أثارت الوثيقة التي بثَّتها قناة الجزيرة حول مخاطبة المكتب التابع لمفوضية الأمم المتحدة السامية لحقوق الإنسان، مع القيادي الحوثي "محمد حجر" بصفة "القائم بأعمال وزير الخارجية في اليمن"، جدلاً واسعاً وسط المتابعين للشأن اليمني، خاصةً في أعقاب صدور تقرير أممي يتضمن المعلومات التي أدلى بها القيادي الحوثي. وهو بحق تواطؤ مريب، وأقلّ ما يقال عنه، بأنه يُضفي الشرعيّة على مليشيات مسلحة مارست في حق اليمنيين أبشع الجرائم. بيد أننا في اليمن تعودنا خلال السنوات المنصرمة على مثل هذه المواقف السلبية من هذه المنظمة الأممية، وهو ما سأحاول كشفه عبر هذه المقالة.
لن ينسى اليمنيون بالطبع، لحظة اجتياح مليشيات الحوثي للعاصمة صنعاء، وكيف كان ممثل الأمم المتحدة يجلس في غرفة واحدة مع عبد الملك الحوثي. وقد نحسن الظن، ونقول إنه كان هناك يتوسل زعيم المليشيا ويحثّه على إيقاف نزيف الدم اليمني والجلوس إلى طاولة المفاوضات مع بقية الأحزاب اليمنية. وربما نختلف في تأويل طبيعة تلك الجلسة، لكن الثابت أنَّ عبدالملك الحوثي لم يكن رجل سلام بالطريقة التي تخيّله بها الممثّل الأممي، إذ ليس في سجله السياسي ما يدلِّل على مرونة أو مُرُوءة سياسية؛ فقد عاش في الكهف معظم سني عمره ولم يتعلم سوى تكرار السرديّة المشروخة حول أحقيّة سلالته في حكم اليمن. وقد منحته هذه الخرافة قيمة رمزية لدى مجموعة من الأتباع الذين لا يتقنون سوى القتل والتفجير، وهو الأمر الذي شجعه لتوجيههم باجتياح صنعاء.
أمر مليشياته باجتياح صنعاء وهو يبتسم ساخراً في وجه جمال بن عمر، مبعوث الأمم المتحدة حينها إلى اليمن.
والأدهى من ذلك، أنه منذ بدأ التوسع الحوثي خارج أسوار صعدة في أقصى الشمال، والتمدد صوب العاصمة صنعاء، والأمم المتحدة تنادي وتطلب من الجيش اليمني أن يبقى على الحياد. هل قرأتم في التاريخ أو سمعتم أن مليشيات مسلحة تجتاح المدن والقرى، والأمم المتحدة تطلب من الجيش الوطني أن يبقى على الحياد؟ هذا بالضبط ما حصل في اليمن..
تم اجتياح العاصمة وأصحبت المليشيات تتجول في شوارع صنعاء وتُثير الرعب وتنشر الدمار في ربوع البلاد، فيما كانت بعثات المجتمع الدولي في اليمن تتمادى في صمتها المريب.. ومن المفارقات أن المليشيات اقتحمت المؤسسات العامة والخاصة وقتلت كل وقف أمامها بينما قامت بحماية السفارة الأميركية
واصلت كل السفارات -بما فيها سفارات دول الاتحاد الأوروبي وأميركا- عملها ولم يصدر عنها موقف أخلاقي أو قانوني يتناسب مع سقوط عاصمة دولة بيد مليشيات مسلحة. ولم نسمع لهم صوتاً إلاَّ عندما بدأوا بالتذمر من عمليات تفتيش الحوثيين لحقائب الدبلوماسيين!
ومع أني لا أحبّذ اللجوء للمقارنات في هكذا حالات، لكن التفكير في هذا المشهد يكاد يجعلني أجزم بأنه شبيه بمذابح مماثلة جرت في رواندا والبوسنة. وأشير هنا بشكل خاص إلى المشهد التراجيدي الذي يصرخ فيه بطل فيلم " فندق رواندا": "لمَ لا يتدخل أحد لإنقاذنا". وثق لنا الفن والتاريخ تلك القصة المأساوية التي جرت في البلدين، والمواقف الأخلاقية المخزية للبعثات الدوليّة حيال المذبحتين..
فلنعد إلى اليمن.. من خلال الجرائم التي وثقتها أنا شخصياً وتم عرض جزء بسيط منها في فيلم خيوط اللعبة الذي تم بثه قبل شهرين ضمن سلسلة الصندوق الأسود على قناة الجزيرة أستطيع القول وبكل ثقة إن جماعة الحوثي كانت تحارب وكأنها جماعة غازية لدولة أخرى، فهي على سبيل المثال تزرع الألغام وعندما تنسحب من المنطقة ترفض تسليم خرائط الألغام، بل وثقت أكثر من قصة تم فيها تلغيم الجثث، هل يحق لنا أن نسأل مثلاً، هل سيُعاقب هؤلاء على كل هذه الجرائم، أم إن ما فعلوه سيصبح مساعداً لهم على تحقيق أهدافهم.
ما بعد اجتياح صنعاء ومحاولات إسقاط الشرعية
توالت الأحداث بعد دخول الحوثين إلى صنعاء، ويتم التوقيع على اتفاقية السلم والشراكة تحت ضغط السلاح. ومن تابع إيقاع التحرك العسكري وإيقاع ما سمي بالمفاوضات حينها، فسوف يلاحظ كيف أنَّ جماعة الحوثي كانت تسعى في تلك الفترة لتأسيس واقع سياسي جديد تكون فيه مؤسسة الرئاسة مجرد سكرتارية لعبد الملك الحوثي ليصبح بذلك زعيم المليشيا بمثابة "رئيس الرئيس"، بصورة وكأنها مستنسخة من "ولاية الفقيه".
وهكذا تتسارع الأحداث، ويُحاصر رئيس البلد في العاصمة رغم تطمينات جماعة الحوثي المتكررة سابقاً، بأنه ليس هدفاً لها. ويقتل بعض مرافقي الرئيس ويحاصر منزله في صنعاء بصورة مهينة ما يجعله يقدم استقالته تحت تلك الظروف القهرية. يتراجع عنها لاحقا بعد تمكنه الخروج إلى عدن. والأمر لا يتنهي هنا، لأنَّ مليشيا الحوثي وعلي صالح، لاحقت الرئيس هادي وقصفت مقر إقامته في "قصر المعاشيق" بالمروحيات العسكرية. وعند وصول المليشيات إلى بوابة عدن يقرر الرئيس مرة أخرى، الخروج منها إلى المكلا. وهناك كانت المحاولة الأخيرة للتخلص من الرئيس هادي كانت هذه إحدى القصص التي وثقناها في فيلم خيوط اللعبة ومن المفارقات الغريبة أن ياسر العواضي وهو أحد أعضاء وفد المليشيات في الكويت كان من المنسقين لمحاولة الاغتيال الأخيرة.
كل هذه الممارسات ارتكبتها المليشيات الحوثية رغم قرارات الأمم المتحدة، وبالرغم من تورط قياداتها ضمن قائمة المعرقلين التي أصدرتها الأمم المتحدة وهددت فيها بملاحقتهم بالعقوبات. وهذا ما يدفع اليمني البسيط للتساؤل حول جدوى القوائم إذا كان زعماء العصابات يستهزئون بها قولاً وعملاً ثم تتاح لهم فرصة يكونون خلالها جزءًا من عملية التفاوض. يُسقطون مؤسسات الدولة ويقومون بزرع عناصرهم في كل مفاصلها، ثم يجاهرون بكل صفاقة بأنهم "لن يسلموا السلاح ولن ينسحبوا من المدن إلاَّ لحكومة خلاص". ولكم أن تتخيّلوا حكومة خلاص تأتي مُلزمة بأمر واقع تفرضه المليشيات وتبدأ الأمم المتحدة بمناقشة هذا المطلب ليصبح بعدها مطلباً قابلاً للنقاش.. ياللعجب!
في الواقع، هذا هو السياق الذي جاء فيه تدخل التحالف العربي في اليمن بقيادة السعودية وبدأت على إثره عاصفة الحزم. وسواء قامت السعودية بهذه المبادرة تلبيةً لرسالة من الرئيس هادي، الرئيس الشرعي للبلد، أو فعلت ذلك لشعورها باقتراب الخطر منها أو أيّا كانت الدوافع، لكن الثابت بأن لغة الجغرافيا السياسية تجعل تدخل التحالف أمراً متفهماً من الناحية الجيوسياسية. وحتى من ناحية الجانب الأخلاقي في الموضوع، فإن ما فعلته جماعة الحوثي في اليمن، من تفجير وقتل واعتقال، قد دفع جزءاً كبيراً من الشعب اليمني ليتقبل بل ويستبشر بتدخل التحالف.
بعد كل ما سلف ذكره، تأتي الأمم المتحدة وممثلوا الدول الكبرى إلى حوار الكويت ليمارسوا الضغط على وفد الحكومة بحجة أن الحل العسكري لن يحل المشكلة.
التزموا الصمت عندما فُرض الخيار العسكري على الشعب اليمني، بل وطلبوا من مؤسسات الدولة الحياد. الآن وقد بدأت قوات الشرعيّة التعامل مع الواقع العسكري الجديد باللغة التي يفهمها ترتفع الأصوات مرة أخرى بعدم جدوى الحل العسكري،
مع أهمية القرارات التي أصدرتها الأمم المتحدة حول الشأن اليمني، إلا أنها تظل مجرد نصوص أصبحت خاضعة لتقييم المليشيات بأنها غير قابلة للتطبيق ويصبح هذا التقييم قابلاً للقناش على طاولة المفاوضات.
مما سبق نستطيع القول وبثقة أن تعامل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي بهذا المنطق كان أحد أبرز العوامل التي انتجت المشهد الحالي في اليمن.
والسؤال المطروح الآن، هو التالي:
من الذي سيكبح جماح جماعة الحوثي ومليشيات المخلوع صالح ويجعلها تتردد في تفجير المباني وزراعة الألغام وإرهاب المجتمع بهدف الوصول للحكم بقوة السلاح إذا كانت تدرك أن بإمكانها فعل ذلك دون أي رادع؟ بالأحرى، هذا التعامل من شأنه تمكينها من الجلوس على طاولة المفاوضات بإشراف الأمم المتحدة كخطوة من خطوات الشرعنة لانقلابهم العسكري على الحكومة الشرعيّة في البلاد.
ماذا تحتاج أي مليشيا أكثر من تعامل كهذا لتحقق بالمفاوظات ما لم تحققه بالفعل العسكري
للأسف، الملف اليمني أثبت أن المجتمع الدولي لا يفهم إلا لغة الأمر الواقع، لأن ما تقوله تحركات وتصريحات الأمم المتحدة وتعاملها مع القرارات التي تصدرها، يشجع أي معتوه يمتلك مجموعة من المسلحين إلى القيام بفرض أمر واقع في أي بقعة من بقاع الأرض، مادام أنه لايهدد مصالح الدول الكبرى.
من هنا، يصبح نهج الأمر الواقع سيد الموقف ليأتي بعدها دور طاولة المفاوضات لشرعنة ما حدث مهما كانت بشاعته. ويبدو أنّ الناطق الرسمي للانقلابيين قد فهم هذا الرسالة، ولذلك لم استغرب عندما سمعت من أحد المطلعين على تفاصيل مفاوضات الكويت أن محمد عبد السلام عندما تُذكر جرائم الحوثيين يقول وبكل بساطة: "دعونا من موضوع أننا خطفنا فُلان أو علان أو اجتحنا هذه المنطقة أو تلك". وهكذا، بات الناطق الرسمي لهذه الجماعة المسلحة، يدرك أنَّ كل جرائمه يمكن أن تستثنى من النقاش، دعك عن المحاسبة. ولا يجد حرج في تكرار هذه التصريحات الممجوجة على طاولة مفاوضات تشرف عليها الأمم المتحدة، وهي المنظمة التي تتولي مهمة الإشراف على تنفيذ القرارات الأمميّة المنطوية تحت بند مبدأ "مسؤولية الحماية والذي يقوم على ثلاث ركائز: (1) مسؤولية الدول في حماية مواطنيها، و(2) مسؤولية المجتمع الدولي لمساعدة الدول في حماية مواطنيها، و(3) تدخل المجتمع الدولي بشكل حاسم في حال فشل الدول المعنيّة للقيام بمهمة حماية مواطنيها.
حتى لحظة كتابة هذه الأسطر والمليشيات ترتكب أبشع المجازر في تعز في ذات الوقت الذي تجلس فيه على طاولة الحوار، هذا تستثمر مليشيات الحوثي وصالح تعامل الأمم المتحدة والمجتمع الدولي معها.
الخلاصة، أن تعاطي الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مع الملف اليمني يكرّس سياسة التعامل مع أمر الواقع، أي أن كل من يستيطع فرض سياسة أمر واقع، سيتم انتعامل معه في النهاية ولا يهم ما هي الوسيلة التي استخدمها، أو المخالفات التي ارتكبها في سبيل فرض تلك السياسة. من هنا، يتوجَّب على معسكر الشرعيّة والتحالف أن يستوعب تلك الإشارات ويجعلها جزءًا من دبلوماسيته عند التعاطي مع البعاث الدولية.
أختم، بما صرحت به في أول لحظة انطلقت فيها عاصفة الحزم، أن ملف اليمن يمكن أن يكون سبباً في تشكّل نواة مشروع عربي جديد وبإمكان دول الخليج أن تعيد تعريف نفسها للعالم من خلال الملف اليمني بشرط أن يتعامل التحالف مع الملف اليمني بشكل مسؤول وذكي ومتجاوز لكل عُقد الماضي.
وستبقى صورة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي مشوهة في ذهنية الإنسان اليمني بل والأجيال القادمة ما لم يتم التعامل مع المليشيات بالطريقة التي تتناسب مع الجرائم التي ارتكبوها.