تَعِــز.. قصَّةُ صُمودٍ اسْتِثْنائِي

بينما كانت القُطعان الشاردة، تُمارس هواياتها اليومية، في سرقة ونهب مُمتلكات المواطنين وإذلالهم، على مَدَاخِل مدينة تعز، طوال الشهور الماضية، كانت شمس تلك المدينة الجميلة كعادتها، تبعثُ بإشعاعاتها كل صباح، فتصافح القلوب والأرواح، وتملأ فضاءاتها الرحبة بضوئها الوضَّاح، غير آبهة بتلك الكائنات الغريبة، التي شوَّهت سِحْر جمالها، ولطّخت نقاء طبيعتها، كما لوَّثت تُربتها، بعفن قاذوراتها ومُخلفاتها.
ولأنها تَعِـز، أصل القصة ومُبتدأ الحكاية، بمفرداتها التي لا تنتهي، وبتفاصيلها التي لا تُمَلّ، حكاية إبداع ثوريٍّ مُتجدِّد، وعُنفوانُ شباب مُتَّقد، كانت ولاتزال هي نواته ومُنطلقه منذُ ثورة 48، التي أطاحت بالإمام يحيى، و62 التي أطاحت بولده الإمام أحمد، وحتى2011م، التي أطاحت بحفيدهما الإمام صالح، الذي ارتدى عبَاءَة الجمهورية، وتحتها ظل يُخفي قميص الإمامة والسُلالة طيلة 33 عاماً، فقد تمكنت من دَحْر تلك الكلاب الشاردة من على مشارفها، وطردتها خارج أسوراها، حيث لم يعُد يُسمعُ اليوم نُباحُها ولا عُواؤُها.
تجوَّلتُ خلال الأيام الماضية في شوارع مدينة تعز، وبخاصة تلك التي جثمَ فيها الغُزاة لأشهر طويلة في الجبهة الغربية، وسَرَحْتُ فيها طولاً وعَرْضاً، بدءً بجولة المُرور فشارع الحَصِب وبئر بَاشا، ومروراً بالثلاثين وسدّ الجَبَلَيْنِ، وصولاً إلى وادي الضباب، كانت الأرضُ تحضُنني مع جُموع الناس كأم رؤوم، وكأنها تحتفي بأبنائها بعد طول غياب، وكنتُ كعاشق وجدَ الحبيبة بعد فراق، فأخذ يقبِّلها ويلثُمها، ولم يشفه منها –رُغمَ ذلك- طول عِناق.
كنتُ برفقة بعض الأصدقاء، وكان الجو شديد الحرارة، فربيع تعز قد استوى مع صيفها في السخونة، كان بائع الثلج يلوِّح إلينا ببعض قطع الثلج طالباً منا الشراء، بَدَتْ أشعة الشمس وهي تُعانق تلك القطع الثلجية، كحبَّات لؤلؤ تناثر في الفضاء، وتتراقص أمام أعيينا، كنغمات موسيقى تتمايل في الهواء، كانت فرحتنا لا توصف بتلك القطع الثلجية، التي باتت في متناول اليد بين عشية وضحاها، وهي التي كانت قبل أيام قلائل ربما تُساوي وزنها ذهباً.
لا تحسبوني مُبالغاً، فأنا أكتب من قلب مُعاناة، عشتُ كل دقيقة في تفاصيلها مع صغاري، الذين أبوا إلاَّ أن يكونوا جزءاً من قصَّة الصُّمود الاستثنائي، لمدينتهم الاستثنائية تعز، منذُ أول يوم لهذه الحرب اللعينة، التي لا يُريد نَزَق السياسيين لها نهاية على ما يبدوا حتى اللحظة، والتي ستدونها ذاكرة الأجيال حتماً، وستحكيها كتب التاريخ قطعاً.
كانَ جبل هَانْ الاستراتيجي، المطل على وادي هَارِبْ "غرب تعز" شامخاً يُعانق السماء كعادته، وقد تَرَاءَى لي كأسد رابض، يرقُب بعينيه حركة كل داخل إلى المدينة وخارج منها، من مختلف الاتجاهات، فعندما تعتلي قمة ذاك الجبل الهام، وتقف باتجاه المشرق، تُصاب بالذهول أولاً من بديع المشهد وجمال المنظر، وتحِسُّ بأنك تستطيع احتضان المدينة بأسرها في كلتا يديك.
