خلال الأسبوع الماضي وصل وفد حوثي رفيع إلى الأراضي السعودية، واصطحب معه الأسير السعودي الوحيد لدى الجماعة. دأب إعلام الجماعة على مدى ما يقرب من عام على سرد انتصارات كبيرة، مثل سيطرة الجماعة على محافظات جنوب السعودية، وتدمير مطاراتها ومعسكراتها. بتلك السردية استطاع الحوثي جلب المزيد من المقاتلين المتحمسين للغنيمة والنصر ودفعهم تجاه أرض السعودية، وسرعان ما صاروا في عداد المفقودين. مئات الأسر اليمنية تروي قصصاً متشابهة، وفي مقدمتها الأسر الهاشمية العريقة. لم يكشف الأسير السعودي الوحيد الفخ الذي نصبه الحوثي للقبائل، بل أبعد من ذلك: الكارثة والمرارة.
استطاعت جماعة الحوثي الزج بآلاف المقاتلين إلى الحدود بالتزامن مع صناعة انتصارات ساحقة هناك. بلا أدنى غطاء، ولا مؤونة ذهبوا ولم يعودوا. "العمليات الإيذائية" التي تحدث عنها المدرب اللبناني، في الفيديو المسرب، لم تصنع إيذاءاً للسعودية يدفعها إلى الخروج من الحرب أو الانكفاء وراء حدودها. بدلاً عن ذلك، منحت تلك العمليات التحالف العربي ورقة للقول إن الخليج يواجه جماعة مسلحة لا تتردد في الاعتداء على الدول، ومستعدة لخوض حروب مع الآخرين كما تفعل مع شعبها، ومع القوى السياسية في الداخل.
سبق للحوثيين أن عرضوا الأسير السعودي على وسائل إعلامهم، وحملوه سردية عظيمة ذهب الرجل يرويها: عن قوة الحوثيين وطيبة قلوبهم، وعن ضعف بلده وجبنها. قادة الجيش، والمقاومة، في جنوب اليمن تحدثوا عن أسرى إيرانيين، بالمقابل. غير أن هادي، في لقائه الأخير مع صحيفة عكاظ، أنكر بالمطلق وجود أسرى إيرانيين في اليمن في الوقت الحالي.
هذه الحرب التي يحلو لبعض المحللين المستريحين وصفها بالحرب الإيرانية السعودية سقط فيها أسير سعودي، وذلك مجمل ما أصاب شعبي الدولتين. لا أسرى إيرانيين، ولا أسرى سعوديين. تبقى الحقيقة هي ما تذكره المنظمات النشطة في اليمن عن عشرة آلاف أسير يمني لدى جماعة الحوثي، يموتون تحت التعذيب أو ينهارون جوعاً. عشرة آلاف أسير من الممكن أن يؤسسوا لعشرة آلاف قصة ثأر في مجتمع لا يزال الثأر يمثل عموده الأخلاقي. أما والحوثيون ينهزمون فذلك ما قد يجعل من الثأر شأناً ممكناً، فالجاني يتقهقر.
هي حرب يمنية يمنية، يخوضها طرف دفاعاً عن دولته المستلبة وعن ثورته وتاريخه ضد طرف آخر يصر على القول إن له حقاً إلهياً في حكم اليمن، وأنه سيسعى لامتلاك حقه بقوة السلاح. وقف التحالف العربي، مسنوداً بقرارات من جماعة الدول العربية ومجلس الأمن، إلى جانب الدولة في اليمن. كما وقفت إيران بوسائلها السرية المدمرة، وحزب المؤتمر الشعبي العام بقيادة صالح، إلى جانب الميليشيات. في هذه الحرب من الطبيعي أن لا يسقط أسرى إيرانيون أو سعوديون.
مشهد دخول المفاوضين الحوثيين إلى السعودية بصحبة "أسير" كان مذلاً وصادماً. لا انتصارات، ولا أسرى. سقطت أغنية "بانعدم الجيش السعودي نعدمه" التي هيج بها الحوثيون آلاف المساكين، ودفعهم إلى الموت المجاني. بلا آلة عسكرية، سوى سلاح الكتف، دفع أبناء القبائل ليلاقوا حتفهم على الحدود. تعيش المدن السعودية الجنوبية أماناً كبيراً. أما في جيزان، التي سيطر عليها إعلام الحوثي بالكامل، فيعمل حالياً حوالي ٧٠ ألف عامل في أجواء تامة من الهدوء، في مواقع إنشاءات المدينة الصناعية، وهي مشروع ضخم بلغت كلفته ٥٠ مليار ريال سعودي.
ثمة ما هو أكثر مرارة من ذلك المشهد. بينما عبر الحوثيون الحدود، بصحبة الأسير السعودي، كانوا أكيدين تماماً أنهم تركوا خلفهم جيشاً يمنياً وقد صار جزءاً من الماضي، وأن تلك الحرب أدت إلى دمار ما يزيد عن ٧٦ لواءاً عسكرياً استخدمها الحوثي وصالح في حربهم الداخلية ومناوشاتهم الحدودية. نصف قرن من البناء العسكري، على كل المستويات، انسحق خلال أشهر قليلة. في الأيام الأولى من الحرب كتبتُ عبر "المصدر أونلاين" عن الجيش الذي سيصبح جزءاً من الماضي، وعن الآلة العسكرية اليمنية التي ستقوض بوصفها آلة حوثية، وآلة عصابات. وكان منذ البدء ذلك المآل ممكناً، وبقيت النجاة مسألة في يد الجنرالات، وأولئك اختاروا جانب العصابات، لا شعبهم ولا دولتهم.
عبر زعزعة الاستقرار من الممكن الوصول إلى طور ما من الاستقرار، كما حدث في كثير من الدول. تلك هي الإشارة التي وصلتنا مؤخراً من اجتماعات "مكتب تنسيق المساعدات الإغاثية والإنسانية" من الخليج.
بينما كان الأسير السعودي يعبر الحدود إلى بلده، محمياً بحشد حوثي رفيع المستوى ومهندماً وفي صحة جيدة، كان الحوثيون قد تيقنوا أن أحلامهم السياسية لم تعد ممكنة. أما صالح فراح يصدر بيانات متتالية تتحدث عن "الأشقاء في المملكة العربية السعودية". الأمر الذي دفع مستخدمي الفيس بوك إلى نصيحته بترديد جملة عبارة "شكراً سلمان".
ستضع الحرب أوزارها، وسنعيد كيمنيين بناء أرضنا من الدرجة صفر، وذلك ما سيجعلنا نتذكر مع كل حجرة نضعها على أخرى لماذا حل بنا كل هذا.