عن التدخل العسكري الروسي… في اليمن!

تابعنا بغير تشويق مشاهد الكوميديا السوداء المتعلقة بالحوار حول سوريا، التي اتخذت من ميونيخ بعد جنيف مسرحاً لها. تلك المشاهد التي تحدّث فيها أكبر المتورطين في عمليات القتل والتشريد عن حرصهم على مصلحة الشعب السوري.


خلاصة الاجتماعات والمناقشات والحوار، كان انتصار المنطق الروسي الذي قال منذ البداية أنه إما تفاوض على طريقته أو لا تفاوض. ليس المهم هنا طرح سؤال عمن سمح للروس بالحديث باسم القضية السورية، بل معرفة أن الطريقة الروسية تفضي بشكل مباشر لإعادة تدوير النظام عبر إشراك شخصيات مشبوهة ومحسوبة على معسكره ضمن وفد المعارضة، في الوقت الذي يمنع فيه أهم أركان المعارضة بحجة أنهم مصنفون لدى روسيا كحركات إرهابية.


روسيا أصبحت الصوت الأقوى بعد أن ملأت بشراسة الفراغ الذي خلّفه التراجع التركي المنشغل بتحدياته الأمنية الداخلية وتعقيدات السياسة التي انتهجتها حكومة أردوغان بفتحها الباب على مصراعيه للاجئين السوريين، وهو ما تسبب في دخول أشخاص غير مرغوب بهم من عناصر تنظيم الدولة وغيرهم من المندسين الذين استطاعوا بالفعل تنفيذ عمليات إرهابية موجعة في العمق التركي.


روسيا، التي تحركها أيضاً الرغبة في الانتقام من تركيا، ومن خلال تكثيف الضربات الجوية على المدنيين استطاعت تحقيق عدة أهداف، من بينها المساهمة في تقوية موقفها أكثر حول القضية السورية، ما يجعلها تتشدد في فرض مطالبها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى كانت تحصر الأتراك بين خيارين محرجين، فإما فتح الباب من جديد على مصراعيه لعشرات الآلاف من اللاجئين وتحمل الأعباء الاقتصادية والأمنية لذلك، وإما إغلاق الحدود التام وهو ما سيسيء بالضرورة لصورة تركيا التي ظهرت بها كأحد أهم مناصري الثورة. أما الدول العربية المناصرة للشعب السوري فقد بدت لوهلة، على الأقل في تصريحات مسؤوليها قبيل جنيف، بدت أقرب لتقبل فكرة وجود بشار الأسد على رأس السلطة، على سبيل قيادة مرحلة انتقالية غامضة، وهو الاقتراح الذي عرضه الروس قبل أشهر. في ظل هذا الوضع بدأ سؤال يطرح نفسه بشكل خجول وهو: ما الذي يمنع روسيا من التدخل العسكري في اليمن؟


يبدو الأمر بالنسبة للكثيرين مستبعداً وغير عقلاني، لكن لنتذكر أننا نعيش في عصر سريالية العلاقات الدولية التي جعلت النظام المقاوم الأهم في المنطقة، على الأقل كما يدعي، يجاهر بأن وجوده واستمراره مهم من أجل سلامة الكيان الذي يقاومه. ليس فقط ذلك، بل يتباهى بمنح الضوء الأخضر لروسيا وإيران من أجل التدخل والتدمير والقتل بحجة حماية الشعب. لنتذكر أيضاً أن دخول روسيا كطرف في الصراع السوري، بل كأهم أطراف الصراع، كان أيضاً مستبعداً حتى وقت قريب. في الواقع فإن ثلاثة أسباب يمكنها أن تمنع بجدية دخول روسيا على الساحة اليمنية التي تمر الآن باللحظة التاريخية نفسها التي مرت بها الثورة السورية حين اقتربت المعارضة من قلب المعادلة وتحقيق النصر.
هذه الأسباب الثلاثة يمكن تلخيصها أولاً في علاقة روسيا بدول المجموعة الخليجية، حيث يعتبر البعض أن من الحماقة أن تخسر روسيا هذه الدول وأن تظهر كحليف مباشر لغريمتهم إيران. لكن إلى أي حد يبدو هذا السبب مقنعاً أخذاً في الاعتبار أن الاختلاف حول الموضوع السوري، حتى بعد التدخل العسكري، لم يؤد إلى أي أزمة سياسية أو دبلوماسية بين روسيا والشركاء العرب، بل شهدت الفترة الأخيرة تكثيفاً للتعاون في عدد من المجالات على رأسها الأمن والاقتصاد.


ما يمثله اليمن للخليج يختلف عما تمثله سوريا. هذه حقيقة، لكن رغم ذلك فإن تصور رد فعل عربي أو خليجي قوي على أي تصرف روسي استفزازي يبدو مستبعداً.


ثانياً: من ناحية العلاقات بين الدول فإنه يفترض أن يكون ما يمنع روسيا عن التصرف بشكل متهور هو القانون الدولي وتشريعات الأمم المتحدة وعقوبات مجلس الأمن، لكن لا يخفى على أحد أن تلك الأسماء الرنانة التي تظهر بشكل موسمي يبدو صوتها خافتاً في مواجهة الدب الروسي الذي يعمل في المنطقة وفق قوانينه الخاصة وبالموازاة، في كثير من الأحيان، مع القوانين الدولية التي لا يمكن التعويل عليها في ظل عدم الرغبة الأمريكية في خلق مواجهة مع الاتحاد الروسي الذي يتقاسم معه مناطق النفوذ.


كان بعض المجتمعين في ميونخ وجنيف يهمسون بضرورة حث الإدارة الأمريكية على لعب دور أقوى في سوريا، لكن ظن أولئك خاب مع اتفاق الأمريكيين مع الروس على وقف إطلاق النار، على الطريقة الروسية التي تستثني من ذلك الوقف محاربة التنظيمات المتطرفة التي تحتمي بالمدنيين، وهو ما يعني العودة للمربع الأول وسؤال تعريف الإرهاب، وهو ما سيتسغرق وقتاً يكفي لقتل ما تبقى من السوريين في المدن الكبرى، خاصة حلب، أو تهجيرهم. المنطق يقول هنا أنه إذا لم يتدخل أوباما في ذروة شباب فترته الرئاسية، فإنه من الحماقة انتظار ذلك منه، في الوقت الذي ينهي فيه فترته، خاصة أن سياسة «الحياد السلبي» تلك قد وجدت حماساً كبيراً من ناخبيه الذين تطاردهم حتى الآن تداعيات التدخل في العراق وأفغانستان.


حين نتحدث هنا عن الناخبين فإننا لا نعني بالطبع أشخاصاً كأولئك المتخصصين في السياسة الدولية أو المهتمين بمنطقة الشرق الأوسط والذين دبجوا عشرات المقالات التي تحذّر من تراجع الدور الأمريكي في المنطقة، ولكننا نتحدث هنا عن عموم الناخبين وغالبية الشعب الأمريكي الذي لا يفهم إلا أن مزيداً من الانخراط يعني مزيداً من الضرائب والتأثير السلبي المباشر على مداخيلهم ورفاههم. السبب الثالث الذي يتم تقديمه لدحض فكرة التورط الروسي في اليمن، هو أن اليمن ليست بأهمية سوريا بالنسبة للروس مما يجعل من المبالغة القول إنهم على استعداد لفتح مواجهة جديدة مع العالم في سبيلها. يبدو ذلك لأول وهلة منطقياً فروسيا لا شأن لها بتلك التعقيدات الطائفية، ولا تربطها علاقة مصيرية لا بالثوار ولا بالانقلابيين، كما أنها لا تهتم بمصير الحوثي الذي لا تراه إلا كحليف لحليف لها. حتى العلاقة مع إيران أصبحت مثار شك في ظل تقارب الأخيرة مع الدول الغربية. كل هذا صحيح، لكننا إذا ما أعدنا قراءة الوقائع والتاريخ فإننا سنكتشف أن روسيا لا تخفي اهتمامها بموقع اليمن المميز، ولا شك أن وضع يدها على منطقة استراتيجية كمضيق باب المندب سيشكل لها فرقاً كبيراً، كما سيسمح بممارسة ضغط على السعودية التي ساهمت بما تملكه من ثقل في تخفيض أسعار النفط العالمية وهو ما شكّل ضربة مؤلمة للاقتصاد الروسي. هذا الضغط سيكون مهماً خاصة إذا ما دخلت السعودية في مواجهة فعلية مع حلفاء روسيا على الساحة السورية.


