كانت الإمامة حلاً بالنسبة للأقيال المتنافسين

تقف اليمن على فجوة تجرها إلى الماضي، وتفرض نفسها على أي مستقبل يمكن حدوثه. في هذا النسق يمكن ردم بعض الفجوات التاريخية في اليمن، من خلال قراءة أحداث العصر، وبالتالي قراءة أزمنة مختلفة بنفس النسق، فالانقسامات الناتئة في اليمن، ظلت العامل الرئيسي للتدخلات الخارجية وإدامة فاعليتها. والأحداث التي أوصلت اليمن لتصبح تحت الاحتلال الحبشي، بصورة ما تعاود حضورها عبر انقسامات فرضت الحرب الحالية، وأفسحت لتدخل الخارج.
وغالباً ما كانت المناطق الساحلية ثغرة لعبور الغزاة، لأن طبيعة السيطرة تقوم على جيوش برية دون أن يكون هناك إيلاء أهمية بمواجهة بحرية، فاليمن عبر تاريخها لم تخض حرباً بحرية حقيقية. هذا الجانب منح أفضلية للأحباش المسنودين ببحرية بيزنطية.

لكن الحضور الحبشي بدأ في القرون الميلادية الأولى، بالسيطرة على الساحل الغربي وصولاً إلى نجران ومناطق عسير، وأسهمت الانقسامات الداخلية في إطالة وجودهم، عبر تحالفات محلية، فتحالفوا مع الهمدانيين لاحتلال ظفار عاصمة الحميريين، ثم حالفوا هؤلاء ضد أولئك، إضافة إلى تحالفهم مع القبائل المحلية هناك. إذ أصبح بالنسبة لهم التواجد الحبشي حماية من الغارات الداخلية القادمة من الهضبة الجبلية.

ولا يمكن أن نشير للأمر على أنه اختلال في الدافع الوطني، فالاحتماء بالأجنبي يوفر امتيازات لزعامات محلية تسلبها القوى الداخلية. وهو ما يحدث مع المجلس الانتقالي، فالخضوع للإمارات يمنحه تلك الامتيازات المسلوبة.
عندما تمكنت مملكة حمير من توحيد اليمن، والتوسع شمالاً في الجزيرة العربية، ظلت مرهونة بالصراعات. فمناطق تهامة ونجران شكلت بؤر تمرد مستمرة، وهذا النزوع جعلها على صلة مستمرة بالحبشة، وربما كان أحد العوامل لانتشار المسيحية فيها. أي أنه شكل من إنتاج هوية مستقلة عن المحيط الداخلي، وخلق صلة عميقة مع حليف خارجي تؤكده وحدة دينية.
ولعل ذلك دفع بالملك الحميري ملك كرب، لاختيار الدين اليهودي، في نهاية القرن الرابع الميلادي، ليكون حاجزاً ضد أي توسع مسيحي، باعتبار أنه تمدد سياسي روماني.. فالاصطدام بروما بدأ عند إرسال حملة عسكرية لغزو اليمن، في 25 ق. م، وفي فترة أبي كرب أسعد، أشهر الملوك الحميريين، ظهرت نزعات تمدد اصطدمت بممالك الشمال العربية المتحالفة مع الروم وفارس. لكنها ربما مع الوقت دفعت الحميريين للتحالف مع فارس. حضور القوى الإقليمية والعالمية مازال حاضراً بصورة أو بأخرى، بنفس الطرق، وإن تغيرت فاعليته وأساليبه، لكن اليمن بعزلتها لم تنجُ من تلك الاستقطابات.
فرضت تلك الظروف على الحكام بناء جيوش من التحالفات القبلية، ولم ينشأ عن تلك العلاقة عملية إذابة أو مواطنة. بل عززت ولاءات مستقلة يمكن أن تختل نتيجة تحول في شكل التحالفات القبلية. وهذا النمط أثبت في اليمن عدم ثباته، وإمكانيته. ولهذا السبب استعان الحميريون بالأعراب، مثل مذحج وكندة وغيرهما، وأسهموا في فتوحاتهم العسكرية داخل اليمن وشمال الجزيرة.

ولعل هذا الحضور أثر في النسيج الاجتماعي، وترك ملامحه على المناطق الحضرية التي تشكلت في السابق. لكن تلك العلاقة ظلت قائمة على ما توفره غنائم الحرب والنفوذ السياسي. ووجدت المجتمعات المحلية نفسها ضحية للمقاتلين السلابة. لم تتغير الصورة، فنزعة الغلبة هي ما تحدد شكل السلطة، وتوفر نفوذاً يمنح أصحابه حق السلب والتمتع بامتيازات إقطاعية.
وهذه العلاقة بين منظومة الحكم والزعامات محكومة دائماً بالتفسخ، فمع ظهور ملك ضعيف يصبح عرشه مطمعاً للزعماء الأقوياء. يمكن أن يتحول اعتماد الحكام في اليمن على الزعامات القبلية، إلى خلق نوع من الندية في العلاقة. حين سُئل الشيخ عبدالله الأحمر ما إن كان علي صالح رئيسه، اجاب: هو رئيسي وأنا شيخه. أراد التأكيد على تلك الندية.

عبر تاريخ اليمن ظل الزعماء القبليون عائقاً أمام تشكل الدولة، إذ إن قوتهم تنشأ عبر إضعاف الحاكم وسلطة الدولة. حين واجه إبراهيم الحمدي تلك القوى، تآمرت ضده.

