حكام اليمن مثل الضباع الجشعة

في المبادئ الأخلاقية يتم تزييف كثير من الوقائع، والثقافة اليمنية تعيش مرضاً مزمناً في مبادئها الأخلاقية، والأفدح هي تلك المفاهيم غير الواقعية التي تنسج الطابع السياسي العام. وبالصورة العامة، لم تكن الحرب في اليمن نتيجة انهيار أخلاقي كما يحلو للبعض، بل هي نتاج رواسب عالقة في نسيج لم يبرح حالة طبقية قديمة، رغم ظهور بعض ملامح التكنولوجيا مثل استخدام الهواتف الذكية. فالصراعات اليمنية حالة تستعيد نفسها في أكثر من دائرة، بدءاً بصراع المركز والهامش، ثم الصراع داخل المركز نفسه، وبالتالي صراعه مع الهامش المتفتت. وهذه الانقسامات تعبد الطريق أمام تدخل الخارج، وفي الحالة الراهنة يحاول المركز استعادة نفسه حول قيادته الجديدة، وهذا ما تفرضه شواهد الحرب.

عبر مئات السنين، فرض المذهب الزيدي نفسه في المنطقة الجبلية الشمالية، وشكلت “سمارة” الفاصل بين ثقافتين مذهبيتين، لماذا لم يحقق انتشاراً في المناطق الجنوبية؟ هل لما يشيعه البعض بأن الأئمة جعلوا تلك المناطق أرض خراج لهم، أو أنها سمة أحاطت بالطابع السياسي؟ فالحدود التي تموضع عليها المذهب الزيدي، أخذت تتشكل على مدى قرون في حدودها الحالية، منذ احتضنته صعدة نهاية القرن التاسع الميلادي 

عبر مئات السنين، فرض المذهب الزيدي نفسه في المنطقة الجبلية الشمالية، وشكلت “سمارة” الفاصل بين ثقافتين مذهبيتين، لماذا لم يحقق انتشاراً في المناطق الجنوبية؟ هل لما يشيعه البعض بأن الأئمة جعلوا تلك المناطق أرض خراج لهم، أو أنها سمة أحاطت بالطابع السياسي؟ فالحدود التي تموضع عليها المذهب الزيدي، أخذت تتشكل على مدى قرون في حدودها الحالية، منذ احتضنته صعدة نهاية القرن التاسع الميلادي، وحتى القرن السادس عشر، مع صراع المطهر شرف الدين، مع الاحتلال العثماني. لتهيمن الزيدية على صنعاء، وتمتد إلى ذمار. وجرى نشر المذهب بالترغيب والترهيب. فمنذ البداية كانت الاستراتيجية توحيد منطقة قبلية تحت المذهب.

 ومع أنها لم تحاول التمدد في مناطق أخرى، وتحديداً في الهضبة الوسطى الزراعية، حاولت أن تشمل البيضاء، لكنها قاومت. لكنها أيضاً حاولت في كثير من المناطق القبلية، ووجدت لنفسها موطئ قدم في صرواح بمأرب، وأجزاء من الجوف. وربما حاولت في بعض المناطق، لكنها واجهت مقاومة كما في البيضاء.

لكن لماذا اختارت هذه المنطقة تحديداً المذهب الزيدي، ورفضته مناطق أخرى؟ وعموماً، أخذ شكل توحيد سياسي، فرض عليه النسيج القبلي خصائصه. لكنه أيضاً لما يحمل في جوانبه من تشجيع على الخروج على الحاكم الظالم، وقابلية أن يكون الإمام من البطنين، شجع كل أشكال التمرد، وانعكس بعدم استقرار حكم الأئمة، ورسوخ شكل مدني في مناطق سيطرتهم. وكانت القبيلة دائماً منجم المقاتلين الذين تشاركهم صراعاتها، على أن القبيلة أيضاً كانت تنتج آلية تمردها في الالتفاف حول إمام جديد.

في اليمن، لا يمكن قراءة الوضع بأنه صراع بين طرف قبلي وآخر متمدن، فمن ناحية لا يوجد كيان مدني قوي، وحتى إن وجد فهو منقسم، واستقطبته الصراعات الحالية، بكل أمراضها العصبوية. في الشعارات الكبيرة تغلب الطابع العصبي أو المناطقي، وحتى القروي، وهذا ما انسحبت عليه طبيعة تشكل الأحزاب. لكنها أيضاً أخذت صوراً متشابكة، وملامح واقعية، تندرج في تحالفات وتصدعات محلية.

وفي اليمن، لا يمكن قراءة الوضع بأنه صراع بين طرف قبلي وآخر متمدن، فمن ناحية لا يوجد كيان مدني قوي، وحتى إن وجد فهو منقسم، واستقطبته الصراعات الحالية، بكل أمراضها العصبوية. في الشعارات الكبيرة تغلب الطابع العصبي أو المناطقي، وحتى القروي، وهذا ما انسحبت عليه طبيعة تشكل الأحزاب. لكنها أيضاً أخذت صوراً متشابكة، وملامح واقعية، تندرج في تحالفات وتصدعات محلية.

وفي تلك الصراعات كان النجاح للعصبية الأقوى، أو للطرف الذي يسيطر على الجيش. إنها قصة الأمس تعاود نفسها بصور مختلفة، أو تشبه ما حدث في السابق.

ففي الجنوب عندما كان الصراع يرفع شعارات أيديولوجية شيوعية، كان التجييش يتخذ طابعاً عصبياً قبلياً أو مناطقياً، وحدوث استثناءات لم يكن مؤثراً في الطابع العام، بمعنى أن الاستثناء يمكن أن يحمل طبيعة تبدل مرحلية، لكنها تظل مهددة بنسيج طاغٍ. وفي تلك الفترة كانت مناطق التمرد المنضوية تحت شعار الجبهة بطابعها الماركسي، في بعض مناطق البيضاء القبلية، واليوم شكلت حاضناً للجماعات السلفية، وربما لتنظيم القاعدة.

خلال الحرب الحالية احتشد اليمنيون في حرب من أجل زوجة الرسول عائشة، وكما أشار زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي، إلى أن مشكلة الأمة معاوية ونظام جبايته. وحرضوا ضد إسلام الروافض وإسلام النواصب، على أنه في فترة سابقة أخذ طابع الحشد السياسي تحريضاً كما لو كان الصراع بين الإسلام والكفر 

وخلال الحرب الحالية احتشد اليمنيون في حرب من أجل زوجة الرسول عائشة، وكما أشار زعيم الحوثيين عبدالملك الحوثي، إلى أن مشكلة الأمة معاوية ونظام جبايته. وحرضوا ضد إسلام الروافض وإسلام النواصب، على أنه في فترة سابقة أخذ طابع الحشد السياسي تحريضاً كما لو كان الصراع بين الإسلام والكفر، ومن وجهة نظر أخرى بين التقدمية والرجعية.

كل المسميات تم رفعها، وخاضوا فيها الحروب، وتدخلت عوامل العاطفة الدينية، غير أن نسيج العصبويات كان العامل الحاسم في كل الصراعات، وهو أيضاً في حالة المركز لم يكن مقتصراً عليه، بل لعب على انقسام الهامش، وإخفاق تلك الحركات.

وعندما نجح الجمهوريون في صد الملكيين وإنهاء حصار السبعين، انقسم المعسكر الجمهوري، وتخلص من القائد العسكري عبدالرقيب عبدالوهاب، الذي كان أداؤه ملحمياً في الحرب ضد الملكيين، وأخذ الصراع طابعاً جهوياً، وبعد قتله تم التمثيل بجثته، وجرها حول المدينة. تعيد الصراعات في اليمن كل الأشكال الوحشية، وتنتج أحقادها الدامية. بعد سنوات تم التخلص من أحمد عبد ربه العواضي.