هكذا تكون الموانع الثلاثة الكبيرة التي تحول دون التدخل الروسي في اليمن غير مانعة بشكل فعلي لتحقق هذه الفرضية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على المعنيين، خاصة أولئك الذين يتحدثون عن الارتباط بين معركة اليمن ومعارك الشام، أن يدركوا أن الشيء الوحيد الذي بإمكانه أن يمنع تحقق ذلك هو إظهار القوة على الساحة السورية والوقوف الحقيقي مع الثوار لا عبر الموافقة على الدخول في جولات تفاوض سرابية، بل بمنح السوريين دعماً مادياً يتجاوز التعاطف الإعلامي إلى كسر الحصار الذي يمنع وصول الأسلحة إليهم. حتى اليوم يتردد الغالب من دول المنطقة وغيرهم ممن يدعي الحرص على المدنيين في المساعدة، وفي الوقت الذي يمارس فيه حظر السلاح على الثوار والمعارضين بحجة الخشية من دعم الإرهاب تصل الأسلحة النوعية وبشكل علني لمعسكر الأسد وللميليشيات الطائفية. حتى مجرد الحصول على مضادات للطيران أصبح أملاً بعيد المنال. تركيا الدولة الأهم والمساند الأبرز للثوار خذلها الناتو ولم يتبنى دعوتها لخلق مناطق حظر ومناطق آمنة، كما خذلها أيضاً العرب الذين ترددوا في مساعدة الثورة السورية باعتبار أنها إن نجحت بدون توجيه فقد تجلب لهم من جديد إسلاميين مجاورين يعتبرهم البعض، وبلا مبالغة، أخطر من كل خطر.


دول المنطقة يمكنها أيضاً استخدام الجانب العقدي ضد التدخل الروسي وهو ما أثبت نجاحه في أفغانستان سابقاً حيث تم تصوير روسيا كعدو للاسلام وكدولة احتلال، لكن اختلاف الزمان والمكان رغم تشابه الظروف قد يحول دون ذلك، كما أنه سيحول خاصة بدون استخدام الأدبيات الجهادية القديمة التي اختطفتها التنظيمات الفوضوية.


المشكلة هنا هي أن النخب التي نعوّل عليها من أجل التصدي للخطر الروسي الذي قد لا يكتفي بسوريا، هي النخب ذاتها التي وقفت مع روسيا إبان أزمتها مع تركيا، وهي في أغلبها نخب مهووسة في المقام الأول بمكافحة حركات الإسلام السياسي التي يمثلها، بحسب نظرتهم، أردوغان تركيا.


تلك النخب التي تصر على أن روسيا هي القوة العالمية الثانية وأن الدخول في نزاع أو حرب معها انتحار يصعب عليها الاعتراف بأن روسيا في حالة استنزاف الآن في سوريا، كما في أوكرانيا، وأنها بلد يعاني الأمرين تحت وطأة اقتصاد متعثر ونمو بطيء. لقد فقدت تركيا الكثير من المال بخسارتها لشريكها الروسي، لكن روسيا أيضاً خسرت سوقاً مهمة لغازها الطبيعي. على هذه النخب أن تدرك أنه لا مفر من وضع أيديهم في أيدي الأتراك وتبني وجهة نظرهم بشأن مضادات الطائرات، فهذا هو السبيل الوحيد لإنقاذ سوريا من الميليشيات القاتلة ومن التدخلين الروسي والإيراني، وهو ما سيمهد الطريق للجم حزب الله وتحجيم دوره التخريبي في المنطقة. كل ذلك سيقود بالضرورة لسوريا جديدة فاعلة ومتصالحة مع جوارها، والأهم: مستقلة.

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص