لا يمكن فصل التاريخ البشري عن حركة الطبيعة، فظهور جائحة كورونا هو تمهيد ضمن سلسلة أحداث لتغيرات مفصلية سيشهدها العالم. وهو العالم الذي دشنه جورج بوش في احتلاله للعراق، وربما يعود أثره إلى أحداث سبتمبر 2001 وتبعاتها. لكننا بدأنا نشعر بأن العالم القديم يتغير، إلا أن المشهد بدأت آثاره تلوح في أفق الدول الأكثر هشاشة. ويمكن النظر إلى الشرق الأوسط كمكان سائب، وفي اليمن بدأت ملامح عدم الاستقرار مع ظهور حركة تمرد في الشمال عام 2004، واحتجاجات في الجنوب بدأت في 2007.
إن الأخطاء التي ترتكبها الدول العظمى يكون أحد عواملها الاسترخاء الذي يدب فيها، وهو عامل التراجع العالمي الذي تسبقه إرهاصات غير مرئية لعوامل تدهور الامبراطوريات. كان العالم يتشكل في الشرق الأوسط بطريقته، لكن العالم بدا أنه لن يتعافى بعد أزمة 2008 الاقتصادية. وبالعودة إلى رواية سلمان رشدي “غضب”، التي تدور حول فنان دُمى من أصل هندي، غضوب. تدور أحداث الرواية في بداية الألفية، وتحيطنا بصورة مختزلة إلى روح الزهو الذي بلغته البشرية آنذاك في ذروة الرفاه الرأسمالي: خشخشة النقود والبذخ من مقابض الأبواب حتى السيارات ومظاهر العيش التي تُروى ببريق المادة.
التساهل في التعامل مع حزمة قرارات مثل التدخل العسكري في العراق، ثم ترك المنطقة السائبة لمجموعة قوى تقليدية تحاول فرض سياساتها. تعاملت إيران بضراوة أكثر في المنطقة، في الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة، لكن الواقع أو الخرائط التي تم تصورها تحت مبدأ راديكالية الليبرالية، أو تعزيز الديمقراطيات، في منطقة وجدت نفسها خسرت ما كانت تمثله الدولة المستبدة من عوامل استقرار، دون حدوث الديمقراطية.
غير أن تلك المبادئ المُحاطة بتصورات حقوق الإنسان والحريات، أتاحت مساحة من التدخلات السياسية للقوى العظمى، لكن الصورة انتهت إلى فراغ ظهر عليه لاعبون إقليميون ودوليون، التدخل الروسي في سوريا وتوسع النشاط الإيراني في دائرة أوسع.
في أزمة كورونا ارتبك العالم، وكانت أوروبا غير قادرة على جعل مشروع أوروبا موحدة واقعاً، وانكفأت كل دولة في بحر مشاكلها الخاصة، وإمكانية مواجهة الجائحة. أغلقت الحدود، وكذلك أصبحت أمريكا بمعزل عن أوروبا، مع استثناء الجزيرة البريطانية، التي ذهبت في مشروع بريكست، تكلل بخروجها من الاتحاد الأوروبي. وضعت السياسات النيو-ليبرالية، حدود تصورها في المنطقة عبر خارطة الأطياف وتيارات الإسلام السياسي، لكن التحول اصطبغ بإفراز ديمقراطية معيارها الأكثرية، وتماهت مع صعود اليمين، وكانت جميعها إشكالية الماضي أو التعامل مع المنطقة كصورة لماضيها، وعلامات الإحياء ارتأت حضور تلك الأجناس القادرة على التلاحم، وذات التنظيم الجيد.
لم يشذ كورونا عن المسار الذي تم تصوره للقرن الحادي والعشرين، فسياسات العزلة ستصبح واقعاً مفروضاً، لكن الخوف نفسه من المرض يكشف عن مظهر تعامل الحضارة مع الموت، وبصورة أكيدة، كان بمثابة إعلان عن خلل البنية السياسية للدول المتقدمة أو لتصورات النيوليبرالية، لكن هل ستعني سقوطاً لصوتها. على الأرجح يتماهى كورونا مع صعود التصورات الفاشية، لكن الإجراء الذي يحدث هو كيف أن مجموعة من المواجهات ستتم خارج سيطرة بعض القوى العظمى. كما أن مسرح العالم سيثير مزيداً من الحروب، وربما التدخلات الأكثر ابتذالاً.
الأزمة الاقتصادية التي لن يتعافى منها العالم على مدى سنوات، ستفتح لترامب خطوط ابتزاز حلفائه، وهو الذي سيجعل أمريكا تقترب أكثر من كونها دولة ريع، أو إنتاج ريعي، بأن يفرض على حلفائه الأغنياء الدفع، أو تلك الدول الغنية في النفط. وهذه السياسات ستسهم أكثر في دفع حلفائها في المنطقة إلى الانهيار.
تمتعت السياسة الأمريكية، مقارنة بالامبراطوريات القديمة، بكثير من التدخلات الناعمة، لكن الأزمة العاصفة التي تسبب بها كورونا أو كوفيد 19، ستحد من تلك المساحة، وهو ما مهد له ترامب عبر إعلانه المستمر ضرورة أن يدفع حلفاءه. كانت حركة أوباما في المنطقة هي تخلٍّ عن بعض الأدوار المباشرة، أي إعلان عن تراجع كان أعلنه بوش، وتضاربت فيه رؤية الطرفين، أما ترامب فهو تخلٍّ عام عن تدخلات أمريكية ظلت تصبغ النظام العالمي. لكن المساحة التي تخلت عنها الولايات المتحدة بعد أن بلغ اتساع حلف الناتو ذروته حتى الحدود الروسية، يراهن على التكيف مع خطاب التنصل من تحالفات جوهرية، وهو الحدث البارز في المنطقة، الذي أدى إلى شكل من الفوضى أتاحت هذا الكم من التدخلات.
الأزمة الحالية ستعيد فكرة التصرف بودائع تلك الدول؛ الحاجة الدائمة لخلق وفرة في المال. تنطلق أمريكا كامبراطورية عظمى من انقلاب في جوهر وجودها على الساحة العالمية. لقد تحولت من قوة عظمى عليها أن تحارب من أجل منظومة رفاهها، إلى دولة راديكالية تحاول أن توزع مُثلها أو أخلاقها.
فالأزمة الاقتصادية التي لن يتعافى منها العالم على مدى سنوات، ستفتح لترامب خطوط ابتزاز حلفائه، وهو الذي سيجعل أمريكا تقترب أكثر من كونها دولة ريع، أو إنتاج ريعي، بأن يفرض على حلفائه الأغنياء الدفع، أو تلك الدول الغنية في النفط. وهذه السياسات ستسهم أكثر في دفع حلفائها في المنطقة إلى الانهيار.
ويبدو أن الأزمة الحالية ستعيد فكرة التصرف بودائع تلك الدول؛ الحاجة الدائمة لخلق وفرة في المال. تنطلق أمريكا كامبراطورية عظمى من انقلاب في جوهر وجودها على الساحة العالمية. لقد تحولت من قوة عظمى عليها أن تحارب من أجل منظومة رفاهها، إلى دولة راديكالية تحاول أن توزع مُثلها أو أخلاقها. وبالتالي تنعكس على مستوى وعيها السياسي، وحتى إنتاجها الفني، بأن تتصرف وفق تحيزات راديكالية. وأصبحت الفنون تُروج كمنصات دعائية لفكرة، تلك المساحة الإنشائية كانت أقل بروزاً في السابق، وهذا مرتبط باسترخاء المفاهيم التي أنتجتها الحرب الباردة، وتحديداً بعد الانتصار الكبير للرأسمالية مع سقوط المعسكر الشيوعي. فقدت الولايات المتحدة الحافز، ومرت الثمانينيات كآخر مرحلة عظيمة في الموسيقى وكل المصنفات الفنية، وحتى في مفهومها للدفاع عن مصالحها حول العالم.
أعلن بوش تدخله العسكري في أفغانستان، ثم في العراق، دون وجود معارضة. كان الأمر بمثابة إعلان صريح عن التفرد الأمريكي، الوجه الذي ظهر في حرب الخليج الثانية، وإن استدعى تحالفاً دولياً واسعاً، خصوصاً وأن الاتحاد السوفيتي أصبح على شفا الانهيار، مسبوقاً بانهيار جدار برلين.
تحول الأمر كلياً في المنطقة أيضاً، نتيجة تلك التغيرات، وكانت المنطقة هي نقطة التجمع لما يمكن أن تفرضه التغيرات، ففيها حدثت معظم أشكال التنافس خلال الحرب الباردة، لأنها منطقة مستباحة. سيحدث الأمر لاحقاً مع انهيار الوحدة اليوغسلافية، ولطالما كانت البلقان مستباحة للامبراطوريات التي لعبت دوراً عسكرياً وسياسياً في أوروبا.
على صعيد آخر، جرى المشهد العالمي كتمهيد للتحولات العالمية، الجرح الذي فتحه غزو العراق، دفع براديكاليات تستمد حضورها مع حليف كان الكاسب الأكبر من سقوط نظام صدام. وبدأت آثاره في اليمن، وكانت الصورة تمهد لخلخلة بنية الحكم في المنطقة. كان خطاب أوباما عند سقوط نظام حسني مبارك في مصر احتفالياً، وإن لم يكن بصورة مباشرة، لكنه حمل توقيعاً عن انتصار الحريات في العالم.
فمع الاحتلال الامريكي للعراق، حدثت تداعيات في المنطقة تسببت بكثير من التغيرات، كانت بدايتها في اليمن مع ظهور حركة تمرد ذات جذور شيعية. ومنها تشكلت الملامح التي ستغدو عليها ملامح انهيار الانظمة في المنطقة وفق دمقرطة شرق اوسطية تستند إلى الأكثرية المنظمة، وبالتالي صعود التيارات ذات المرجعية الدينية. ربما شكل صعود اردوغان في تركيا بمرجعية حزبه الاسلامية، تواطؤً تتدخل فيه عوامل التاريخ حين تختمر التحولات. كما ساهمت الأزمة الاقتصادية لعام 2008 باندلاع ثورات الربيع العربي، واصبح اردوغان صوتاً حاضراً مدعوماً من حلفاءه الاسلاميين في المنطقة. يمكن النظر الى جائحة كورونا، كتفاعل بين الطبيعة والاختلال الذي انتجه البشر، اي انها ربما الضربة التي ستقصم ظهر العبير.
المقال خاص بـ"المشاهد"