تبدو كامل المدينة أمامك بوضوح حتى الحَوْبَان، فيما لو أخفضت عينيك نحو الأسفل قليلاً، سيصبح سدَّ الجَبَلَيْنِ تحتك، ومناطق الظُّهْرَةَ ووادي التَّبَدُّدْ والثلاثين أمامك، وإن مِلْتَ بنظرك قليلاً باتجاه جنوب شرق فسترى كلية الطب ومباني الجامعة عن بُعد، أما يمينك جنوباً فوادي الضَّبَاب وحدائق الصالح، وإلى الجنوب الغربي وادي المَجَافِي والألواح وخط مدينة التُّرْبَة، وعن يسارك إلى الشمال، يقع مُعسكر اللواء 35، المُطل على شارع الخمسين شمالاً، وعلى الثلاثين جنوباً، والذي كان هدفاً للتحالف طوال الشهور الماضية، ومن خلفك ترى بوضوح وادي مَدَرَاتْ ومناطق حِذْرَان ومُنِيْف وكِشْرَانِيَة والحَيْمَة والرُّبيْعِي، وإمبراطوريات هائل سعيد والشيباني، وخط الحديدة، ثم مروراً بمدينة هَجْدَةَ، ووصولاً إلى مدينة المَخَا على ساحل البحر الأحمر.
تكفيكَ نظرة واحدة من بعيد، صوب ذاك الجبل الأشم، الذي أسهبتُ في الحديث عنه لأهميته في الحرب الراهنة، ولأنني شرُفتُ يوماً باعتلاء قمته على وُعُورته، لتدرك معها كل معاني الكبرياء والغُرور، لمدينتي الاستثنائية التي أتحدَّث عنها، تلك المدينة التي يُشعرك مُجرَّدُ إحساسك بالانتماء إليها، بأنك أصبحتَ إنساناً مغروراً، وأعني بالغرور ذاك الذي يُمتدحُ فيه الرجال، حين يكون سلاحا يُغاظُ به العدو ليس إلاَّ، أما الغرور بصفة الذَّم، فلا وجود له بقاموس مدينتي قطعاً.
على طول الخط، كانت المساكنُ والأبنية -على تواضعها- تُطَاوِلُ السماء بشُموخها، بينما أسطُحَها ونوافذها المُتهالكة، تحكي قصص بشاعات البرابرة ولصوص الأوطان، حين يجتاحون المدن، وعلى جنَبَات الطريق كان باعَة مُتجولون، يُهدُون إلينا بعض ابتسامات النصر، رغم حياة الكدح وشظف العيش، البادية على وجوههم.
أما أطفال الحَالِمَة، فقد خرجوا إلى الأزِقَّة والحَارات، على طريقتهم الخاصة، يُوزِّعون قِطَع الحَلوى على بعض أبطال المقاومة، وهم يُغنُّون أهازيج النصر، ويرددون شعارات تُشيد بالمقاومة ورجالها.
نُدرك جيداً أن النصر لم يكتمل بعد، وأن المعركة لا زالت طويلة، لكن ذاك التقدم الذي أحرزته المقاومة الشعبية، بدعم مباشر من الجيش الوطني، وبغطاء جوي من التحالف العربي، على الجبهة الغربية للمدينة، قد فتح الحصار عن المدينة وإن بشكل جزئ، ووسع من دائرة الأمل صوب تحرير المدينة بشكل كامل على المدى القريب، وأولُ الغَيث قطْرٌ ثم ينهمِرُ.
آخر القول .. للخائفين والقلقين على تَعِز رُوَيدكُم .. تَوقَّفُوا..! لا شيء في مدينتي يبعث على الخوف أبداً، كما ليس فيها ما يدعوا للقلق مُطلقاً، وإن كان ثمَّة شيء من ذلك ينتَابُكم، ففتشوا عن أسبابه بدَوَاخِلكُم وذَوَاتِكُم، أما مدينتي فلازال أطفالها يحملون الأقلام ويذهبون إلى المدارس، كما لازالوا يحيُّون العلم في الطابور عند كل صباح، فيما نساؤها لازِلنَ يُجدن الزَّغَارِيد من على الشُّرُفَات، كما لازِلْنَ يَتفنَّنّ في نُقُوشِ الحِنَّاء، على أيادِيهن وسَوَاعِدِهِن.
لا خوف على مدينتي، فقصتها طويلة.. طويلة، وذاك ليس سِوى مُبتدأ الحكاية، حكاية الصُّمُود الاستثنائي، للمدينة الاستثنائية.

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص