علي بن علي الآنسي

صاحب التجديد الأبرز في الأغنية الصنعانية.. من هو الفنان "علي بن علي الآنسي"!

المقال خاص بموقع "خيوط":

أضفى علي الآنسي على الغناء الصنعاني أسلوباً لم يكن معهوداً، فجاءت أعماله مشبعة بروح يمنية ذات بُعد رومانتيكي. خاض الآنسي مسيرته ثائراً على ظروفه وعلى الأساليب المتبعة، ففي بداية ذيوع اسمه في مجالس تعز حصل على أول عود في حياته، ظل يخفيه، وما إن علم أبوه به حطمه باعتباره وصمة عار. لكن توق الآنسي للغناء لم يتحطم فصمم على المضي في طريقه الغنائي وتوازى صعوده مع مخاض ثورة عظيمة ضد الإمامة.

لكن موهبته المفعمة جعلته أيضاً يستمد صوت الغناء الصنعاني من محرك عميق في الذات، فمنحه شكلاً من التعبير الوجداني مع الإبقاء على صورة الغناء التقليدي المُتقن. بدأت عصارة إلهامه تتشكل طفلاً من غناء أمه في لحظات عملها البيتي الدؤوب حين تطحن الحبوب أو تهدهده. وتلك الصورة تواشجت مع طابع صوته ذي الطبقة الحادة، خصوصاً في بداياته قبل أن تغيره عوامل السنوات وتسكنه بحة يملؤها الشجن. وفي طريق استعاراته اللحنية نقب عن تلك المواد الأولية للغناء من ألحان الريف ومن أصوات الطبيعة، كما قال مقربون منه. وإن بدا ذلك نوعاً من المبالغات، مثل استلهامه لحناً من مضخة مياه، عدا أن روح العصر بتأثير الثورة الذي دخل حياة الريف شكل عاملاً في تثويره للغناء الصنعاني واليمني، وبصورة ميزته عن جيله سواء بأسلوبه الغنائي أو ألحانه.

أثيرت حول الآنسي الكثير من الوقائع مثل أنه صنع لنفسه عوداً كان صندوقه من اليقطين “الدُباء”، كما تعلم العزف على آلة القنبوس. يمتاز الغناء الصنعاني بخصائص واضحة، كما أن الأصوات السائدة كانت من الطبقة المنخفضة وفيها بحة؛ هكذا وصف الآنسي اللحظة الاستثنائية على طريقته بروح تفيض غنائية. وعبر كثير من اختياراته أو ألحانه، تطرق للحن التراثي ضمن ملامح جديدة.

لا أستطيع التأكيد ما إن كان لحن “يا ربة الصوت الرخيم” يعود للآنسي، أو أنه من التراث، رغم أن كفة الجدل بشأنها تميل لاعتبار اللحن تراثي أعاد إنتاجه الآنسي بصيغة جديدة. أقدم تسجيل للأغنية يعود للفنان علي أبوبكر باشراحيل، ولحنها من البيات لا صلة له باللحن الذي غناه الآنسي، وإن كان على نفس المقام.

يتسم اللحن الذي قدمه الآنسي بالرهافة، يبدأ من طبقة مرتفعة وهي الحدود التي بدأت مع جيله في الغناء الصنعاني واليمني بصورة عامة، مع إدخال آلة العود على الغناء. وإن كان استمده الآنسي من التراث وربما من منطقة مناخة، فقد امتاز بالامتداد والإشباع اللحني في تصعيد جوابي منذ البداية، لتبدو الجملة اللحنية ديناميكية ومشغولة بزخارف تشجي اللحن. لماذا إذن تخلى الآنسي عن النسخة القديمة للحن؟ لعل الآنسي وجد في المدخل الشعري مدى تعبيرياً لم يجسده اللحن التقليدي، ونسج عليه تلك الفسحة التعبيرية، مضفياً سمة غنائية لم تكن الحدود التقليدية تسمح بها، إضافة إلى التنويع في الخط اللحني وإن لم تحدث تغييرات مقامية. وهكذا يؤكد الآنسي على حضوره كامتداد رَعَوي في الغناء الصنعاني واليمني عموماً، تاركاً بصمته العريضة التي لن تخبو في الوجدان اليمني.

فاللحن ازدهر من اندماج عضوي لتفاعلات اهتدت إليها مخيلة الآنسي، ويتعرج بمطلعه الزاخر بالغنائية والابتهال، إلى شكل تطريبي راقص، لتبرز سمات الغناء الصنعاني ذات التطريزات المبهجة. ويمكن تقسيم اللحن إلى طابعين أحدهما يكون شديد التقليدية، هذا نجده في أغانٍ لدى الآنسي كما في أغنية “ليلاه”، إذ يبدأ المطلع بلحن مبتكر، ثم ينعطف في شقه الثاني إلى لحن تقليدي.

كان تجديد الآنسي مشغولاً بالقيم اللحنية الأصيلة، مع أنه وظف ملامح المارش التركي في بعض ألحانه مثل “ممشوق القوام” وربما في مطلع قصيدة “تعيش أنت وتبقى”، والأغنيتان من مقام البيات. ومقام البيات هو الروح الشجية التي عبر عنها الآنسي في معظم ألحانه.

كانت مصادر إلهامه تأتي من ألحان المزارعين في المناطق الوسطى والأغاني التي تؤديها النساء في العدين، وأيضاً ألحان من مناخة ومحيط صنعاء، مع امتداد يمني واسع في نظرته اللحنية العامة.

على صعيد آخر، يشير بعض مقربيه إلى أنه استمد ألحانه من أصوات عابرة، كما في مطلع أغنيته “الحب والبن”، وكما قيل من نشيج طفلة سمعها فتشكل لديه اللحن الذي سبق وقدمه أيوب طارش بشكل مختلف. لكن الآنسي ظل يبحث عن ألحان ريفية يعيد صبغها بروح تجديدية تعطيها مدى لحنياً أوسع. في الحب والبن نجد أيضاً تلك السمات. سنلاحظ مقدمة العود، كما لو كانت معالجة في مخيلته بتصور فرقة موسيقية، كانت هناك محاولة لتسجيلها عبر فرقة موسيقية وهي من مقام البيات، وهناك تسجيل نادر لها بدون غنائه لكنها تكشف عن مخيلة لحنية بارعة. ويبدو عليها أثر تطريبي من روح  الجمل الموسيقية لرياض السنباطي المُحكمة، دون أن تتخلى عن طابعها اليمني لتظهر عليها شخصية الآنسي الخالصة.

وامتلكت الأغنية كل السمات التي تجعلها أحد الاستثناءات في الغناء اليمني، ولا نبالغ إن قلنا إن الآنسي حاول أن يمنحها خلاصة موسيقى الريف اليمني بنكهة تجديدية عالية المزاج. في “ألف مرحب وحيا” بأسلوب مُلقى على نفس الطراز اليومي لترحيب المزارعين اليمنيين. وربما كانت هذه الأغنية الأكثر تنويعاً واتساعاً في طموحها مع تنقلات مقامية للسيكاه والراست.

في هذا السياق، يمكن الحديث عن سمة رومانتيكية واضحة الملامح في توجهات الآنسي، سواء في إلحاحه على التنقيب من مصادر لحنية وطنية ومحلية. وكانت مصادر إلهامه تأتي من ألحان المزارعين في المناطق الوسطى والأغاني التي تؤديها النساء في العدين، وأيضاً ألحان من مناخة ومحيط صنعاء، مع امتداد يمني واسع في نظرته اللحنية العامة.

عُرف الآنسي بصوته المميز وسط المجالس التي انتشرت في تعز منذ نهاية الخمسينيات، وهي نوع من الصالونات التي ارتادتها طبقة متعلمة أو مدنية في ذلك الوقت. وفي هذا الاحتكاك جلبت موهبته نوعاً من الاعتراف الذي تضمنه إهداء أول عود يمتلكه في حياته من المرحوم محمد السراجي، وهو العود الذي حطمه والده. كانت عائلته قد انتقلت إلى تعز بعد ثورة 1948، وعاد بعد الثورة ليستقر في صنعاء. وفي 1966 أتيح له إنتاج أول ألبوم موسيقي في بيروت، لكن هذا الطموح انحسر بعد ارتداد الثورة بالتوازي مع انقلاب 1968، ولم تستمر الشركة التي أنتجت ألبومه الموسيقي الأول. وكما قيل إنه كان يشكو بأن العود لم يعد يُلبي طموحه، إذ ظل يتوق إلى حضور الموسيقى في ألحانه.

استخدم الآنسي مقام الراست في معظم ألحانه الوطنية، كان أحدها النشيد الوطني لليمن الشمالي قبل تحقيق الوحدة، وجرت معالجة اللحن على مقام العجم ليتناسب مع استخدام النحاسيات ضمن التقليد العالمي لأداء الموسيقى الوطنية لأي بلد في العالم.

خرج الآنسي في مشروعه التجديدي عن القالب المعروف للون الموشح التقليدي، أي في قالب الأغنية أو الطقطوقة حسب التسمية المصرية، والمكونة من مذهب وأغصان. في أغنية وقف وودّع نلاحظ الصيغة التي أصبحت عليها الأغنية، استخدام الفراغات الزمنية بعد وقف، لتأتي بعد صمت وودع. وهذا يعكس طموحه في إضفاء مساحات تعبيرية جديدة لم تكن حاضرة في الغناء التقليدي. الأغنية على مقام الهُزام، وهو مقام شائع في الغناء اليمني والصنعاني التقليدي. كذلك التصعيد اللحني عند “ما كان” والتكرار عبر الكورال لتأتي القفلة في طبقة عليا، وهي جوانب جديدة وقتها خصوصاً في الغناء الصنعاني.

لكن أول أغنية من ألحان الآنسي ظهرت بصوت أبوبكر سالم، هي “يا ليل هل أشكو” والتي كانت نتاج تعارفهما عندما قام الآنسي بأول زيارة له إلى عدن عام 1961، فاللحن ينتمي إلى مرحلة تحاول الخروج من تقوقع وعزلة كتمت أنفاس اليمنيين.

غنى الآنسي لليمن، ووضع مسافة له مع  الأنظمة الحاكمة، في السبعينيات قدم أغنية وطنية تنفست بعض التطلعات التي انكسرت بعد اغتيال الرئيس الحمدي. مع هذا ظل الآنسي يتطلع إلى اللحن، وإن قلت ألحانه، غير أن أغنية “ما لأجفاني” تبرز تطلعه إلى الغنائية، التقطيع اللحني بمسار يثير بعداً ايقاعياً عضوياً في اللحن نفسه دون حتى أي مصاحبة، كانت أشبه بمنمنمة حسية، لكنها أيضاً استعارت خيالاً لحنياً مبتكراً لم يكن مسبوقاً في الغناء اليمني، وربما صبغت عليه مؤثرات خارجية أو حتى استمدها من تلك الأصوات التي ظلت تلهمه. وفي أبريل الجاري تتزامن الذكرى التاسعة والثلاثين لرحيل صاحب أحد أجمل الابتكارات اللحنية في الغناء اليمني، علي الآنسي الذي غنى لليمن وللحب وكان مفعماً بالإنسان الذي أضاعته أقدار بلد تعس.

______________________________

الصورة ل: عبدالرحمن الغابري