مع الوقت يتسع الطموح السياسي بالزعماء القبليين. كان الطاهريون قادة عسكريين لآل رسول، حكام اليمن، ومع ضعفهم استقلوا بالحكم، وورثوا دولتهم. عند ظهور ملامح الضعف أو الفوضى، ينقلب الحلفاء، فالعبادلة في لحج كانوا أمراء تابعين للدولة القاسمية، وما إن تضعضعت الدولة نتيجة نزاع الأمراء القاسميين على الحكم، استقلوا بحكم لحج، وأعلنوها سلطنة.
في الحرب الدائرة ظهرت أشكال مماثلة، فضعف الرئيس هادي، وفساد المحيطين به، شجع بعض حلفائه على الاستقلال بالمناطق التي سيطروا عليها، ولم يعد اعترافهم به سوى إجراء صوري. وأصبحت المناطق التي خرجت عن سيطرة الحوثي فرصة لبعض الأطراف السياسية من أجل فرض إمارات مستقلة خاصة بهم. هذا ما حدث في مأرب، وفي جزء من تعز، كما أن العاصمة المؤقتة تحت قبضة المجلس الانتقالي المدعوم من الإمارات، كما هو حال الساحل الغربي. لكن الأذواء القبليين لديهم قابلية في الغرق ببحر أطماعهم، فسقوط الجوف كان نتيجة تطلع سابق لأوانه في خلق إقطاع للعكيمي الذي انقلب على المحافظ السابق، وهو ما سهل للحوثي خوض معاركه عبر تجزئة كل منطقة على حدة. وسيفعل ذلك بالتدريج مع كل التشكيلات التي ترى في نفسها تتمتع باستقلالية خاصة.
لم تتح النقوش الأثرية المكتشفة في اليمن، تعريفنا على حقبة الانحلال الحميري، عام 516 ميلادية، كان الحاكم معد يكرب يعفر، وهذا الملك -بحسب رواية مسيحية- استدان مبلغاً من سيدة مسيحية في نجران، وعجز عن تسديدها، فعفت عن الدين وفوائده. يبدو أن المملكة دخلت في مرحلة شديدة الاضطراب والصراعات، أدت إلى عجز في خزينة الملك استدعاه للاستدانة. حتى وإن كانت الرواية غير صحيحة، فإنها انعكاس لشيء مشابه. لكن من المحتمل أيضاً أنه جرى تحول في عقيدة البلاط الحميري. إذ إنه بعد عامين يظهر نقش كتبه الأذواء اليزنيون، يتحدث عن ملك جديد هو يوسف آسار، دون الوصف التقليدي “ملك سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت وأعرابهم طودا وتهامة”.
والجلي حدوث شقاق ديني واسع، فالملك الجديد، ربما كان من خارج الأسرة الحاكمة، ويشير النقش إلى أنه دخل ظفار وقتل الأحباش الذين فيها، وهدم كنيستها. لكن ما فعله في نجران والمخا وبقبيلة الأشاعر، ربما كانت واحدة من أكثر المجازر أو عمليات التطهير الديني التي شهدتها اليمن في تاريخها. وبحسب النقش تحدث عن قتل 512 ألفاً، وسبي 11 ألفاً. بالطبع هناك مبالغة في الأرقام، كعهد الأزمان القديمة، إلا أنها تعكس الصورة الفادحة للعنف الديني، وما بلغته اليمن من صراع ديني. هنالك أغنية لفيصل علوي، نظر إليها البعض كأنها تتنبأ بأشياء حدثت مؤخراً، لكنها في الحقيقة تنبؤ بماضٍ حدث.
وإشكالية النقوش اليمنية أنها لا تسرد تفاصيل واسعة وتتحدث بعمومية شديدة الاختزال حول أحداث سياسية. والانقسام الديني، كما سبق وتحدثنا، مرتبطة جذوره بصراعات ونزاعات الزعماء المحليين. وأيضاً صورة لتلك العلاقة الملتبسة بين منظومة الحكم ورعاياها.
بعد 7 سنوات من تاريخ ذلك النقش، كُتب نقش آخر، تم العثور عليه في حصن غراب بشبوة، وبتوقيع أحد الزعماء اليزنيين الذي ربما تبقى من الزعماء اليزنيين الذين قادوا حملات يوسف آسار. وفي هذا النقش يتحدث عن تواجد الأحباش بأعداد كبيرة، وقتلهم لملك حمير وأذوائه الحميريين والرحبيين، ويبدو أن العلاقة تغيرت، فهو يتحدث عن عودته في ذلك الوقت من الحبشة. بمعنى أنه ربما كان قد تحالف مع الأحباش ضد ملكه، لكن كتب الأخبار تشير إلى رفض الأذواء القتال إلى جانب الملك الحميري. ليبقى فقط بجانبه الحميريون والرحبيون، أي قبائل الهضبة.
لم تتغير حال اليمن، نفس خارطة التحالفات يمكن إعادتها بأشكال مختلفة، لأنهم أيضاً سيعقدون حلفاً قوياً مع الأحباش بقيادة أبرهة. وسيتبخر حلم القائد اليزني بملك اليمن، أي السميفع أشوع، صاحب النقش الأخير. نحن أيضاً لا نعرف أسباب تخلي الأقيال عن الملك الحميري، هل تصرفاته السيئة، الواضح أنه أيضاً غالى في الاضطهاد بعد ما حققه من انتصارات. أو لأنه لم يرضِ أهواء الأذواء وأطماعهم حين وجد نفسه يحكم خزينة مفلسة، أو لأسباب أخرى. ربما لجأ البيزنطيون والأحباش لإغراء الزعماء القبليين بالأموال والوعود، كان من ضمنها منح الزعيم الأقوى، أي اليزني، ملك اليمن. وظل لعام حاكماً، ثم انقلب عليه القائد الحبشي أبرهة. والأخير استطاع إدارة النزاعات والتنافس بين الزعامات القبلية، ليُحكم قبضته على كل اليمن، وهو ما عجز عنه الفرس لاحقاً.
فعندما ثار زيد بن كبشة في حضرموت، على أبرهة، مع حلفائه من كندة واليزنيين، ذهب أبرهة مدعماً بحلفائه الحميريين والهمدانيين وغيرهم من القبائل، بينها قبائل حضرمية. فالصراعات القبلية أيضاً تفرض شكلاً من الحساسية على الزعامة، وبالنسبة لتلك الزعامات ثورة زيد ستسلب عنهم ما يشتركون به من ندية، وبقاء المحتل أهون عليهم من ذلك. وعندما كان وقتها أبرهة حلاً، أصبح الحاكم الفارسي بالنسبة لقبائل الهضبة، وفي وقت ما أخذت الإمامة حلاً وسطاً، لأن كل قبيلة لا تريد أن تخضع لأخرى. وعندما تصدعت منظومة الحكم، ودارت في فلك قيلي أو قبلي، عادت القبيلة إلى واحد من تلك الحلول التقليدية.

*نقلا عن: "المشاهد"

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص