إذ تلقّى البلدان وعوداً بمعجزةٍ اقتصادية لم تتحقّق على الإطلاق، وظل الصراع الفلسطيني مستعصياً كما كان دائماً، علاوةً على أن فلسطين التاريخية باتت أضعف وأصغر من أيّ وقتٍ مضى.

وبالنسبة للأردن التي تعاونت مع إسرائيل بتقارب أكبر من أي دولة عربية أخرى؛ فقد باتت على حافة الإفلاس والبطالة الجماعية والانهيار الاجتماعي. إذ لا تُمثّل مصالحها الاستراتيجية في الضفة الغربية والقدس أي وزنٍ بالنسبة ليمين المستوطنين المُهيمن داخل إسرائيل.

كما تطرح حركة فتح، التي اعترفت بإسرائيل، نفس الأسئلة. لماذا فعلنا ذلك في معاهدة أوسلو؟ ما الفائدة؟ وهذا هو الجدل الذي يُقرّبهم أكثر لمنافسيهم في حركة حماس.

تحالفٌ مصيره الفشل

الواقع أن هذا التحالف المؤقت بين إسرائيل والإمارات سيكون مصيره الفشل. إذ إنه من صُنع الأفراد وليس الشعوب. لأن مؤامرات بن زايد ومخططاته تخصه وحده، ولا تخُص شعبه.

والشارع العربي معارضٌ تماماً للاعتراف بدولة إسرائيل قبل الوصول إلى حلٍّ عادل للفلسطينيين، أي حل يُعيد إليهم أرضهم ويمنحهم حق العودة.

ولا شك أن مشروع محمد بن زايد وإسرائيل سيُسمّم المنطقة. إذ لا تسعى إسرائيل إلى التوصّل لاتفاق مع جيرانها، بل تسعى لجعلهم حمقى.

وقبل حروب سوريا وليبيا، لم تكُن تركيا تمتلك سياسةً خارجية توسّعية. لكنّها وضعت سياستها التوسّعية الآن وبدأت في تطبيقها. وعلى نحوٍ مماثل، لم تكُن السطوة العسكرية الإيرانية على أرض الواقع تتجاوز الأقليات الشيعية في الدول العربية السنية، مع الأخذ بالاعتبار دعمها العسكري لحزب الله ودعمها المالي لحماس.

ولم يسبق لإيران أن هدّدت الهيمنة العسكرية الإسرائيلية، بحسب اعتراف كوهين نفسه خلال الاجتماع داخل إحدى الدول الخليجية قبل عامٍ واحد. فإيران يُمكن احتواؤها من وجهة نظر الموساد.

ومهمة محمد بن زايد هي المهمة المستحيلة. ويجب على حلفائها العرب أن يروا ذلك سريعاً حتى يتمكّنوا من الحيلولة دون اندلاع عقدٍ ثانٍ من الحروب الإقليمية.

– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eyeالبريطاني، نقلا عن "عربي بوست".

تم طباعة هذه الخبر من موقع تعز أونلاين www.taizonline.com - رابط الخبر: http://taizonline.com/news29134.html