"الحديدة" عروس البحر الأحمر، يطلق عليها هذا اللقب كونها مدينة متألقة بشواطئها ومنتزهاتها الممتدة على طول ساحل المدينة، وهذا ما يجعلها قِبلة سياحية مفضلة لدى شريحة واسعة من اليمنيين.
تعد "الحديدة" من أكبر المدن اليمنية وأكثرها توسعاً وسكاناً، وكغيرها من المدن الأخرى طغى أسلوب الحياة العصري على سمات المجتمع، واندثر مع هذا الأسلوب الكثير من العادات التي كانت تميز شهر رمضان المبارك، وبالرغم من ذلك يبقى لشهر رمضان معنى خاص في هذه المدينة الساحلية الجميلة.
عند حلول شهر شعبان يسود عند المجتمع التفكير والاستعداد لاستقبال شهر رمضان، وتجد الكثير من المحافظين على العادات المتوارثة يقومون بتنظيف بيوتهم وترميمها وتهيئتها وتعليق الزينة في فناءاتها وعلى أبوابها، ويتفقدون المساجد ويعملون على صيانتها، استعداداً لإحياء الليالي الفضيلة لهذا الشهر في العبادة، ومع اقتراب شهر رمضان تستعر الأسواق بالمستهلكين، ويزداد الطلب على المواد التموينية؛ لتأمين كل متطلبات شهر رمضان من المواد الغذائية.
ويأتي عصر اليوم الأخير من شعبان؛ حيث يكون يوماً حافلاً للمهتمين برؤية هلال رمضان، فيتجمعون إلى جانب لجنة رؤية الأهلة على شاطئ كورنيش الحديدة، حاملين معهم مناظيرهم ويترقبون رؤية بزوغ هلال رمضان المبارك، وعندما يتم تأكيد رؤيته يزف الخبر عبر المحاكم إلى السلطة العليا في الدولة؛ ليعلن حينها وصول شهر رمضان المبارك، وبالتالي فإن مدينة الحديدة تميزت عن غيرها من المدن في تحديد وصول هلالي رمضان وعيد الفطر بسرعة ودقة كبيرة بسبب موقعها الجغرافي على السواحل الغربية والطبيعة المناخية لها.
لا تختلف الأيام الرمضانية كثيراً لدى أبناء مدينة الحديدة فجميعها متشابهة تقريباً، النهار يتحول إلى ليل؛ حيث ينام معظم ساكنيها نهاراً ويتأخر بداية الدوام الرسمي من الثامنة في الأيام العادية إلى العاشرة صباحاً في نهار رمضان ويتقلص إلى سويعات قليلة، أما بالنسبة للشباب والمهتمين بالرياضة، فإنهم يحرصون على الخروج بعد صلاة الفجر إلى سواحل المدينة للتنزه وممارسة رياضاتهم ككرة القدم والسباحة في البحر.
ويدب النشاط الفعلي في المدينة من بعد صلاة العصر؛ حيث يخرج الناس إلى شراء متطلبات إعداد وجبة الإفطار والبعض يتجه لشراء "القات"، وتعج المدينة بالحركة الكثيفة من بعد صلاة التراويح وتنشط الأسواق التجارية، وبالأخص أسواق الملابس التي تمتلئ بالمتسوقين لشراء ملبوسات عيد الفطر المبارك.
تفضل العائلة اليمنية عادة إعداد أكلات متنوعة على وجبة الإفطار، ولعل أهمها "الشفوت" وهو عبارة عن غمس "اللحوح"، نوع من أنواع الخبز مع اللبن أو الزبادي، ويتم تقديمه بارداً، وأيضاً يتم إعداد "السمبوسة"، وهي عجينة رقائق ملفوفة مثلثة محشوة باللحم أو الخضراوات، ولا ننسَ الشوربة المتعددة النكهات والبسبوسة والمعجنات وغيرها من الأكلات.
بالنسبة لمن يمضغون "القات" وهم كثر، يفضلون الاستعجال في جدولهم الرمضاني؛ حيث يأكلون وجبة الإفطار ثم يصلون صلاة المغرب ثم يأكلون وجبة العشاء ثم يصلون صلاتَي العشاء والتراويح، وبعدها تبدأ جلسات تخزين "القات" وتقصر أو تطول بحسب رغباتهم، وقد تستمر إلى ما قبل وجبة السحور!
تزداد الروحانيات في المساجد، وتمتلئ بالمصلين خلافاً لما هو معتاد في الأيام العادية، وخصوصاً في العشر الأواخر لشهر رمضان، وتُعطى دروس ومواعظ دينية عقب كل صلاة، وعند ليلة السابع والعشرين من رمضان تمتلئ المساجد بشكل لافت، وخصوصاً في صلاة التهجد، ويزداد عدد المصلين أحياناً إلى الشوارع المجاورة لبعض المساجد، وكل ذلك إحياء لفضل تلك الليلة المباركة.
اعتاد التجار وأصحاب الأموال على توزيع الزكاة على فقراء المدينة في شهر رمضان ودعم الجمعيات الخيرية والإغاثية ودعم الحملات الرامية لبناء دور العبادة وترميمها ودعم المدارس القرآنية، وكل ذلك يأتي لما للزكاة من أهمية كبيرة لدى عامة المسلمين، فهي ركن من أركان الإسلام ويفضلون توزيعها في شهر رمضان لاحتساب الأجر المضاعف من الله تعالى.
أكتب هذه الكلمات وأنا متيقن أن هذا العام سيكون رمضان مختلفاً جداً في مدينة الحديدة؛ لأنه يأتي وسط ظروف صعبة تعيشها اليمن بسبب الحرب؛ حيث امتلأت المدينة بالنازحين وانخفض مستوى الدخل لدى الغالبية من السكان، ويأتي رمضان هذا العام في أجواء حارة جداً تصل فيها درجة الحرارة إلى 40 درجة مئوية، والكارثة هي انطفاء الكهرباء عن المدينة كاملة لما يقارب سنة كاملة، وانعكس أثر ذلك على طبيعة تقديم خدمات المستشفيات وعلى توفير المياه على كل الأحياء، ولا نعرف كيف سيتحمل الناس الصيام في ظل وضع صعب كهذا!
نسأل الله أن يفرج عنا وعن جميع المسلمين، وأن ينعم اليمن بالسلام في القريب العاجل.