مدينة في قلب الصحراء

مدينة في الصحراء.. لماذا تتخلى مصر عن عاصمتها التاريخية؟

منذ عام 2950 قبل الميلاد، قام الفراعنة والسلاطين والملوك في مصر بتحريك عاصمة البلاد 25 مرة، في محاولة منهم لنقل الحكومة، وتحقيق التوازن بين الديناميكيات السياسية المتغيرة، أو ببساطة للتباهي بسلطتهم كقادة تحويليين ومجددين.

والآن، بعد 23 قرنا من نقل الإسكندر الأكبر لعاصمة مصر من ممفيس إلى الإسكندرية في الشمال، يشرف الرئيس السلطوي "عبدالفتاح السيسي" على بناء مركز إداري وطني ضخم، بقيمة 45 مليار دولار في الصحراء، على بعد 50 ميلا من وسط القاهرة.

ويصف المنتقدون "العاصمة الإدارية الجديدة" بأنها مبنية للفخامة والاستعراض وغير قابلة للاستدامة، لكن الحكومة تقول إن القاهرة المكتظة بكثافة لم تعد تصلح كمقر للحكومة، وأن بناء العاصمة الجديدة ساعد في دفع معدل البطالة إلى أقل من 10%، وهذا هو أدنى معدل للبطالة منذ عام 2011، عندما أطاحت ثورة شعبية بالرئيس "حسني مبارك"، وأطلقت سلسلة الأحداث التي وضعت "السيسي" على الطريق إلى الرئاسة.

وقال رئيس مجموعة شركات "كولدويل بانكر" في مصر "محمد عبدالله"، : "إن البنية التحتية في القاهرة قديمة حقا، ولدى الحكومة خياران. إما إصلاح مصارف المياه القديمة والنقل وأنظمة أخرى في مدينة عمرها ألتايمز

، أو البدء في بناء شيء يمكن أن يستوعب النمو ويجعلنا قادرين على المنافسة مع بقية العالم".

ويرتفع عدد سكان مصر بمعدل مذهل يبلغ 2.5% سنويا، حيث يزيد بأكثر من 2.5 مليون شخص سنويا. ويعني هذا أن هذه الدولة، التي يبلغ عدد سكانها 101 مليون نسمة، يجب أن تجد أماكن إقامة وتعليم وفرص عمل كل عام لعدد مماثل لسكان "هيوستن" تقريبا.

ومن المرجح أن تضع قوة النمو السكاني في مصر البلاد بقوة في أكبر 10 اقتصادات في العالم بحلول عام 2030، وفقا لمسح أجراه بنك "ستاندرد تشارترد" في يناير/كانون الثاني.

وفي الوقت نفسه، يكلف ازدحام المرور في القاهرة وحدها 3.6% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي، وفقا للبنك الدولي. ووجد تقرير الأمم المتحدة عن تنمية المياه في العالم أن 35% من مياه المدينة تتسرب من الأنابيب المتداعية.

دوافع سياسية

ويعتبر نقل مركز السلطة خطوة مفضلة للحكومات التي تبحث عن حل لمشاكل سياسية أخرى.

ونقلت نيجيريا عاصمتها من لاغوس إلى أبوجا في تسعينيات القرن الماضي، لنقلها لتكون أقرب إلى الخط الفاصل بين المجتمعات المسيحية والمسلمة في البلاد. وتقع نايبيداو، عاصمة ميانمار، في موقع مركزي أكثر من العاصمة القديمة، يانجون، ويسهل على المجلس العسكري الحاكم في البلاد السيطرة عليها.

لكن التحول من القاهرة إلى الموقع الجديد يثير مزيدا من الاستقطاب والانقسام في مصر.

وقال مدير التخطيط الحضري في القاهرة "ديفيد سيمز"، لصحيفة وول ستريت جورنال عند سؤاله عن خطة إعادة التوطين في عام 2016: "تحتاج مصر إلى عاصمة جديدة بشكل ملح".

لكن البعض الآخر يشكك غي جدوى بناء مدينة جديدة في الصحراء.

وقال "عبدالله": "كان لدي شكوكي حول المشروع عندما بدأت الحكومة بالتحدث عن هذا الأمر، لكنني أقل قلقا الآن مع رؤية كيف تتطور الأمور".

وتمتد المرحلة الأولى من العاصمة الجديدة على مساحة أكثر من 65 ميلا مربعا، وهي أصغر قليلا من مقاطعة كولومبيا، وتم بيع 80% من تلك الأراضي للمطورين منذ أن قام "السيسي" بتأطير المشروع عام 2015.

وفي نهاية المطاف، سيتم بناء نحو 20 منطقة سكنية لاستيعاب 6.5 مليون شخص.

وتهدف الخطة المكونة من ثلاث مراحل إلى إنشاء مدينة تبلغ مساحتها 270 ميلا، تماثل مساحة سنغافورة، تضم 36 وكالة حكومية وسفارة أجنبية وشركات كبرى.

وقال "هشام العبد"، وهو مستشار إداري يقيم في القاهرة: "تعد الحكومة المصرية أكبر رب عمل في أفريقيا. ومن خلال إجبار موظفي الخدمة المدنية على التحرك، يمكن للسيسي تقليل البيروقراطية المتضخمة، وتمويل هذا المشروع المغير للعبة. ويسعد المستثمرون المحليون والدوليون برؤية ذلك يتحقق لتلبية هذين الهدفين".

وتم إخطار 50 ألف موظف مدني، من بين نحو 5.5 مليون موظف في القطاع العام، في يناير/كانون الثاني، بأنه سيتم إعادة نقلهم من مكاتبهم في وسط القاهرة إلى بنايات جديدة في المدينة الجديدة بحلول العام المقبل.

وقال "أحمد الهلالي" وهو مسؤول حكومي يعمل العاصمة الإدارية: "بمجرد تحريك الوزارات إلى العاصمة الجديدة، ستصبح مرافقها في وسط المدينة مصدر دخل للدولة، حيث يمكن بيعها أو إعادة تأهيلها للإسكان أو الاستخدام التجاري".

ويتم تقسيم هذه العائدات بنسبة 51% إلى 49% بين وزارتي الدفاع والإسكان في مصر.

وفي الشهر الماضي، افتتح الرئيس المصري المسجد الكبير في العاصمة الجديدة، والذي يمكنه استيعاب 16 ألفا من المصلين. ويعد مسجد "الفتاح العليم" الآن أكبر مسجد في أفريقيا، وسمي تيمنا بالاسم الأول لـ"السيسي".

وفي الشهر المقبل، من المقرر أن يقوم الرئيس بافتتاح دار الأوبرا في العاصمة الإدارية، وهي عبارة عن تجمع مباني بحجم 42 من ملاعب الرجبي، مع مسارح ومتحف للفن المعاصر ومكتبة ضخمة.

إعادة ضبط القاهرة

ويقول بعض سكان القاهرة إن العاصمة الضخمة، التي يبلغ عدد سكانها نحو 30 مليون نسمة، يتم التضحية بها من أجل حل سهل. ويشيرون إلى عقود من إهمال البنية التحتية للمدينة والمباني التاريخية بها، وعدم التخطيط لتوفير مساكن بأسعار معقولة.

وقام مركز "عشرة طوبة"، وهو مركز أبحاث دراسات حضرية، بنشر تقارير تثبت أن المناطق النائية القاحلة في البلاد، والتي تستحوذ على نحو 2% من السكان فقط، تتلقى نفس القدر من الأموال الحكومية مثل المدن - بما في ذلك القاهرة - التي تضم 98% من السكان.

وقالت "أمنية خليل"، وهي خبيرة في علم الأنثروبولوجيا الحضرية في "عشرة طوبة": "تستنزف العاصمة الجديدة الموارد المالية والتقنية التي كان يمكن إعادة توجيهها لخدمة المجتمعات المحلية الموجودة بالفعل. يتم بنا العاصمة لفئات اجتماعية معينة، وتستبعد غالبية الأشخاص العاديين الذين يجب أن يكونوا هدفا للتنمية".

لكن النقاش المفتوح حول الحكمة من العاصمة الجديدة والمشاريع الكبرى الأخرى أصبح مقيدا بشكل متزايد، منذ أن قام البرلمان المصري بسن قانون رقابة واسع في يونيو/حزيران يحظر المواقع الإلكترونية التي "تعرض الأمن القومي أو الاقتصاد الوطني للخطر".

لكن المنتقدين الأجانب، بمن فيهم "ميشيل دن" كبيرة الباحثين في مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي ومقرها واشنطن، انتقدوا المدينة الجديدة كإجراء سلطوي آخر من قبل "السيسي"، الذي هو في طريقه لإجراء تعديلات دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة لمدة 12 عاما أخرى.

وقالت "دن": "قد يتم الانتهاء منها بحلول عام 2020 أو بالقرب منه، حين يبقي "السيسي" نفسه في منطقته الخضراء الجديدة المحاطة بالسياج، محاطا بعدد كاف من الضباط العسكريين وموظفي الخدمة المدنية والدبلوماسيين الأجانب، ليكون بعيدا بما فيه الكفاية عن صخب القاهرة واحتجاج الحشود الغاضبة خارج القصر الرئاسي".

المصدر | واشنطن تايمز

ترجمة وتحرير: الخليج الجديد