مسيرة العملة اليمنية

منذ كان الدينار اليمني أغلى من الدولار، والريال يساوي 2.79 دولاراً.. تعرف على ‏مسيرة "العملة اليمنية"

تخوض الحكومة اليمنية معركة استقرار العملة المحلية أمام العملات الأجنبية منذ فترة طويلة، ورغم كل الجهود التي تبذل محليا وبدعم خارجي لايزال وضع الريال اليمني في مهب الريح، ووحده المواطن اليمني من يدفع الثمن.

هرولة الريال أمام النقد الأجنبي ليست وليدة اللحظة ولكنها الهرولة العظمى، فمنذ عقود والريال في تدهور مستمر مع بعض محطات توقف، وتظل الجهود الرسمية مجرد مسكنات، لأن غياب الاستقرار السياسي ينعكس سلبا على العملة الوطنية، وهذا ما تؤكده مسيرة الريال أثناء تتبع "المصدر أونلاين" لتأريخه.

 التاريخ يتكلم

كان اليمن الحديث شطرين، أحدهما في الجنوب، وكان يرزح تحت الاحتلال البريطاني، وبعد ثورة 14 أكتوبر/تشرين الأول 1963م، قررت السلطة الحاكمة وضع الدينار اليمني في التداول كأول عملة وطنية خاصة بالشطر الجنوبي، وذلك في أبريل/نيسان 1965م.

كان سعر الدينار اليمني يساوي نحو 2.89 دولارا أمريكيا، وظل محافظا على سعره طوال عهد رؤساء الجنوب اليمني (قحطان الشعبي، وسالم ربيع علي، وعبدالفتاح إسماعيل، وعلي ناصر محمد، وعلي سالم البيض).

وهناك أسباب حافظت على ثبات سعر الدينار اليمني، ومنها عدم ربط الدينار بالدولار، فقد كانت الفضة هي الضمان لقيمة الدينار، بالإضافة إلى احتكار الدولة للاقتصاد وفق النظرية الاشتراكية التي حكم بها الجنوب.

حافظ الدينار على قيمته، وبعد قيام الوحدة اليمنية في مايو/آيار 1990م، أعتمد الدينار للتداول بجانب الريال، وكان يساوي 26 ريالا، وفي 1996م سحب الدينار من التداول، وأصبح الريال عملة اليمن الوحيدة منذ يونيو/حزيران 1996م، وحتى اليوم.

 

بينما كان الشطر الشمالي من اليمن، يرزح تحت حكم الإمامة، وجاءت ثورة 26 سبتمبر/أيلول 1962م لتنتشل الشعب من عصر الظلام، وفي أواخر 1963م قامت وزارة الخزانة آنذاك بصك الريال كأول عملة وطنية.

كان الدولار الأمريكي يساوي 2.79 ريالا يمنيا، وكانت البلاد تعيش حربا بين الجمهوريين والملكيين، وذلك في عهد أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية المشير عبدالله السلال الذي حكم اليمن الشمالي بعد ثورة سبتمبر/أيلول إلى نوفمبر/تشرين الثاني 1967م.

جاء انقلاب 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1967م ضد المشير السلال، وتشكل المجلس الجمهوري برئاسة القاضي عبدالرحمن الإرياني، واشتهرت فترة حكمه بضعف الدولة وتغول قوى النفوذ والفساد.

استغلت فلول الإمامة الوضع وكثفت أنشطتها وسيطرت على محافظات، ووصلت إلى مشارف صنعاء وحاصرتها سبعين يوما، وفقد الريال اليمني قرابة نصف قيمته، وأصبح الدولار يساوي 4.56 ريالا في عهد الإرياني الذي استمر حتى يونيو/حزيران 1974م.

قامت ثورة تصحيحية في 13 يونيو/حزيران 1974، وجاء الرئيس إبراهيم الحمدي إلى رئاسة الدولة، وخلال فترة حكمه التي يصفها البعض بالذهبية حافظ الريال على قيمته، حيث ظل سعره ثابتا عند 4.56 ريالا أمام الدولار الواحد، واستمر كذلك في عهد الحمدي الذي اغتيل في 11 أكتوبر/تشرين الأول 1977م.

صعد إلى السلطة الرئيس أحمد الغشمي بعد اغتيال الحمدي، وفترة حكمه قصيرة، حيث حكم من أكتوبر/تشرين الأول 1977م وحتى اغتياله بحقيبة مفخخة في يونيو/حزيران 1978م، وظل سعر الدولار الواحد ثابتا في عهده عند 4.56 ريالا.

 عهد فاسد

قفز علي عبدالله صالح إلى السلطة في يوليو/تموز 1978م، وسعر الدولار الواحد يساوي 4.56 ريالا، وهو السعر الذي حافظ عليه أسلافه الثلاثة (الإرياني والحمدي والغشمي).

اتسم عهد الرئيس صالح بالفساد، وبدأ مسلسل انهيار الريال من جديد، ففي 1985م أصبح سعر الدولار الواحد يساوي 8 ريالا، والملفت أن هذا الانهيار في العملة جاء بعد أشهر من تدشين صالح أول بئر إنتاجية للنفط من مأرب.

أصبح الدولار الأمريكي يساوي 9.76 ريالا في 1988م، وقامت الوحدة اليمنية بين جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية والجمهورية العربية اليمنية في مايو/آيار 1990م وسعر الدولار يساوي 12.01 ريالا.

بعد الوحدة، أصبح صالح رئيسا لمجلس الرئاسة، وجرى تثبيت سعر الريال شكليا، فقد كان السعر الرسمي للدولار الواحد يساوي 12.01 ريالا، لكن البنك المركزي اليمني لا يبيع بهذا السعر إلا بأوامر عليا لمجموعة محدودة، وأقر رئيس الوزراء حينها حيدر العطاس، أن الوضع المالي يزداد تدهوراً.

تصاعد الخلاف بين شركاء الوحدة (الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام)، وانعكس ذلك سلباً على سعر العملة طوال فترة الائتلاف القائم بينهما، حيث كان سعر الدولار الواحد بالسوق يساوي 17.5 ريالا في 1990م، وفي 1991م يساوي 29.7 ريالاً، و42.7 ريالاً في 1993م.

اندلعت حرب صيف 1994م بين شركاء الوحدة، ودخلت اليمن عصرا جديدا من انهيار العملة بسبب الخسائر التي تسببت فيها الحرب وما تبعها في سنوات لاحقة من استفراد حزب المؤتمر الشعبي العام برئاسة صالح بالمشهد السياسي، والذي عمد إلى إجراء تعديلات دستورية لصالحه كطرف منتصر.

انتخب مجلس النواب صالح كأول رئيس للجمهورية اليمنية في هذا العام، وبعد أدائه اليمين الدستورية ألقى كلمة قال فيها إنه سيركز خلال المرحلة القادمة على "الاهتمام بالإصلاح المالي والإداري وإحداث تنمية اقتصادية واستئصال الفاسدين والمفسدين"، فارتفع سعر الدولار إلى 103 ريالا.

بدأت العقلية الشمولية تنمو والعملة الوطنية تضعف، ففي 1995م كان الدولار يساوي 115 ريالاً في السوق، وفي يوليو/تموز 1996م تم تعويم سعر الريال اليمني، وكان سعر الدولار في السوق يساوي 135 ريالاً، وظل هذا السعر ثابتاً لثلاثة أعوام متتالية (1996-1997-1998).

وتعويم العملة مصطلح اقتصادي يعني تحرير العملة بشكل كامل، ووحده العرض والطلب من يحدد سعرها في السوق، ولا تتدخل الحكومة أو البنك المركزي بصورة مباشرة.

جرت انتخابات رئاسية مباشرة شكلية لتمكين صالح في 1999م، ووصل سعر الدولار أمام الريال إلى 147 ريالا، وفي 2000م وصل إلى 152 ريالاً، وإلى 165 ريالاً في 2001م، وفي هذا العام حصل صالح على صلاحيات واسعة بموجب تعديلات دستورية، ومددت فترة رئيس الجمهورية من خمس إلى سبع سنوات.

في 2002م وصل سعر الدولار إلى 176 ريالاً، وفي 2003م إلى 178 ريالاً، وكانت اليمن تصنف حينها من أكثر دول العالم فساداً، وفي 2004م وصل الدولار إلى 184 ريالا، وفي هذا العام بدأت أول حرب قادها صالح ضد جماعة الحوثي المتمردة في محافظة صعدة.

وصل سعر الدولار الواحد إلى 192.5 ريالاً في 2005م، وإلى 200.5 ريالاً في 2006م، وفي هذا العام أعلن صالح عدم ترشيح نفسه لرئاسة الجمهورية، وقال إنه لن يترشح ولن يقبل ترشيحه، وسيسلم السلطة لمن يريد أن يتحمل المسؤولية.

وطالب صالح حزبه بترشيح بديل، وانتهى المطاف بعدوله عن قراره بمسرحية هزلية في ميدان السبعين بصنعاء بعنوان "إنني معكم"، وحدثت منافسة فعلية إثر نزول المعارضة اليمنية بقيادة حزب الإصلاح بمرشح منافس ونزيه وهو المهندس الراحل فيصل بن شملان.

في 2007م وصل سعر الدولار الأمريكي الواحد إلى 198 ريالاً يمنياً، وكانت التقارير الدولية يومها تقول إن اليمن على حافة الانهيار، وفي 2008م وصل الدولار إلى 200 ريالا، وفي 2009م إلى 206 ريالاً.

ارتفع سعر الدولار في 2010م إلى 213 ريالاً، وفي 2011م إلى 242 ريالاً، وكانت مؤشرات البطالة والفقر والفساد مرتفعة جداً، وفي هذا العام قامت ثورة 11 فبراير/شباط الشعبية ضد نظام صالح الذي طال عهده، واضطر صالح لتسليم السلطة وسعر الدولار 242 ريالا بعد أن تسلمها قبل 33 عاماً وكان سعر الدولار حينها 4.56 ريالاً.

 ثورة التغيير

شكلت ثورة 11 فبراير/شباط 2011م بارقة أمل لليمنيين في تحقيق حياة أفضل، وبناءً على المبادرة الخليجية تشكلت حكومة الوفاق الوطني مناصفة بين الخصوم السياسيين برئاسة محمد سالم باسندوة في ديسمبر/كانون أول 2011م.

وفي فبراير/شباط 2012م، أنتخب الرئيس عبدربه منصور هادي كثاني رئيس للجمهورية اليمنية، لتبدأ مرحلة جديدة وسط تطلعات سقفها السماء، ورغم التحديات إلا أن اليمن شهدت استقراراً ممزوجا بالتفاؤل، واستقر سعر الريال خلال ثلاثة أعوام متتالية (2012- 2013-2014)، حيث ظل الدولار يساوي 215 ريالاً وسط توقعات اقتصادية بتحسن قادم للريال.

وبسبب هذا الإستقرار المتنامي، أقر البنك المركزي اليمني في فبراير/شباط 2013م خفض معدل الفائدة الأساس من 20 إلى 18% بناء على التطورات الإيجابية للمؤشرات الاقتصادية، كخطوة من شأنها خفض كلفة تمويل أنشطة القطاع الخاص والنشاط الاقتصادي بشكل عام.

وقال محافظ البنك المركزي حينها محمد بن همام، إن القرار جاء في ظل تراجع إيجابي في مؤشرات التضخم بفعل الإستقرار الاقتصادي، فضلاً عن ارتفاع احتياطيات اليمن من النقد الأجنبي إلى ستة مليارات و200 مليون دولار بنهاية سبتمبر/أيلول 2012م مقارنة مع أربعة مليارات و500 مليون دولار بنهاية 2011م.
 

وفي خضم هذه المؤشرات الإيجابية وقعت الكارثة العظمى، حيث جاء انقلاب جماعة الحوثي المسلحة على الشرعية اليمنية في سبتمبر/أيلول 2014م، كطعنة غادرة لليمن عموماً والاقتصاد الوطني بشكل خاص، وبدأ مسلسل انهيار العملة بشكل غير مسبوق.

 النشاط الحوثي

عبثت جماعة الحوثي بالاحتياطي النقدي، ونهبت نحو 5.2 مليارات دولار، إضافة إلى ترليون ريال يمني، بحسب التصريحات الرسمية. وفي سبتمبر/أيلول 2016م، استيقظ الرئيس هادي وأصدر قراراً جمهورياً بنقل البنك المركزي من صنعاء إلى العاصمة المؤقتة عدن، وتعيين منصر القعيطي محافظاً للبنك.

لم تحقق القيادة الجديدة للبنك شيئاً يذكر، وظل قرار نقل البنك حبراً على ورق، ومعظم الإيرادات تصب في بنك صنعاء الذي تديره جماعة الحوثيين والتي استغلت قرار النقل للتنصل من كل التزاماتها المالية بما في ذلك رواتب الموظفين، وتفرغت لتمويل الحرب التي تديرها لتثبيت الإنقلاب كأمر واقع.

استمر سعر العملة المحلية بالانخفاض خلال الأعوام (2015-2016-2017) ووصل سعر الدولار إلى 480 ريالا، ومطلع 2018م قفز سعر الدولار إلى 510 ريالا، وأمام هذا الانهيار الكبير الذي ينعكس سلبا على حياة اليمنيين في ظل أوضاع إنسانية متدهورة، ناشدت الحكومة اليمنية، دول التحالف العربي التدخل.

نشر رئيس الوزراء السابق أحمد بن دغر، مقالا في 16 يناير/كانون الثاني 2018م، خاطب فيه دول التحالف قائلا: "إن كانت هناك من مصالح مشتركة بين الحلفاء ينبغي الحفاظ عليها، ترقى إلى مستوى الأهداف النبيلة لعاصفة الحزم، فإن أولها وفي أساسها إنقاذ الريال اليمني من الانهيار التام، الآن وليس غدا".

ولوح بن دغر بتقديم الاستقالة، قائلا: "فإن كان لدى الأشقاء من ملاحظات حول أداء البنك المركزي أو الحكومة فإنني أقولها بوضوح لفخامة الأخ الرئيس، الشعب اليمني أبقى، وإنقاذ اقتصاد ينهار أولى". وقد تضمن كلام بن دغر إشارة واضحة إلى وجود تحفظات على إدارة البنك وقيادة الحكومة.

وفي اليوم التالي من مناشدة الحكومة اليمنية، وجه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز، بإيداع مبلغ ملياري دولار أمريكي كوديعة في حساب البنك المركزي اليمني، وهي الدولة الوحيدة التي دعمت البنك المركزي ماليا.

وفور إعلان خبر الوديعة السعودية رسمياً، تحسن سعر الريال اليمني مباشرة أمام العملات الأجنبية، وأصبح سعر الدولار الأمريكي الواحد يساوي 410 ريالا يمنيا بعد وصوله إلى 510 ريالا.

 العامل الخارجي

لم يتم تفعيل الوديعة السعودية وسط تذمر سعودي إماراتي من حكومة بن دغر وقيادة البنك لأسباب لا زالت غامضة، فعاد الريال للإنخفاض مجدداً، وفي فبراير/شباط 2018م أصدر الرئيس هادي قراراً جمهورياً بتعيين محمد زمام محافظاً للبنك المركزي كخطوة أولى لإرضاء الخارج.

جاء القرار مفاجئاً، فالرئيس هادي سبق أن أقال زمام من منصبه كوزير للمالية بقرار جمهوري في يونيو/حزيران 2015م لتورطه بالعمل مع الحوثيين بعد اقتحام صنعاء رغم استقالة حكومة خالد بحاح حينها، لكن ترحيب السفير السعودي لدى اليمن محمد آل جابر، بقرار تعيين زمام بعد دقائق من إعلانه أزال بعض الغموض.

قيل إن تعيين زمام جاء بناءً على توصية خارجية تمهيداً لتوحيد البنك المركزي بسبب علاقة زمام الجيدة مع الحوثيين، وقد رحب القيادي الحوثي محمد العماد بالقرار، وقال على صفحته في الفيسبوك: "أعتقد أن تعيين زمام تم بالتوافق بين صنعاء وعدن، والرجل محل احترام بين الطرفين".

ورغم ذلك ظل الريال اليمني يهرول أمام العملات الأجنبية، وظلت الحكومة تعقد اجتماعات متتالية وتتخذ قرارات في الهواء، ومحافظ البنك الجديد يستعرض أمام وسائل الإعلام حول خططه المستقبلية.

شكل الرئيس هادي، في سبتمبر/أيلول الماضي، لجنة اقتصادية برئاسة حافظ معياد، وهو أحد رجالات الرئيس الراحل صالح، لكن اللجنة الاقتصادية أدركت مبكراً أن مهمتها صعبة في ظل تعقيدات محلية وخارجية.

وللتنصل من المسؤولية، خرج معياد بعد أيام من تعيينه، للرد على ارتفاع الدولار المتصاعد، بالقول إن مهام اللجنة الاقتصادية هو تقديم الرأي وليست مخولة قانوناً بالتنفيذ، مضيفا: "محافظ البنك المركزي هو المعني قانونا بذلك، ونحن جاهزون لمساعدته عند الحاجة".

وفجأة وخلال أيام معدودة في شهر سبتمبر/ أيلول من العام الماضي 2018  ليصل إلى 800 ريالاً، وهو رقم غير مسبوق، وأمام استمرار توقيف تصدير النفط والغاز وتعطيل المنافذ البحرية والجوية وإعاقة الحكومة عن العودة إى العاصمة المؤقتة عدن لممارسة مهامها وجدت الحكومة برئاسة أحمد عبيد بن دغر نفسها عاجزة عن إيقاف هذا التدهور المخيف للعملة، وفي أكتوبر/تشرين الأول 2018م صدر قرار جمهوري بتعيين معين عبدالملك رئيساً للحكومة، ربما لسد ذريعة الخارج، فحدثت انفراجة لن تطول برأي مراقبين.

غزوة الدولار

رافق تعيين معين عبدالملك رئيساً للوزراء خطوات إيجابية مثل وصول أول باخرة سعودية إلى عدن محملة بالشحنة الأولى من منحة المشتقات النفطية السعودية بقيمة 60 مليون دولار. وكذلك سحب الدفعة الأولى من الوديعة السعودية لتغطية الإعتمادات البنكية للمواد الأساسية بمبلغ وقدره 20 مليون و428 ألف دولار.

وبدت الإمارات شبه راضية عن تعيين عبدالملك، وانعكس ذلك في عدم قيام ما يسمى بالمجلس الانتقالي الجنوبي بأي خطوات تصعيدية ضده حتى اللحظة، بل جرى استقباله في مطار عدن، والسماح له مع عدد من الوزراء بالبقاء في العاصمة المؤقتة عدن لممارسة مهامهم بعد أن تعهد رئيس الوزراء الجديد في تصريح شهير له بعدم التدخل في السياسة.

وغيرها مؤشرات ايجابية كانت لا بد أن تنعكس إيجاباً على استقرار العملة المحلية، لكن لوبياً خفياً استغل هذه اللحظة لتنفيذ "غزوة الدولار"، بهدف شراء أكبر قدر من العملة الصعبة بسعر زهيد، فحدثت مسرحية الانهيار المتواصل للعملات الأجنبية أمام الريال، وشارك الإعلام في ذلك بحسن نية.
 

كان تعافي الريال يتم على رأس الساعة وبصورة غير منطقية، فمهما كانت المؤشرات الايجابية فإن التحسن يفترض أن يكون تدريجياً، ولهذا وصف رئيس الغرفة التجارية والصناعية في عدن أبو بكر عبيد ما حدث في سوق الصرف بأنه "أمر خارج عن سياق الوضع الاقتصادي وغير مفهوم ويصعب تفسيره".

أراد اللوبي جر البنك المركزي إلى خفض سعر الدولار أمام الريال إلى أقصى حد ممكن ليتمكن من شفط الوديعة السعودية ومدخرات المواطنين من العملات الأجنبية وشراءها بسعر الملح، وأخطأ البنك بمجاراة السوق، والأصل العكس.
 

ظنت قيادة البنك المركزي بأنها تحقق انجازات فلكية، وقامت بتعديل متلاحقة لسعر الصرف إلى درجة تعديله أربع مرات خلال شهر واحد، وكانت المفاجأة أن سعر الصرف في السوق صار أقل من السعر الرسمي مما يؤكد وجود مضاربة عكسية، فحتى الدول النفطية لا يحدث فيها انخفاض في قيمة الدولار أقل من السعر الرسمي، فكيف في بلد يعيش حرباً منذ سنوات؟

وصف مدير البنك المركزي اليمني فرع تعز معاذ البركاني ما جرى بالحرب الاقتصادية التي توازي الحرب العسكرية والإعلامية والسياسية، مؤكداً في حوار خاص مع «المصدر أونلاين» أن "هناك حيتان وهوامير في سوق الصرافة يتلاعبون بسعر الصرف".
 

واستغرب من تراجع سعر الصرف أكثر من 100 ريال للدولار بعد إعلان السعودية مؤخراً دعم البنك المركزي بمبلغ 200 مليون دولار، ولا زال الأمر مجرد عنوان في شريط الأخبار، وليس مودعاً في حساب البنك، ولم يدخل سوق التداول".

وأكد البركاني أن "العملية كذب"، واستطرد قائلا: تدخل البنك المركزي في عدن لتثبيت الدولار عند سعر 520 ريال، فانخفض الدولار إلى 300 ريال، هل يعقل أن ينزل سعر السوق السوداء إلى ما دون سعر البنك المركزي بفارق كبير؟
 

هذا النزول كشف بعض خيوط اللعبة، فخرج زمام بتصريح صحفي قال فيه "إن السعر العادل للريال اليمني مقابل الدولار هو 450 ريالا للدولار و120 ريالا للريال السعودي"، وفي ديسمبر/ كانون الأول الماضي تم تثبيت سعر صرف الدولار عند 440 ريالاً للبيع للتجار.

وفي بيان لها، قالت نقابة صرافين عدن، إنه جرى الاتفاق مع البنك المركزي اليمني والجهات المختصة على تحديد أسعار الصرف 480 للدولار الأمريكي، و127 للريال السعودي.
 

انكشفت اللعبة، وبدأ سعر الدولار يرتفع مجدداً ولكن بفارق معقول عن السعر الرسمي، حيث تراوح سعر الدولار حتى منتصف شهر يناير/كانون الثاني الجاري ما بين 520 و530 ريالاً، وهو السعر الذي يراه خبراء اقتصاد دون السعر الحقيقي، ويؤكدون بأن الانخفاض الذي حدث الأشهر الماضية هش.

وما يؤكد صحة طرحهم هو عودة الدولار للارتفاع مجدداً الأيام الماضية، واضطرار البنك المركزي للتدخل عبر البيع المباشر، وكان خبراء اقتصاد قد طالبوا البنك المركزي بتثبيت سعر العملة أولاً، وتحسين سعر الصرف تدريجيا بعد تقييم وتحديد السعر الطبيعي للعملة.
 

الثمن الحقيقي

وجود شح في العملة الأجنبية في اليمن أمر طبيعي نتيجة الانقلاب والحرب وتعطيل للموارد المتاحة في المناطق الخاضعة نظرياً لسيطرة الحكومة الشرعية، ومما فاقم المشكلة وجود لوبي يلعب بالسوق، ومن أجل استنزاف أكبر لمدخرات الناس عمدت شركات الصرافة مؤخراً إلى شراء الدولار طبعة 2006 بسعر ناقص عن الطبعات الحديثة رغم تعميم البنك المركزي بقبولها ومعاقبة المخالفين.

وتشتري محلات الصرافة في صنعاء الدولار القديم بنفس سعر الطبعات الجديدة ولكن بعملة تالفة من فئة خمسين ريالا للتحايل على قرار البنك المركزي، بينما شراء الطبعات الحديثة يتم بعملة جديدة من فئة ألف ريال، ويتم رفض أي دولار قديم فيه خدش بسيط أو تعرض للعطف إلا بسعر ناقص.
 

الدولار عبارة عن سلعة لها ثمن حقيقي، وبيعه بسعر أعلى جريمة لأن الضرر يطال عامة الناس في ظل أوضاع صعبة، والبيع دون السعر الحقيقي فيه ضرر أيضا، ولا يخلو من فساد ومضاربة، وهذا ما كشفته رسالة حديثة للجنة الاقتصادية موجهة إلى رئيس الوزراء.

قالت الرسالة إن فوارق المضاربة بسعر الريال وصلت إلى ٩ مليارات ريال خلال شهر، وقد وجه رئيس الحكومة معين عبدالملك، الجهاز المركزي للرقابة والمحاسبة بمراجعة وفحص تقارير البنك المركزي اليمني إثر هذه الفضيحة.
 

الانخفاض السريع أضر بشريحة من المواطنين لأن أسعار السلع لم تشهد انخفاضا فعليا، وهذا ما ذهب إليه وزير المالية الأسبق د. سيف العسلي، بالقول إن "الآثار السلبية لتخفيض سعر الصرف أكثر من الآثار السلبية لارتفاعه، ولا بد من استقراره لما لا يقل عن 6 أشهر عند أي سعر ليكون الأمر مقبولا".

وأضاف في تغريدة له: "إنني على ثقة بأن ما يجري للريال اليمني شيء لا علاقة له بالاقتصاد ولا بالسياسة، إنما هو عذاب من الله، هذه اللعبة لن تستمر طويلا وسيعود الدولار إلى وضعه الطبيعي، أي ما بين 700 وألف ريال يمني".
 

وهذا ما قاله أيضا وكيل الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارك لوكوك، حيث قال مؤخرا: "بدون تدخلات، يرجح صندوق النقد انخفاض سعر الريال مرة أخرى إلى أكثر من 700 ريال للدولار هذا العام".

والحكومة اليمنية أول المتضررين من هذا الانخفاض كونها باعت عملة صعبة بسعر دون سعرها الحقيقي ولم ينعكس ذلك على أسعار السلع. ومن المتضررين أيضا مواطنون لديهم مدخرات بسيطة، وشريحة هامة تعتمد عليها معظم الأسر اليمنية وهم المغتربون، حيث اضطروا إلى بيع عملة أجنبية بسعر زهيد.
 

وفي حديث لـ "المصدر أونلاين"، قال المغترب محمد العديني: "كنت اصرف مئة ريال سعودي بعشرين ألف ريال يمني واشتري بها 17 كيلو أرز نوعية جيدة، وفي لحظة اضطررت لصرف المئة الريال السعودي بثمانية آلاف ريال يمني واشتريت بها 9 كيلو أرز من نفس النوعية، وهذا ظلم كبير لنا".

المستفيدون هم التجار لأنهم حصلوا على عملة صعبة بسعر رخيص بينما أسعار سلعهم لم تشهد انخفاضاً فعلياً، واستفادت محلات الصرافة كونها اشترت عملة صعبة بسعر زهيد وبيعها لاحقاً بفارق مهول، واستفاد بعض المسئولين عمولات من رجال أعمال، بحسب مصادر خاصة لـ"المصدر أونلاين".
 

كما استفادت جماعة الحوثي من الانخفاض المفاجئ للعملات الصعبة، حيث استغلت العملية وقامت بحملات ميدانية ضد رجال المال والأعمال ونهبهم ملايين الريالات بدعوى مخالفات وعدم تخفيض الأسعار.

حرب اقتصادية

انخفاض مؤقت وغير مستدام وقد يشهد الريال انهياراً قادماً وسيكون له تداعيات أسوأ من السابق، وبحسب رئيس مركز الإعلام الاقتصادي مصطفى نصر، فإن "هذا التحسن يبقى مؤقتاً وغير قابل للديمومة ما لم يتم إيجاد مصادر مستدامة لتمويل احتياجات البلد من العملة الصعبة".

وحتى يكون التحسن مستداماً لا بد من توفر عدة شروط يصعب توفرها على المدى القصير والمتوسط، ومنها تدفق الودائع الخليجية، وضمان تصدير النفط والغاز كونها المصدر الرئيس للحكومة اليمنية من العملة الصعبة، وتوحيد البنك المركزي.
 

الدعم الخليجي لن يطول، والدعم المقدم من دول مانحة زهيد ولا يكفي لتغطية اعتماد تاجر كبير، وثمة عقبات لا زالت تحول دون تصدير النفط والغاز، ولن تقبل جماعة الحوثي بتوحيد البنك المركزي وتوريد الإيرادات إلى عدن، ولا أفق لحل سياسي قريب، وسوق يسوده  الفوضى والانفلات.

يؤكد الخبير المالي والاقتصادي وعضو اللجنة الاقتصادية أحمد غالب، أن الوديعة السعودية لن تصمد طويلا أمام متطلباتنا ونفقاتنا الحتمية من العملات الأجنبية، وأن الجهود لن تكون مثمرة إذا بقي البنك المركزي شطراً في صنعاء وآخر في عدن، والمؤسسات المالية منقسمة.
 

وإجمالي ما تم سحبه من الوديعة السعودية لتغطية الاعتمادات المستندية حتى نهاية الشهر الجاري 441 مليون دولار أمريكي، بحسب التصريحات الرسمية.

ويرى غالب في منشور له بصفحته في "فيسبوك"، أن "الأجدى والأسلم هو التدخل بشكل مباشر ببيع العملة للبنوك المستوردة والممولة لاستيراد السلع الأساسية عن طريق المزايدة وبآليات شفافة تفاديا لأي عمليات فساد تصاحب هذا التدخل كتحديد سعر لا يعكس قيمته السوقية وغير قابل للاستمرار".
 

بينما يؤكد محافظ البنك المركزي محمد زمام، أن الانخفاض الأخير جاء نتيجة إصلاحات نقدية، ومنها رفع أسعار الفائدة إلى 28%، ويعول على وعود خارجية غير مضمونة، ومنها ودائع بقيمة 3 مليارات دولار.

وكذلك اعتزام الأمم المتحدة تنظيم مؤتمر دولي لمساعدة اليمن في مطلع شهر فبراير القادم، وموافقة الأمم المتحدة على تحويل جميع المبالغ من المنظمات الدولية عبر البنك المركزي اليمني، حد قوله هذا الأسبوع.
 

ويؤكد أن التعافي سيكون مستقرا ومستداما، "شريطة أن تتخذ بعض الإجراءات في الداخل والخارج"، ويطالب في نفس الوقت بدعم دولي للحفاظ على تحسن سعر صرف العملة المحلية، ويعترف أيضا بوجود إشكالية في النقدية.

ويذهب زمام بعيدا بالحديث عن إنشاء مركز عدن المالي، "يحوي المقر الجديد للبنك المركزي ومراكز البنوك التجارية وشركات التأمين وشركات الصرافة، وفق أحدث المخططات وبأفضل الوسائل الأمنية والتكنولوجية المتاحة".
 

لكن السوق يحكمه العرض والطلب وليس الوعود الحكومية، وسعر صرف الدولار أصبح يساوي 560 ريالا أثناء كتابة هذا التقرير بعد أيام من ارتفاعه إلى 600 ريالا، فهل يشهد سوق الصرف استقراراً في 2019م، أم أن الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت، و"كأنك يا غازي ما غزيت"؟