شطحة 13

الليلة على الجسر، المساء يتثعب من قمم أبراج الكنائس القريبة، القديسون يخرجون من رنين الأجراس، ّهيمنجوايّ يقف مهيباً في المسافة الفاصلة بين الصوت والصدى، ويقرع جرساً كونياً لم أر قبل الليلة مثله.
انطلقتُ جهة "القديسة مارجريت" ولما وصلت الباب وجدت ّجيمس جويسّ يصرخ بي: عد من حيث جئت أيها الشرقي "الله ليس في الكنيسة".
أرجعُ إلى الجسر، أعلق روحي على حبال الليل، وامتد جسراً موازياً لجسر واترلو. حشود كثيفة من أهل الحب يمرون، دراويش، سحرة، رهبان، شباب ينطلقون على نغمات موسيقى صاخبة يبحثون عن فتيات يتماهين مع أمواج المساء. الليلة السبت، وكؤوس الألفاظ تطفح بسكرة المعنى.
نجمةٌ تخرج من النهر تقطر ضياءً تقول: انظر هناك. أرفع بصري، أرى نجمة الشرق في السماء التي بدت الليلة خالية من غيوم لندن، تبعث لي بنور رطب، ألقى الشعاعُ المبللُ رسالةً جاء فيها: كلهم جاؤوا من الشرق فعد إليه.
تكومتْ للتو غيمة أخرى خرج منها باولو كويلو. 
قلت أين هي؟ 
قال: هناك على نهر بييدرا. 
قلت: كنت البارحة هناك ولم أجدها. قاطعتنا موجة تقدمت إليَّ بحركة مستفزة وهي تشق ثياب الماء، وتقول: قلتُ لك إنها ليست هنا.
قال كويلو: آسف يا صديقي؟ هلا ذهبت إلى "الجبل الخامس"؟، ربما وجدتها حيث وقف إيليا مجروحَ الروح في رحلته إلى الله. 
قلت: لم يكن في الجبل الخامس إلا أوهامُ الفينيقيين. 
قال: إذن فالمكان الوحيد المتبقي هو أن تذهب إلى أهرامات مصر، ربما وجدتها هناك، حيث جثا الراعي الأندلسي يحفر الرمل بحثاً عن كنوز الفراعنة، فإن لم تجدها هناك فاسأل عنها غيري، فقد أعيى الخيميائيين قبلك الوصولُ إليها. وهنا خرجت إيزابيل ألندي، تقول: دعك من هذا الخارج من موجة الخرافة: إنك لن تجدها إلا هناك في سان جابرييل.
سخر كويلو وقال لي: الحق أقول لك: الأمريكيون آخر من يمكن أن يدلك عليها، هل تعلم لماذا نحن أشقياء في أمريكا اللاتينية؟ لأننا بعيدون عن الله، قريبون من الولايات المتحدة. مضى كويلو محملاً بغضبة أليندي التي قالت له قبل أن تنصرف: أنا لاتينية خالصة أيها المعتق بالهذيان. 
تركاني على الجسر وأفواج السكارى يمرون من هنا، ولندن وسط الموج تراقص زوربا الإغريقي في لحظة شطح بالغة الكثافة...
خرجت إلين من النهر تقول: كنت تبحث عني، أليس كذلك؟ 
قلت: أين هي؟ قالت: آه منك أيها الشرقي الذي شرب الظمأ على ضفاف التايمز!! تركتني ومضت لا أدري إلى أين!!
وعلى مرمى شطحة واحدة كانت رابعة العدوية، تصلي فوق سجادة الماء...قلت: يا سيدة العاشقين،خلق كثير قالوا إنهم رأوها في أماكن لم أرها فيها. أين هي؟ 
قالت: لا تـُكذِّب من قالوا لك إنهم رأوها حيث لم ترها، لأنهم رأوها حقاً حيث وصفوا لك، غير أنك لم تكن محظوظاً إذ جئت المكان الذي رأوها فيه بروح كثيفة، فلم ترها. يا بني ضباب لندن حجاب، فانتبه، ألا أقول لك شيئاً إن فعلته وجدتها؟ 
قلت: قولي لي بالله عليك؟ قالت: ابحث عن نفسك، فإنك تجدها عندما تجد نفسك. ثم قالت رابعة: يا بني قم من هنا، أخشى عليك رطوبة هذا المساء، وهذه الموجة التي تتوثب بصورة مستفزة لتشق جيب النهر في طريقها إليك، قم من هنا سريعاً. 
قلت: يا سيدة العارفين: كيف أصل إليها؟ 
قالت: إنك ستتعلق بالصورة أولاً، وستمضي بك الصورة، حتى إذا قطعت مسافة إليها ستصبح الصورة غير مجدية، ستغدو حجاباً بينك وبينها، وعندها ستتعلق بالكلمة، فإذا واصلت سيرك إليها أصبحت الكلمة ذاتها حجاباً، ثم تلوح لك الإشارة من جانب الوادي الأيمن، ثم إذا واصلت المسير تصبح الإشارة كذلك حجاباً، حتى تكون الفكرة هي الدليل عليها، فإذا وصلت ذابت الصورة والكلمة والإشارة والفكرة وذبت أنت في العدم ولا يبقى إلا وجودها فافهم. 
قالت رابعة ذلك، وأخذت بيد لندن، ومضت وسط دهشتي من العلاقة الحميمة بين المرأتين.
يأتي شرطيان من اسكتلنديارد، يقفان بمحاذاتي، يقول أحدهما: لقد انتصف الليل أيها الغريب، اذهب إلى بيتك، أين تسكن؟ 
قلت: ليس لي بيت. 
قال: إذن سنأخذك إلى السجن. 
قلت: وهل أجدها هناك؟ 
قال عمن تتحدث؟ 
قلت: عنها. 
قال: من هي؟ 
قلت: هي هي. 
ضحكا كل منهما للآخر ضحكة مجلجلة، وقال لي الأول: يبدو أنك أترعت الكأس الليلة يا صاح. 
قلت نعم: "سكر ولا أقداح". 
قال: رجال العصابات يكثرون في هذه الساعة، ولا بد أن تأخذ طريقك إلى البيت.
قلت: ليتني أعرف بيتي، ليتني أعرف طريقي إليه. أنا يا ناطور هذه المدينة شرقي جاء يبحث عن الشرق في هذه الأقاصي الغربية، بعد أن دمر هولاكو مدن الشرق، فلا أنا بلغت الغرب، ولا اهتديت لطريق العودة إلى الشرق. 
أنا الكلمة التي خرجت من القاموس وضلت في طريق العودة إليه. أنا الكلمة التي حاولت أن تكون نصاً ثم عاقبها المتن بطردها إلى الهامش. 
حاولتُ أن أكون علامة تعجب كبرى، فانتهيت علامة استفهام محيرة. أنا الذي قضى العمر من نهر إلى نهر، ومن دير إلى دير، ومن صومعة إلى بيعة إلى مسجد أبحث عنها. 
طفتُ كل البلاد، وسافرت مع كل الطيور في رحلتها إلى الـ"سي مورغ" الذي حدث عنه ّالعطارّ دون فائدة.
أنا الذي جرعت كل الكؤوس حتى أصبحتُ كأساً، وسلكت كل الطرق حتى غدوتُ طريقاً وعبرت الجسور حتى أصبحت جسراً معلقاً بين ضفتين، بين تيهين، بين وحشتين، بين بحرين، بين نهرين، بين عالمين، بين حضارتين، بين دفتين لكتاب غامض، لا أنا أستطيع الوصول إلى الدفة الأخيرة له، ولم أعد أستدل على صفحة العنوان...
آه مني، من النهر، من الجسر، وآه عليها كلما بحثت عنها وجدتها في طيات الغياب..
تركني الشرطيان ذاهلين، وساعتها خرج من الجهة الشمالية للجسر درويش قديم يقول: ما أشد عذابك الليلة أيها المسكين، تبحث عنها وهي في روحك، لا تكثر الخـُطا إليها، لك أن تعرف أن لكل سالك حالاً، فلا تتقمص أحوال غيرك، ولا تسلك طريقاً سلكها سواك، فإن الطرق إليها متعددة بعدد السالكين، وليس بالضرورة أن تجدها في المكان ذاته الذي وجدتها أنا فيه، لقد وجد قيس ليلاه في العراق، وأنت قد تجدها في "وادي الغضا"، فافهم مدارج السالكين. يا بني: البعض وصلوا إليها بالسير، وآخرون وصلوا إليها بالوقوف..من الناس من إذا سار ضل، وإذا وقف وصل، ومنهم من إذا سار وصل، وإذا وقف ضل. قلت: وأنا، من أي الفريقين؟ قال: لا أدري. قلت: واطول عذاباه، وما العمل أيها الخارج من أضرحة الصالحين؟ قال: لا أدري، ولكنك لن تموت إلا بعد أن تجد طريقك إليها فكن على يقين من ذلك. عندها عادت لندن مع ساعات الفجر الأولى، ومضى الدرويش جهة دير قديم.
قالت لندن: اقفز إلى النهر، انقع روحك في التايمز، هذا نهر الملوك أيها البدوي الأجرب الروح، من تبحث عنها ليست هنا، ولا فائدة من كثرة الأسفار، والوقوف على الضفاف والجسور، من تبحث عنها هناك في الشرق البعيد الذي يعبد الأوهام والخرافات والنجوم.
ولتني لندن ظهرها، وذهبت بأرجل متثاقلة مبلولة الروح بطفح الكؤوس بعد ليلة صاخبة، واختفت في شارع اللوردات.
مضيت وحيداً، على غير هدى أسير... دلني عليها يا رب. كثيرون دلوني ولم أصل، لم يبق لي إلا أنت. قال قائل: ستجدها عند جذر الهرم الأكبر، وقال آخر إنها هناك في جزيرة "كريت" تخرج من موجة موسيقية يعزفها زوربا، وصوفي قديم قال: ابحر إليها، وآخر قال: انتظرها على الضفة، وثالث قال: الويل لك إن عبرت النهر، والويل لك إن مكثت على الضفة، وشاعر عربي قديم قال: إنها هناك في المسافة الفاصلة بين العراق ووادي الغضا، بين الماء والظمأ، وفيلسوف إغريقي قديم قال: إنها هناك في مدينة السماء، وأضاف أن الشعراء ممنوعون من دخولها، وعندما سألته وما الحيلة؟ قال: اذهب إلى الشيخ أرسطو، ذهبت إلى أرسطو، قال: السماوات كلها في روحك، والطريق الصحيح يتجه إلى الداخل. وروحي الليلة سماء ثامنة تختصر فيها المسافات، وتضمر المظهرات، وتذوب فيها النجوم والشموس والمجرات. أنا الليلة روح خالصة، شفت، ورقت، وسمعت، ولامست، ورأت، ولما رأت منعت عن الكلام.

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص