يتردّد بين آونة وأخرى أن الجيش الوطني في اليمن، مسنوداً بالتحالف العسكري العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية، يعتزم اللجوء إلى الحسم العسكري، خيار ضرورة أمام تعثّر مساعي السلام التي لم تتح سوى مزيد من الوقت للانقلابيين، لتعزيز نفوذهم في أجهزة الدولة وسلطاتها، ورفد قدراتهم العسكرية بالمقاتلين والأسلحة والذخائر والإمدادات اللوجستية، والتوّسع في مناطق لم تكن خاضعةً لهم، مع انطلاق مفاوضات الكويت في إبريل/ نيسان 2016.
هنا، يمكن أخذ زيارة الرئيس عبدربه منصور هادي، ونائبه الفريق علي محسن الأحمر، إلى مأرب في 10 يوليو/ تموز الجاري، مؤشّراً واضحاً على وضع خيار الحسم العسكري موضع التنفيذ، في حال استمرار وفد الانقلاب في المفاوضات على موقفه المراوغ، كما يضاعف من تأكيد هذا الخيار خطاب الرئيس هادي في مقر قيادة المنطقة العسكرية الثالثة في مأرب، وقد أبدى فيه موقفه المشروط من العودة إلى مفاوضات الكويت، بأجندتها التي يتحفظ عليها، وتصادر مضامين قرار مجلس 2216 لعام 2015، ومنها: انسحاب مليشيا الحوثيين من المدن، وتسليم مؤسسات الدولة، وإعادة كل الأسلحة المستولى عليها، وإطلاق سراح المحتجزين السياسيين لديها.
كما تشي التعزيزات العسكرية التي تصل تباعاً إلى محافظة مأرب بأنّ عملية عسكرية كبيرة يجري التحضير لها، وأنّ التقدم الميداني الملحوظ الذي يحرزه، هذه الأيّام، الجيش الوطني والمقاومة الشعبية في مأرب والجوف وحجّة وصعدة، وفي مناطق جبلية على خطوط التحصين الطبيعي للعاصمة صنعاء؛ يأتي في إطار التحضير التدريجي للعملية العسكرية إيّاها، بضرب نقاط الارتكاز التي تقوم عليها خطة الدفاع عن العاصمة؛ وتفكيك الطوق التحصيني الأوّل الذي يشكل اختراقه مدخلاً للسيطرة عليها.
في هذا الصدد، تؤكّد شواهد التاريخ السياسي العسكري اليمني، أكثر من خمسة عقود من عمر النظام الجمهوري، وخمسة عقود قبلها في ظل حكم آخر أسرة من الأئمة، أنّ كل وقائع الاستيلاء على السلطة بالقوة لم تسجل نجاحاً لأيّ مسعىً سياسي بين الطرفين المتنازعين عليها، وأن خيار الحسم العسكري كان الفيصل، لتعزيز قبضة المستولي على السلطة، أو تمكين الساعي إلى استردادها. وعادةً ما كان حكام الأئمة يعمدون إلى هذا الخيار، بواسطة حروبٍ عنيفة، طويلةٍ أو خاطفة، ترافقها حالات نهبٍ ومصادرة للحقوق بالقوة الغاشمة، سواء كان منافسهم على السلطة من طائفتهم أو من خارجها. وقريبٌ من ذلك؛ حاكى هذا النهج بعض الزعماء في النظام الجمهوري، في ظروف مختلفة من الاستيلاء على السلطة، انقلاباً أو ثورة شعبية، في الشمال (الجمهورية العربية اليمنية) أو الجنوب (جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية) في فترة ما قبل الوحدة عام 1990 وبعدها، ومن ذلك ما تعيش البلاد تفاصيل أحداثه في الوقت الراهن.
من أبرز الوقائع المؤكدة على هذا المذهب، الانقلابات العسكرية والثورات الشعبية التي كان الإماميون طرفاً فيها، كما في ثورة فبراير/ شباط الدستورية 1948، وانقلاب الجيش في تعز في مارس/ آذار 1955، وثورة سبتمبر/ أيلول 1962؛ إذ تخلّلت بعضها مساع سلمية داخلية وخارجية متباينة القدر؛ بقصد المصالحة بين طرفي النزاع على السلطة، إلّا أنّ الظفر كان حليف من يقدّم خيار القوة على خيار السلام.
ففي ثورة فبراير/ شباط 1948، بعد مقتل أبيه، اجتاحت مليشيات قبلية، مساندة ولي عهد اليمن أحمد يحيى حميد الدين، معظم المناطق الوسطى من البلاد التي أعلنت تمرّدها وتأييدها الثورة، واستبيح فيها كلّ محرم؛ من مالٍ، وعرض، ودم. ولم تسلم من ذلك صنعاء كذلك التي أبيحت لمقاتلي القبائل مكافأة لهم، ومنهجاً قسرياً لتطبيع سلطة المتغلب ووأد الثورة في مهدها، وهو ما تم بالفعل، فقد سحقت الثورة الدستورية في أقل من شهر، أما حالة التطبيع القسري فاستمرت طويلاً، ثم تكرّر ذلك في إخماد انقلاب الجيش في مارس/ آذار 1955، ولم يلتفت لأيّ من نداءات السلام، مثلما لم يسمح لبعضها بالظهور؛ نظراً لشدة القمع. أما ثورة سبتمبر/ أيلول 1962 التي دارت رحى حروبها ثماني سنوات، فكان مسعى السلام الذي رعته المملكة العربية السعودية عام 1970، ليس سوى إقرار بالواقع الجمهوري المستأثر بالسلطة بالقوة العسكرية وشد أزر الجماهير، على الرغم من أنّ العربية السعودية كانت، آنذاك، مع الطرف الملكي الساعي إلى استرداد السلطة.
في أحداث يناير/ كانون الثاني 1986 في عدن، عاصمة الجنوب، كان الحسم العسكري أسبق إلى أيّ مسعى سياسي، يمكن أن تقدمه أيّ من الأطراف الإقليمية، واعتبرت الأحداث شأناً داخلياً، وساعد على ذلك أنّها لم تدم أكثر من عشرة أيام، كما لم تتمكّن صنعاء، بوصفها أقرب ذوي القربى، من إيقاف اقتتال الفرقاء واعتماد الحل السلمي؛ حيث عرض الرئيس السابق للشمال، علي عبدالله صالح، في خطاب متلفز، إرسال مجموعة من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية ممن أخرجوا إلى صنعاء عقب الحرب اللبنانية مع الكيان الصهيوني عام 1983؛ بقصد تثبيت وقف إطلاق النار في عدن، تمهيداً للدخول في مفاوضات لحلّ الأزمة سلمياً، لكن شيئاً من ذلك لم يحدث، وكان خيار الحسم هو الأسبق، وتمكّن أحد أجنحة الحزب الاشتراكي الحاكم من إقصاء الجناح الآخر، وفرض سيطرته بالقوة المسلحة على البلاد كلها.
وبالمثل، كانت حرب صيف 1994 نمطاً مشابهاً للاستفراد بالسلطة بخيار الحسم العسكري، وضرب كل مبادرات السلام، بعد الالتفاف عليها طويلاً، وكان النصر حليف من أجاد تقدير الموقف من الحسم تقديراً دقيقاً، وقد كان طرف صنعاء هو المتبني لخيار الحسم بعد إعلان نائب رئيس مجلس الرئاسة، علي سالم البِيض، قرار فك ارتباط الجنوب عن الشمال في الذكرى الرابعة لتحقيق الوحدة، الذي أوصد الأبواب أمام أيّ مسعىً إلى السلام، ونسف ما سميت "وثيقة العهد والاتفاق" التي أقرها ممثلو عدد من الأحزاب في السلطة والمعارضة، ووقع عليها في عمّان في فبراير/ شباط 1994 رئيس مجلس الرئاسة (الرئيس السابق) علي عبدالله صالح ونائبه علي سالم البِيض، برعاية الملك الحسين؛ لتسجل هذه الحرب شهادةً أخرى على أنّ تجربة الحسم العسكري في تثبيت السلطة المستولى عليها، هي المألوف في هذا البلد، وأنّ ما سوى ذلك أمر عارض، إن لم يكن نادر الوقوع؛ حيث أفضت أسرع وأعنف حرب شهدها اليمن المعاصر إلى تمكين السلطة لمن يملك القوة، ويجيد إدارتها بكفاءة وفاعلية، وطي أقوى وثيقة سياسية توافقية لإدارة البلاد.
آخر محطات السجال بين خياري القوة والسلام في ظروف الاستيلاء على السلطة في اليمن، انقلاب سبتمبر/ أيلول 2014 الذي نفذه الحوثيون بالدبلوماسية المخاتلة، والتقدّم العسكري التدريجي على الأرض، ثم توّجوا ذلك بما عرف بـ "اتفاق السلم والشراكة" الذي أشرف عليه مبعوث الأمم المتحدة السابق لحل الأزمة السياسية في اليمن، جمال بن عمر، لكن الوثيقة لم تكن سوى أحد نظائر حصان طروادة للاستفراد بالسلطة، وهو ما تحقّق، في تثبيت دعائم الانقلاب بالتوّسع القسري للحوثيين في أغلب المحافظات، ثم فرض الإقامة الجبرية على الرئيس هادي في صنعاء حتى أواخر فبراير/ شباط 2015، والوصول بالبلاد إلى ما هي عليه الآن من الانقسام والصراع على السلطة.
حتى الآن، ما يزال كلا الطرفين يستمسكان بخيار القوة، لكن مؤهلات الحسم تتجمّع بيد الجيش الوطني، ومعه التحالف، أما إنهاء الأزمة، إجمالا، فمرهون بظروف كل طرف منهما التي تتباين بصورة واضحة، كماً وكيفاً، على مستوى الداخل والخارج، وفي مستوى الإدارة الذكية للقوى والوسائل. وفي المفاوضات التي يؤمل فيها طرف الانقلاب تبدلّها لمصلحته في حال استطالة أمدها، بناءً على حساباتٍ مشابهة للمفاوضات السورية، مع سعيه إلى بلوغ عتبة انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة التي قد تضع المنطقة في أفقٍ جديد، يكون فيه تحالف الانقلاب في حالٍ أحسن مما هو فيه اليوم، فضلا عن توقعاته الأخرى بتحولاتٍ إقليمية قد تحدث قريباً؛ بحيث ينهار معها تحالف الرئيس هادي ومؤيديه من الداخل والخارج، فيسهل الانقضاض عليه بالقوة، أو بأيّ من أشكال "سلام الاستسلام" على المشهد نفسه الذي فرضه الجمهوريون على الملكيين في صلح عام 1970، وبرعاية المملكة العربية السعودية.
المألوف والعارض في حلّ أزمات اليمن السياسية
الساعة 11:43 صباحاً - 2016/07/20
نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق