تدخل مفاوضات الكويت أسبوعها الرابع، من دون أن تحقق تقدماً في خلخلة جذر الخلاف بين الفرقاء اليمنيين، وعدا عن دماثة المضيفين، وإطالة أمد التفاوض بلا سقف زمني محدد، فإن المفاوضات تجري في سياق المفاوضات السابقة، وربما تنتهي إلى مصيرها، إذ لا يزال الأداء التفاوضي للفرقاء ينطلق من مقاربتهم الأزمة اليمنية، بوجهة النظر الأحادية نفسها، الساعية إلى تكييف القرارات الأممية بضمان بقائهم في سلطة ما بعد الحرب، وليس من أجل إنهاء حالة الحرب.
منذ بدء مفاوضات الكويت، في 21 إبريل/ نيسان الماضي، بدت ممارسات وفد جماعة الحوثي وعلي عبدالله صالح مؤشراً للمسار الذي ستمضي فيه المفاوضات، حيث انحصرت بين المماطلة والتعنت؛ تجلت المماطلة في تخلفهم عن موعد انطلاق المفاوضات، وانسحابهم من الجلسات تحت ذرائع مختلفة، ما أدى إلى تعليق المفاوضات مرات، وأخيراً رفض وفد الحوثي وصالح جدول الأعمال، وكذلك مقترح حل الأزمة اليمنية اللذين أعدتهما الأمم المتحدة، وسبق مواقفتهما عليهما؛ كما بدا تعنت في إدارة وفد جماعة الحوثي وصالح المفاوضات وفق معركتهم الأساسية، للحفاظ على الامتيازات المترتبة على سلطة الانقلاب، ورفض تقديم أي تنازلات، حتى لو أدّى ذلك التعنت إلى إفشال المفاوضات. كما برز تعنت وفد الحوثي وصالح جلياً في رؤيتهم للحل السياسي والأمني للأزمة اليمنية، حيث تكشف الرؤية عن الإصرار على تعطيل التفاهمات اليمنية-اليمنية، فالرؤية "التملصية" ترفض معالجة الأوضاع السياسية المختلة التي تسببوا في إحداثها.
بينما تشترط المبادئ الأساسية للرؤية تثبيت وقف الأعمال القتالية بكل أشكالها، ورفع الحصار الداخلي والخارجي. على العكس من اشتراط الرؤية على التهدئة، تستمر خروقات مليشيات الحوثي وصالح في في تعز ومأرب والضالع والبيضاء، واستيلائهم على لواء العماليق في مدينة عمران، ونهب الأسلحة من المخازن، واقتصرت تهدئة مليشيات الحوثي وصالح على التهدئة في المناطق الحدودية مع السعودية.
كما تشترط رؤية وفد الحوثي وصالح "التوافقية السياسية" في صياغة شكل السلطة المقبلة، بدءاً بالتوافق على سلطة تنفيذية، تكون القالب السياسي لتنفيذ كل الآليات والإجراءات الأمنية، قافزة بذلك على حقيقة انقلابهم على التوافقية السياسية ومرجعياتها الوطنية، كما تتمسّك الرؤية بأسبقية تشكيل سلطةٍ سياسيةٍ توافقيةٍ على أي إجراءات أخرى، بما في ذلك تسليم الأسلحة للدولة، وهو ما يعني تمسك جماعة الحوثي وصالح بالسلاح الثقيل ضامناً للسيطرة على السلطة، وبالتالي، استدامة الصراع لأجل غير معلوم. لا تقف مفارقات الرؤية التعجيزية لجماعة الحوثي وحزب صالح عند نقطة اشتراط التوافق حول النقاط السابقة كحزمة واحدة، حيث ذهب وفد الحوثي وصالح إلى أبعد من ذلك، باشتراطه تعليق الضربات الجوية للتحالف العربي على تنظيم القاعدة في المناطق الجنوبية، شرطاً لاستئناف المفاوضات السياسية.
في المقابل، لا يبدو أن خيار المضي في التفاوض مع جماعة الحوثي وصالح، من دونضمانات أممية، خيار سياسي لوفد الشرعية اليمنية، بقدر ما هو خيار دول التحالف، وتحديداً السعودية التي صارت تدرك اليوم أن الحسم العسكري للحرب وصل إلى نقطة مسدودة، إذ فشلت السعودية في إدارة الصراعات البينية بين حلفائها المحليين، بما يخدم تحرير المدن الواقعة تحت سيطرة مليشيات الحوثي وصالح، وتحول حلفاؤها، مع طول الحرب، إلى طرف يفاقم من حدّة الخلافات والاستقطابات، ما أدى إلى الانكفاء في المناطق الجنوبية المحرّرة وعدم القدرة على تجاوز الحدود التي باتت ثابتة لخريطة الصراع. وقد جعل الإدراك المتأخر لمعضلة الحرب اليمنية السعودية تلين خطابها السياسي مع جماعة الحوثي، وتضع ثقلها السياسي للدفع بمفاوضات الكويت، وهو ما رشح من تصريح وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، عن الجوار التاريخي لجماعة الحوثي مع السعودية، وأن أولوية السعودية الراهنة محاربة تنظيمي القاعدة وداعش.
تدور استراتيجية وفد الشرعية اليمنية بين الخضوع للضغط المفروض عليها من حلفائها وامتصاص السخط الشعبي في مدينة تعز التي يتعرّض مواطنوها للقتل اليومي لتأييدهم الشرعية. عبر المضي في التفاوض، يتمسك وفد الشرعية بتنفيذ القرار الأممي 2216، وأسبقية الإجراءات العسكرية والأمنية على الحل السياسي الذي يشترطه وفد الحوثي وصالح، إذ تتمسّك رؤية الحل التي قدمها وفد الشرعية بضرورة تسليم الحوثيين وصالح السلاح للدولة اليمنية، وإزالة مظاهر الانقلاب والحرب الداخلية، بما فيها وقف قصف مدينة تعز، خطوة أولى قبل مناقشة خيار تشكيل سلطة سياسية توافقية.
تبدو رؤية الحل المقدمة من الشرعية أكثر منطقيةً من رؤية الحوثي وصالح، لكنهما في الحقيقة لا تختلفان كثيراً في الواقع، حيث لا تقدّم رؤية الحل المقدمة من الشرعية خريطة طريق واضحة نحو مستقبل آمن، ليس للسلطة الشرعية، وإنما لعموم اليمنيين، فالدولة اليمنية المقرّر استلامها للسلاح من مليشيات الحوثي وصالح قوّضها الانقلاب ثم الحرب، ولم تعد حاضرةً إلا في خيالات الشرعية اليمنية.
تتمسّك القوى الإقليمية والدولية بزحزحة انسداد مفاوضات الكويت بشتى الوسائل، بأمل أن تؤدّي المفاوضات إلى تسويةٍ مقبولةٍ لأطراف الصراع اليمنية. وفي هذا السياق، يكثف المبعوث الأممي إلى اليمن، إسماعيل ولد الشيخ، جهوده لتقريب وجهات النظر بين المتفاوضين، إلا أنه، أمام تصلب وفد الحوثي وصالح، وعدم الإقرار بفشله الخاص مثل سابقه، لا يقارب مضامين تصاعد وتيرة الأعمال الحربية للحوثيين وصالح على الأرض، كما أن تشكيل اللجان السياسية والأمنية والعسكرية ولجنة المعتقلين لا يعكس تطوراً في سير المفاوضات، بل عدم جدية أطراف الصراع في إنهاء أعمالها الحربية، وهو ما يؤكده غياب قياداتٍ عسكريةٍ ميدانيةٍ مؤثرةٍ من تسمية أعضاء اللجان العسكرية والأمنية، وحتى نجاح لجنة المعتقلين في الاتفاق بإطلاق عشرات المعتقلين من سجون الحوثي وصالح لا يعد إنجازاً يُعتدّ به، لأن المعتقلين، بالنسبة للحوثي وصالح، ورقة تفاوضية مؤقتة.
ما رشح من جلسات مفاوضات الكويت حتى اللحظة يشي بتعثرها في التقدّم خطوة إلى الأمام، ومراوحتها عند النقطة الأولى التي فشلت عندها جميع المفاوضات السابقة، انسداد أفق المفاوضات الحالية لا يعبر عن موقفٍ دوليٍّ أو إقليمي رافض لإنهاء الحرب اليمنية، كما كان في ظروف سابقة، بقدر ما يؤكّد على مراوحة الأطراف اليمنية عند النقطة نفسها، بدءاً بطرف الشرعية الذي يتحدّث عن دولةٍ لم تعد موجودة سوى في مخيلته، وتعنت وفد جماعة الحوثي وصالح في فرض شروطهم الخاصة، مستفيدين من ميوعة المجتمع الدولي حيال مقاربتة الحرب في اليمن، وعدم امتلاكه ضوابط أو إجراءات حازمة ضد معرقلي التفاوض.
لأنها لا تعترف أبداً بمسؤوليتها السياسية والأخلاقية عن جرائهما، ترفض المليشيات وحلفاؤها مبدأ التفاوض، لكنها ستفاوض "الشيطان" لضمان مشاركتها في اقتسام غنائم ما بعد الحرب، كما تتفاوض الشرعية اليمنية إذعاناً لمطالب حلفائها، وليس من أجل إيقاف معاناة اليمنيين. لذا تدور مفاوضات الكويت في حلقة مفرغة من عبث أطراف الصراع، مفاوضات بين كائناتٍ لا تسمع سوى صوتها وأخرى لا ترى أبعد من مصالحها، في غياب حكمٍ حازم يتمتع بالمصداقية والقدرة على إنهاء سجالات بيزنطية عقيمة.