في الأشهر القليلة الماضية التقيت، في مدن أوروبية مختلفة، بعدد من كبار رجال الدولة اليمنية، على فترات متباعدة. أعني: تلك التي لم يعد لها وجود.
تحدثنا لساعات طويلة، كنت أكتفي بإلقاء الأسئلة وكانت بعض الإجابات ليست مأساوية وحسب، بل يصعب تخيلها فضلاً عن تصديقها. سأخبرك عن واحد من تلك اللقاءات وربما أعود لأتحدث عن اللقاءات الأخرى لاحقاً.
فعندما قررت الإمارات تجريد هادي من صلاحيته كرئيس دولة استخدمت السعودية لذلك الغرض. أعدت الدولتان وثيقة تنص علانية على نقل صلاحياته إلى نائبه، واستُـدعي الرجل على عجل إلى مقر جهاز "سيادي" سعودي. احتُجز مرافقوه في صالة صغيرة وأخذ هادي إلى الداخل. بعد حوالي ساعتين خرج هادي وغادر إلى مقر إقامته، وكان يجيب معاونيه قائلاً: كان وثيقة عادية طلب مني التوقيع عليها. في المساء خرج هادي من "خبائه" وطلب من معاونيه مهاتفة الجهاز "السيادي" لمعرفة طبيعة الوثيقة التي وقع عليها. كان منفعلاً ومتوتراً كما لو أنه أفاق للتو. سأله معاونوه: ولكن كيف وقعت على ورقة لا تعلم محتواها؟ أجابهم: ظننتها وثيقة عادية. بعد أسبوع حصل هادي على نسخة من الوثيقة وكان عليها توقيعان آخران إلى جوارتوقيعه: الملك سلمان، ومحمد بن زائد. في الأيام التالية اندفع البدوي الذي يخبئه هادي في أعماقه، واستطاع مع الأيام تجاوز تلك الوثيقة بعناد وإصرار كلفاه الكثير، تحديداً: مع الإمارات.
وفي واحد من أشهر هذا العام الجاري تلقيت اتصالاً من أحد رجال هادي الكبار، كان في زيارة قصيرة لواحدة من دول أوروبا. اتفقنا على اللقاء في واحدة من المدن. كنت أعاني من وعكة صحية حادة وكان اللقاء أشبه بجلسة إبر صينية. جاء الرجل بسيارة فخمة، مستأجرة، وعلى الفور بدأنا الحديث. كان بالنسبة لي كنزاً معلوماتياً هائلاً، بالنظر إلى مكانه. غير أن وضعي الصحي آنذاك شوش علي بعض الشيء. ذكرني بما كتبته عنه من قبل، فقلت له "الكتابة ليست مسألة شخصية"، فقال وهو يصرف نظره عني: ما كتبته عني كان شخصياً، هذا هو الإحساس الذي وصلني. ثم قال بلا مقدمات: نحن أسرى. واصل حديثه: هذه حرب عبثية يطلب منا أن نشترك فيها ونحن عبيد وأسرى. قلت: هذا قول صادم. قال: هذه هي الحقيقة، هذه الحرب لن تنتهي، أصبحت الحرب مجرد عملية استثمارية، هناك فئة صغيرة مستفيدة على الجانبين اليمني والسعودي، ويهمها استمرار الحرب بتلك الطريقة. "ماذا تقصد بتلك الطريقة؟" سألته. قال: حرب من المفترض أن تأخذ أسابيع قليلة طالت سنين، هذا نشاط تجاري وليست حرباً، لا يوجد أي نجاح حقيقي حتى الآن. "وماذا عن تحرير عدن وما حولها؟" سألته. قال: أنت لا تعرف شيئاً عن حروب المدن، إنها أصعب الحروب على الإطلاق. توصلت الإمارات وصالح إلى اتفاق على الانسحاب من عدن وما حولها لذلك كانت المعركة خاطفة."وما الذي عرضته الإمارات على صالح لكي يقبل مثل تلك الهزيمة"؟ سألته. أجاب: أن تقف قواتها عند الحدود الشطرية، أن تترك له تعز وما خلفها. ألا تلاحظ أن قواتها تركت الحوثيين على بعد رمية حجر منها وتوقفت عند الحدود الشطرية. "وأين كان الحوثيون من اتفاق كهذا؟". قال: كانت عدن هي معركة صالح، كان الحوثيون قليلي العدد، وقد قاتلوا وانتهوا هناك. "لماذا تُركت تعز وحيدة؟" سألته. أجاب: تعرف دبابة سوفيتيل؟ هل تصدق أننا رفعنا أكثر من أربعين طلباً إلى التحالف لاستهدافها ولم يتعاملوا مع كل طلباتنا، قس على ذلك باقي المعركة. سمعت شخصياً محمد بن زائد وهو يتحدث عن تعز بوصفها وكر الإرهاب والقاعدة والإخوان. أتذكر أني قلت له آنذاك هل تعلم أن تعز هي المدينة الوحيدة التي لا يوجد فيها أميون، فرد بعصبية: المعلومات التي لدينا أنها وكر للإرهاب ونحن لسنا مستعدين حالياً لتحرير مثل هذه المدن. "أليس لديكم غرفة عمليات مشتركة؟". لدينا مندوب في غرفة العمليات لا يهش ولا ينش، وأحياناً كان يعطي التحالفا إحداثيات تتعلق بخصوماته هو مع أناس بعينهم. "لايمكن أن يكون مثل هذا الحديث صحيحا؟" قلت له. أجاب بثقة: كلامي صحيح. "هل تتحدثون إلى التحالف عن الحرب، رجل إلى رجل: ماذا أنجزتم، ومتى ستنتهون منها؟" سألته. أجاب: قلت لك، نحن أسرى، أو سمنا عبيداً. لا حيلة لنا ولا احترام. "هل هو تحالف أم احتلال؟" سألته. قال: اتفقنا على الحرب، لكنه صار احتلالاً. "هذا كلام خطير" قلت. علق قائلاً: هذا كلام حقيقي للأسف. "أنت بهذا الحديث تتهم كل رجال الدولة، عسكريين ومدنيين، بمساعدة دول أجنبية على احتلال بلدهم، أي بالخيانة" قلت له. قال وهو يهز رأسه: أتفهم مواقف بعضهم ونوايا البعض الآخر. في الأخير نحن بلا قرار ولا سيادة. "وماذا تعرف عن المعركة التي ستجري في الحديدة"؟ سألته. أجاب: لا أنا ولا الرئيس ولا غيرنا نعرف عنها شيئاً. "ما الذي يجري إذن؟". أجاب: جيوش استعمارية تتحرك في البلاد كما تشاء. "منذ متى تشكلت لديك هذه القناعة؟".. هنا استدار الرجل نحوي، كنت قد طلبت عصير تفاح وكان ممسكاً بكوباية نيسكافيه: هل سمعت عن مذبحة العبر؟ سألني. أجبته: ما الذي حدث في العبر؟. قال: فقدنا فيها ٨٥ من أفضل "قادة" الجيش، كانت الطليعة الأولى للجيش وكانت احترافية. قدمنا تصوراً شاملاً عن جيش وطني للتحالف، وكان الجيش في العبر هو نواة التأسيس. انتظرنا تعليقاً من التحالف حول المشروع المقدم، أرسلوا مندوبين عسكريين إلى العبر، التقوا القادة وعاينوا ما يجري هناك، وفجأة أغارت المقاتلات على الجيش. هاجمت أول الأمر مقر القيادة، كل المباني، وسقط القادة. ثم هاجمت المقاتلات مخازن الوقود كلها، وجاءت طلعة ثالثة وهاجمت مخازن الذخيرة المتواجدة على مسافات متباعدة. "لماذا؟" سألته ببساطة. قال: يريدون وضعاً مائعاً يسهل السيطرة عليه، ميليشيات بلا قادة عسكريين محترفين ولا تاريخ عسكري ولا ضباط مستقلين، أنظر إلى عدن وشبوة، يريدون مثل تلك الحالة. "ما هو الوضع الميداني للحوثيين حالياً"؟ سألته. أجاب: لا يزال قوياً، حصلوا مؤخراً على صواريخ مضادة للدروع موجهة بالليزر وأجهزة للقتال الليلي. في واحدة من المواجهات بالقرب من صرواح استطاعوا إعطاب ٢٥ مدرعة إماراتية خلال نصف نهار، وكانت صدمة للإماراتيين. "ومن أين يحصلون على السلاح"؟. أجاب: لديهم طرقهم، ولا تنس أن التحالف لم يدمر حتى الآن سوى جزء يسير من مخازن السلاح. "هل هذا معقول؟"، أجاب:اليمن جبال وتضاريس صعبة والحوثيون حصلوا على سلاح دولة. "ما الذي يجري في الجنوب؟" سألته. قال: فوضى تصعد وتهبط بحسب حاجة صاحب الأمر والنهي، هي منطقة محتلة بمعنى الكلمة. "وأين رئيس الجمهورية مما يجري؟". قال: الرئيس مختطف، كلنا أسرى، لا يريدون أنداداً، سيطردونك وستفقد كل شيء.. [هنا تذكر أنه لا يزال يحتفظ بتلفونه، فراح ووضع تلفونه في سيارته وعاد]. "يتجسسون علينا في كل مكان" قال مرتبكاً. قلت له: أرى رئيس الأركان العقيلي وهو يبذل جهداً كبيرا، ويبدو مقنعاً ومحترفاً، أليس كذلك؟". سكت قليلاً، ثم قال: على المستوى الشخصي هو رجل طيب، كما قلت لك هم لا يريدون جيشاً محترفاً. هناك قادة كبار لكنهم اختاروا العقيلي، رفعوه من قائد كتيبة إلى رئيس الأركان، هذه إهانة للجيش، العقيلي يقول لهم نعم ويقدم نفسه كجندي يعمل معهم لا كرجل يقود جيشاً مستقلاً، لهذا فهو رجل جيد بالنسبة لهم. "وما الذي يجري مع هاشم الأحمر؟ مرة يلبس البزة العسكرية ومرة يخلعها؟ مرة يقود منطقة عسكرية وفجأة يذهب للعيش كمغترب في السعودية". قال: الأحمر يريد جيشاً لنفسه وأسرته، سمعته في مرة يقول أمامي: هكذا نحن آل الأحمر، يعاني الآباء ثم يحكم الأبناء، هكذا دواليك على مر التاريخ. هو يتطلع كإبن للحكم طبقاً لهذه النظرية. خاض صراعاً مع رئيس الأركان السابق مما دفعه للتخلي عن الجيش، قلنا له لا يمكن أن نعيد الوضع السابق فغضب وترك الجيش. مؤخراً أعاده السعوديون، هم يبحثون عن أصحاب المشاريع الصغيرة والناس الذين بلا خبرة ولا استقلال ويقلدونهم الأمور. "هل صحيح أن الحوثيين دفنوا جثة صالح؟"، أجاب: دفنوه منذ فترة، الرئاسة والتحالف كما أسرته يعرفون هذا الأمر. "أين تضع صالح داخل هذه الجريمة التاريخية، وأين تضع الجائفي"؟ سألته. أجاب: للجائفي ظروفه، وهو في تقدير غير خائن. قاطعته "سيقول كل شخص تخلى عن مهمته: لي ظروفي"، فقال: لا أدري، دعها للتاريخ، أعرفه جيداً وأتفهم حساباته. أما صالح فلم تكن لعبته لوحده. أدركنا مبكراً إنها لعبة إقليمية وكنا نرى كيف تعمل دول الإقليم على دفع الحوثيين لخوض معركة اعتقدوا انها ستكون مدروسة. لم يكونوا يتوقعون أن الحوثي في النهاية سيذهب إلى إيران وليس إلى الرياض، وهذا ما أغضبهم. هم الآن ينتقمون من حليفهم الخائن ولا يعنيهم أمر الدولة اليمنية لا من قريب ولا من بعيد. قرارات هادي خاصة العسكرية ساعدت على اقتحام صنعاء. "حتى الآن نتحدث عن ظنون مفادها إن الإمارات والسعودية دفعتا الحوثي للهجوم على الدولة وتصفية الجمهورية، أنت من موقعك الهام تقول إنها ليست ظنوناً بل حقيقة".
قال: هذه ليست ظنوناً، هذه حقائق وأخطاء كبيرة، سيعضون يد الندم على فعلها، هم الآن يعضون يد الندم. "ومتى ستنتهي هذه الحرب التي وصفتها بالعبثية"؟. أجاب: إذا امتلكنا استقلالنا كيمنيين وتعاملنا مع التحالف كأنداد وحلفاء لا كأسرى وعبيد.
ــ ــ ـــــ
١. طلب الرجل مني عدم الإفصاح عن اسمه
٢. المعلومات التي ذكرها لا تعني بالضرورة إنها صحيحة، هي في الأخير تخيله الخاص لما يجري في البلد. وعلى المستوى الشخصي لا يسعني تأكيد شيء مما ذكره، ولا نفيه.