حالة من الشك السلبي المدمر، شعور بعدم الثقة، اهتزاز في الثوابت الوطنية والقومية، الدينية والإنسانية، جحود للتاريخ، ثورة على الحاضر، توجس من المستقبل، بلبلة فكرية، اضطراب وجداني، وحالة من المزاج السياسي والجماهيري المتقلب.لا ثقة في رجال الدين، لا ثقة في رجال المجتمع، لا ثقة في المثقفين، لا ثقة في رجال السياسة، لا ثقة في رجال الفكر والأدب والشعر، لا ثقة في كل النخب، لا ثقة في أحد، ولا ثقة في النفس.
اضمحلال المبادئ الأخلاقية، تخلخل المفاهيم الوطنية، تشوش القيم الروحية، ضبابية الثوابت الإنسانية، واشتعال عوامل الغضب والثورة داخل شخصية الإنسان العربي، تمهيداً لضرب القلب بالعقل، والدولة بالشعب، والدين بالقومية، والوطن بالجغرافيا، والذات بالذات. اضطرابات في السوق، تذبذب في أسعار العملات، انهيارات اقتصادية متوالية، مصحوبة بغلاء جنوني في أسعار السلع في الأسواق، وارتدادات اجتماعية عميقة لاهتزاز البازار.
هذه هي الوصفة الحقيقية ليس لسقوط الأنظمة، ولا لانهيارات الدول، ولكن لتفكك المجتمعات، وتحللها إلى مكوناتها القبلية والعرقية والدينية، وصفة لذهاب الحضارات في سهوب التواريخ المظلمة، ومن ثم التواري في حيّز زمني أشبه ما يكون بما تحدثنا الأديان عنه في حياة البرزخ، حيث لا تنطلق الروح نحو مستقبلها، لعدم استكمال شروط انبعاثه، وليس لها القدرة على استلهام ماضيها، لذهاب شروط بقائه.
واليوم، ونحن نرى ما يجري في البلاد العربية من أحداث، وما يمر على المنطقة من تقلبات، ندرك أننا في مرحلة تحولات كبرى، ومخاضات مؤلمة، وإجراءات موجعة لعمليات انفصال ذهني وعاطفي، ونزوع عن حالة تاريخية محددة المعالم، إلى حالة أخرى، لم تحدد ملامحها بعد.
وفي طريق الآلام هذا، ستستمر قوى دولية بعينها في ضرب السلطة بالجمهور، ضرب النظام بالشعب، وضرب الدولة بالمليشيات، ليصل المجتمع إلى حالة من الخواء في الحس والفكر والروح، إلى حالة اليأس والتسليم بانعدام القدرات الذاتية، وهذه هي أنسب المراحل في عمر الإنسان والشعب لتهيئته للانقياد والاستسلام، في عملية أشبه ما تكون بعمليات التنويم المغناطيسي، أو غسيل الروح والفكر والشعور، لتقبل كل ما يأتي من وراء الحدود على أنه «المسيح المخلص»، فيما هو في الحقيقة «أعور دجال»، نرى جمال إحدى عينيه، ولا نرى عَوَر الأخرى التي تفنن في معالجة عورها الروحي والقيمي والحضاري، لكي لا نرى منه إلا وهم إحياء الموات، وإنزال الغيث، وملء الأرض بالفراديس الخضراء، وإرسال مواد الإغاثة إلى النازحين الذين دمر مدنهم على رؤوسهم.
وستمارس المجتمعات المستهدفة جلد الذات، وستقول تلك الشاشة العملاقة التي تشبه عين الدجال العوراء: هذه مجتمعات لا تستحق الحياة، وستخرج تلك الصحيفة التي تشبه قلب الدجال الأسود بمانشيتات من مثل: برابرة متوحشون، إرهابيون مسلمون، وأصوليون ديماغوجيون، كل ذلك لتكريس الهزيمة الشعورية والقيمية، وتسريع وتيرة الانهيارات الروحية، في وقت تتداعى منظمات حقوقية عالمية، مقبلة من الضفة الأخرى، للتباكي على أوضاع حقوق الإنسان في تلك «الغابة البدائية»، وحينها تبدأ عمليات مقارنة غير متوازنة بين مجتمعات «البرابرة الإرهابيين والمتوحشين»، الذين يقتلون بعضهم، ويستدعون جراحاتهم، ويثورون لماضيهم، ولا يهتمون لحاضرهم، ومجتمعات إنسانية متحضرة ترسل أكياس القمح وقناني الماء والحليب لضحايا الغابة في الضفة المقابلة، من دون أن يكلف إنسان نفسه محاولة رؤية بقايا الصاروخ الذي انفجر في عدد من أطفال تلك الغابة، ليسأل من أين جاء هذا الصاروخ، الذي أنتجه مصنع يلتصق جداره بسور المصنع الذي أرسل علبة الحليب.
إنها حيلة المسيح الدجال: كيس القمح خرج من العين الجميلة للدجال، فيما أخرجت العين العوراء صاروخاً حوّل أطفال «الغابة» إلى أشلاء، ولكن لأن «أبناء الغابة»، تحولوا بالفعل إلى حالة «البرزخ الفكري»، انعدمت لديهم القدرة على رؤية العين العوراء التي قذفت بشواظ الصاروخ، ولم تعد ترى إلا العين التي ترسل القمح المسروق- أصلاً- من الغابة نفسها، التي يقال عنها فقيرة متخلفة ماضوية، وموبوءة بالعنف والتطرف والإرهاب.
وستستمر القوى التي استعمرت الغابة أمس، في عمليات غسيل اقتصادية وإنسانية مشبوهة، تتم بموجبها سرقة الماء من نهر الغابة، ليعاد تعليب قطرات منه في شكل مساعدات إنسانية، لسكان الغابة المنكوبة، وتستمر عمليات الغسيل بتقطيع أوصال أشجار الأبنوس لبناء مدن جديدة للأعور الدجال، وليتم التبرع ببعض خشبها لبناء «عُشش» للاجئين والمهجرين، في ضواحي غابتهم المدمرة، ولكي لا يظل عالقاً بالذاكرة إلا «العُشة» التي بناها الدجال، وتُنسى ملايين الأشجار التي تساقطت في الغابة على يديه، في واحدة من أكبر مجازر التاريخ ضد الغابة الذبيحة.
إن عمليات الغسيل الفكري والثقافي تعد في غاية الأهمية للقوى العالمية، التي تناثر أجسادنا بالصواريخ، ثم ترسل الدواء لبلسمة بعض الجراح في الأجساد التي تسبح في بركة الدم.
هذه العمليات مهمة لتلك القوى، لأنها تفعل أفاعيلها في التمويه والإرباك والتشويش، فمن جهة تستمر حالات «ملشنة الدولة»، و»تطييف الدين»، و»عنصرة المجتمع» في الشرق العربي، ومن جهة أخرى تستمر صورة تلك القوى العالمية الإيجابية في التحسن على حسابنا، ويستمر انعقاد المقارنات الموجعة بين الحضارة والبدائية، بين الإنسان ووحوش الغابة، بين شاطئين للبحر أحدهما نمت عليه غابة، والآخر بنيت عليه مدينة عصرية، ويستمر خداع الأعور الدجال. ولكن ما لا تدركه تلك القوى العالمية أن سلوك التاريخ يشبه إلى حد كبير سلوك «الغواني»، التي لا نستطيع توقع انعطافاتهن المزاجية المفاجئة، ما لا ندركه أن تراكم الخطايا يثقل أرواح المخطئين، وأن عمليات غسيل الأفكار، كعمليات غسيل الأموال، لا بد لها من أن تنكشف، وأن تلك القوى ليست محصنة إلى الأبد ضد العوامل التي فتت الغابة المحترقة
أما مرحلة التيه الذي تعانيه شعوب المنطقة اليوم، فهو شرط ضروري ليقظتها الروحية، ونهوضها الحضاري الحقيقي الذي سيستجيب لشروط اليوم، مستفيداً من ظروف الأمس. وستستمر لفترة محددة حالةُ الشك وعدم اليقين، القلق وعدم السكينة، الاضطراب وعدم الاستقرار، لكي يتم التخلص من رواسب التاريخ، وجراحات الجغرافيا، الممتدة على شكل حدود نازفة في جسد الخريطة.
وسوف يتواصل سقوط الكثير من الشعارات، الكثير من القامات، الكثير من الأيديولوجيات، والكثير من كل شيء، ليمكث في الأرض ما ينفع الناس، ويهلك كل شيء إلا وجهه.
ولئن كانت الدول كالأفراد، كما يرى ابن خلدون، تمر بمراحل الشباب والشيخوخة والاندثار والموت، فإن الأمم لا تموت، الدولة هي تجسيد لروح الأمة، والجسد مجرد: صورة، شكل، طين، لكن الأمة: أصل، جوهر، روح، والأرواح لا تموت، والأمم لا تموت، خاصة تلك التي تتكئ على هرم التاريخ، وتبسط بنيانها في قلب الجغرافيا، وتعود إلى قيم روحية ضاربة في أعماق اللاوعي الجمعي لأفرادها.
* نقلاً عن القدس العربي