السمة الأكثر وضوحاً في اليمن، هي تشكل المدن على الاضمحلال نتيجة هيمنة الروح القبلية أو القروية على ملامحها. ولم تكن المدن تحظى بالاستقرار السياسي الذي يساعد على تشكلها، بل هي نتاج غزو الريف لها في الضواحي، وحتى في مراكزها 

والسمة الأكثر وضوحاً في اليمن، هي تشكل المدن على الاضمحلال نتيجة هيمنة الروح القبلية أو القروية على ملامحها. ولم تكن المدن تحظى بالاستقرار السياسي الذي يساعد على تشكلها، بل هي نتاج غزو الريف لها في الضواحي، وحتى في مراكزها.

وكان الانتماء للقبيلة أو القرية هو السمة العامة للمدينة. وربما هو الإفراز الخفي لبعض الأشكال الثقافية الفقيرة. وحتى في الخطاب السياسي، مازالت تلك الروح تطغى على التوجهات والتحيزات.

وفي الواقع، كان المذهب الزيدي عامل توحيد سياسي، وعندما أصبحت الجمهورية تحت سيطرة جيش ورث انتماءه القبلي، غيرت الجمهورية الرداء بعض الشيء، وربما عاد العسكري في رداء القبيلي، أو العكس، وهذا ما تغيرت عليه طبيعة الصراع. وفي الجنوب أيضاً، ستعود قبضة عسكر الضالع ويافع على تشكيلات المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات. وهم وارثو العسكر الذين تغنوا بآمال انتصار الثورة الاشتراكية لتوحيد اليمن وإسقاط عروش الجزيرة العربية. اليوم ينكر بعضهم التاريخ، ولا يعترف حتى بجنوب اليمن كمسمى، ويستبدله بـ”الجنوب العربي”.

وكذلك الطرف الذي كان شريكاً لصالح، وثار عليه، نتيجة تصدع تحالفهما في صراع من أجل السلطة، يحاول استعادة مصالحه في مأرب؛ وكان من نصيب هاشم الأحمر منفذ الوديعة، وهناك عقود أخرى يتقاسمها نافذون هنا وهناك. فالسلطة غنيمة تذيب أطماع القادة اليمنيين، ولا صبر لهم في التعفف من مكاسبها. وفي القرن التاسع عشر باع أحد الأئمة، صنعاء، لإمام ثائر عليه، وتركها، لأنه لم ير بداً في القتال، وفضل ما سيحصل عليه.

في العهد القديم ظهر الصراع في المنطقة الجبلية بين الحميريين في ظفار ريدان، والهمدانيين والبكيليين في صنعاء، على مسمى “ملك سبأ وذو ريدان”. وبعد توحيد الهضبة تحت راية الحميريين، سيطروا على اليمن. غير أن المركز دائماً يخفق نتيجة ما يفرزه من صراع محلي.

وطبيعة الحكام في اليمن تتخذ تنظيماً كما الضباع، وهو ما شاهدته مؤخراً في فيلم وثائقي بثته “ناشونال جيوجرافيك”، حيث تنامت الكراهية داخل مملكة قطيع من الضباع، تحت حاكمته، نتيجة جشعها واستئثارها بمعظم الغنائم، إذ تعمل الضباع كعصابة تخطف جهود الصيادين الآخرين. وعندما تنامت الكراهية داخل القطيع، اعتدى ضبع ناقم عليها. وحتى يؤكدوا تمردهم وخيانتهم، اقتطعوا رأس ابنتها. وهكذا عادت الكلاب الوحشية لتطرد ما تبقى من الضباع، وحددت مملكتها، كانت هي مملكتهم أيضاً، قبل أن يأخذها الضباع. وهذه الدورة الفوضوية هي ما تفرزه عوامل الصراعات، وطبيعة الحكام الجشعين في اليمن. وهكذا ستفكك مملكة ضباع أخرى نتيجة جشعهم.

المصدر: المشاهد

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص