رهاب المنظمات

في الحرب اليمنية التي بدأت نهاية عام 2014 عقب انقلاب الحوثيين، وتوسعت مطلع 2015 بعد تدخل عسكري من تحالف عربي تقوده السعودية، يتم الإشارة إلى طرفي الحرب؛ الحكومة الشرعية المدعومة من السعودية والمتمردين الحوثيين المدعومين من إيران، لكن يتم تجاهل طرف ثالث مدعوم من جهات إقليمية ودولية، يتمثل في منظمات المجتمع المدني التي تعمل كوكيل لجهات خارجية.

إن أسوأ ما أنتجته هذه الحرب هو الارتهان الجمعي اليمني لممول خارجي، سواء كانت الشرعية، أو الحوثي، أو الأحزاب السياسية، أو منظمات المجتمع المدني التي ترى نفسها منزهة عن الارتهان الخارجي على اعتبار أنها لا تأخذ أموالاً من دول الخليج، و اعتقادًا منها أن المال الخليجي ملوث، بينما أموال المؤسسات السياسية الغربية هي أموال نظيفة، وأنه يجب علينا الإنصات والشكر لمنظماتنا كونها تنجز تقارير وبحوثاً تستخف بعقولنا وكأننا تلاميذ صغار لا يحق لنا طرح الأسئلة.

بنظرة خاطفة على مشاريع هذه المنظمات، سواء في الجانب الإنساني أو الحقوقي أو بناء السلام، نجد أنها مشاريع تخضع لشروط الممولين ولا تعبر عن الاحتياجات الفعلية على الواقع، أو نجد مشاريع تستخدم للحصول على المال.

كمثال، تتلقى منظمة "مواطنة" المحلية العاملة في الجانب الحقوقي، تمويلاً سنوياً ضخماً يتجاوز مليوني دولار، نظير العمل في مشروع: "آلية الرصد والتوثيق للانتهاكات الست الجسيمة ضد الأطفال"، وذلك تحت إشراف منظمة الأمم المتحدة للطفولة " يونسيف"، وبتمويل من السعودية.
التمويل السعودي للمشروع لا يعني أن تتوقف المنظمة المنفذة عن نقد السعودية أو مهاجمتها، فالحصول على تمويل سنوي ضخم يرتبط برصد الانتهاكات السعودية ضد الأطفال في اليمن خلال الحرب.

 

تتولى المنظمات المحلية الرصد والتوثيق وإرسال تقرير لمنظمة يونسيف، وهذه بدورها تراجع التقرير الخاص بانتهاكات الأطفال وتضمنه في التقرير السنوي الذي يرفع إلى الأمين العام للأمم المتحدة، وبناءً عليه يتم الإعلان عن قائمة الأطراف المنتهكة أو ما تسمى بـ "القائمة السوداء".

بدأت السعودية بتمويل هذا المشروع سنويا ابتداءً من عام 2017، بعد أشهر من إعلان الأمم المتحدة عن إدراج السعودية ضمن القائمة السنوية السوداء للدول والجماعات المسلحة التي تنتهك حقوق الأطفال في النزاعات، وباتت السعودية تمول مشروعا لرصد الانتهاكات ضدها، لكن في المقابل يتم تبرئتها وإخراجها من القائمة السوداء لقتلة الأطفال.

من التمويل السعودي، تدفع (يونسيف) رواتب موظفيها وتقوم بتغطية النفقات التشغيلية، ومن هذا التمويل تدفع منظمة "مواطنة"، رواتب موظفيها وأجور الفرق الميدانية وتكاليف المواصلات وتغطي النفقات التشغيلية.

ولا تخضع المنظمات غير الحكومية لأي رقابة ديمقراطية، تنشأ في الأساس كنتاج للديمقراطية، لكنها ترفض الامتثال لقواعد الديمقراطية، وأهم قواعد الديمقراطية هي المحاسبة والرقابة الشعبية، أصبحت كل هذه المنظمات لا تخضع لأي رقابة، سوى رقابة الممول، وهو الذي يوجهها تجاه النفع العام أو تجاه أغراض تخص المانح.

تأتي هذه المنظمة أو تلك وتصدر تقارير وفقاً لأجندة معدة سلفاً، بعض هذه الأجندة إنساني فعلاً، وبعضها الآخر سياسي بحت، لكن في النهاية مالكي هذه المنظمات هم يمنيون ولديهم تحيزاتهم ومواقفهم المسبقة وآراؤهم عن هذا الطرف أو ذاك، وهذا الأمر يحتم عليهم الميول نحو هذه الكفة أو تلك مهما حاولوا ادعاء الحياد.

لدى المنظمات اليمنية حساسية مفرطة من النقد وتعتبره ضمن الاصطفاف، رغم أنها ليست مستقلة فعلياً، بل توجِّهها الحكومات أو مؤسسات خارجية، كما هي فريسة للاستقطابات المحلية بسبب ظروف العمل مع الأطراف، حيث تعمل كوكيل لقوى دولية وإقليمية، وهي تدرك أنها لاتستطيع الاستمرارية إلا في ظل هذه الاستقطابات، فحين يقوم الناس بنقد أعمالها تقوم بالرد من خلال اتهام الآخرين بالاستقطاب متناسية أنها مُستقطبة أساساً.

إن أسوأ ما يحدث اليوم هو حجم الرهاب الذي يزرعه ملاك المنظمات في نفوس الناس، فبرغم أنهم مجرد وكلاء لجهات التمويل الخارجية، نرى الزيف والإدعاء في أحاديثهم التي تقول إنهم يقدمون عملاً عظيماً للمجتمع، يطعمونه من جوع ويؤمنونه من خوف.

لماذا يخافون النقد!

بمجرد أن تكشف أخطاءهم المعلوماتية، ستصبح متهماً بأنك تعمل لصالح أطراف سياسية أو قوى إقليمية.. يزرعون فوبيا في نفوس الناس وسيهاجمونك بعنف، لإرهابك عن طرح أي نقد أو انتقاد.
المنظمات توهم الناس بأنها تقدم عملاً مهنياً، لكنها تفتقد المهنية في ردودها على الانتقادات، يتسرعون بإعطاء ردود سياسية مشحونة، دفاعا عن معلومات غير صحيحة أو عن تقارير مسيسة.

لا يقدمون عملاً مهنياً، وبالتالي لا يتعاملون مع الردود بمهنية وإعلاء من شأنها، ويتعاملون بقناعة أن عملهم هو عبارة عن إرسال فقط وليس إرسال وتلقي، وكأنهم مقتنعون أن الناس أغبياء كي يستمروا فقط في تلقي الرسائل منهم دون تمحيص.

هؤلاء العكس، يقدمون لك رسالة سياسية ويضيقون بالنقد ويغضبون بشدة حين تبدي رأيا في أعمالهم.

 

أحدهم كان في بداية الحرب يبحث عن منصب سفير، ورُفض طلبه، وانتعش مركزه البحثي، ومؤخراً عاد إلى صنعاء واستقبله الحوثيون بسيارة مصفحة تم استئجارها من شركة (أرحب)، تجول فيها طوال أيام مكوثه هناك، وأمضى أياماً في مقايل قادة الحوثي الكبار، وتم تدليله آخر دلال، ثم غادر.. لكنه أمام الممولين أحد أعظم مدراء المراكز البحثية وأهم الباحثين المستقلين الذين أنجبتهم اليمن!

يعتاش هؤلاء اليوم على دماء اليمنيين مثلهم مثل السياسيين الذين يرقدون في الرياض وتركيا والأردن والقاهرة وغيرها، ويوهمون الجميع بأنهم مستقلون ونزيهون فقط لأن ممولهم غربي وليس خليجي، بينما في الواقع يتم تمويل المشاريع وفقاً لأجندة سياسية في الأغلب والقليل من الإنسانية لتلميع الصورة.

أفسدوا قواعد اللعبة التي ينطلقون من خلالها، فاليوم مثلا لديك مركز أبحاث يقدم عملاً أو ورقة، أو افتتاحية، فنحن نتعامل معه وفق ما قدمه، فهو مركز أبحاث، وعليه أن يحترم الصفة التي يقدمها للناس، فكيف يقوم مركز أبحاث بطرح آراء سياسية منحازة وغير منطقية لا سيما معلومات خاطئة.

أما مكتب المبعوث الأممي هو الآخر، فيقوم بالعبث بشكل غريب، وأصبح مجرد مكتب علاقات عامة ينسق بين الممولين والمنظمات المحلية، وفقا لما يراه مناسبا للأجندة الدولية الخاصة باليمن، كل هذا في ظل غياب تام لمؤسسات الشرعية وتركيزهم فقط على بقاء الوضع كما هو ليستمروا في مواقعهم وسرقة مايمكن سرقته.

استطاع الحوثيون أن يلزموا كل المنظمات بالعمل وفقا لأجندتهم، ولا يمكن لأي مشروع أن يعمل بدون موافقتهم أو دون إفراغه من مضمونه وتوجيهه سياسياً وحتى مالياً لصالحهم. مقاومة إرهاب هؤلاء، ومتابعة كل ما يكتبون كحق من حقوقنا في الدفاع عن المعلومة أولاً، والدفاع عن حقنا في أن نقرأ عن أنفسنا وعن الواقع ما نراه حقيقياً، أما التزييف والتضليل بات من الماضي، حين كانت التقارير تسلم يداً بيد وتناقش في قاعات مغلقة، فاليوم بات كل شيء أمام العامة، ومن حقهم تفنيد الكذب وشرح الوقائع كما هي.

كافحوا تضليلهم، وحاكموهم بالمعلومة الصحيحة، فهزيمة هؤلاء تتم بالمعلومة وبالرأي المبني على معلومة، وليس بالشتم طبعا.


* المقال خاص بـ"المصدر أونلاين"

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص