مطلع رمضان اعتذر عائض القرني، الداعية المعروف، عن ماضيه الصحوي. في الماضي اعترض الرجل، ربما، على بعض سياسات الدولة، معتقداً أنه يملك ذلك الحق. كانت مخالفة صريحة لمبادئ السلفية الولائية. تنقل الرجل في حياته عبر متتالية من "الإشكالات" منذ مطلع تسعينات القرن الماضي وحتى وقت قريب. والإشكالات، وفقاً لتعريفه، هي عقوبات أمنية مباشرة. مثلت حرب الخليج الثانية، ١٩٩٠/١٩٩١، تحدياً جاداً للسلفية الصحوية، أي الإشكال الأكبر. بادرت الصحوة إلى رفض الاستعانة بالقوات الأميركية ودفعت ثمناً باهضاً. تُركت عارية أمام السلفية الولائية التي راحت تفترسها بلا هوادة.
وجدت السلفية الولائية آنذاك الفرصة سانحة لتأييد النظام الحاكم دون شرط، مكنها ذلك التأييد من إزاحة منافسها الديني وتجريده من كل امتيازاته. هكذا صدرت فتاوى من أعلى مستويات السلفية تؤيد قرار الاستعانة بالكافر لدحر المسلم الباغي، وتصف الرفض بالخيانة. بالنسبة للملك فهد فقد تنكرت "الصحوة" لإحسانه وخذلته في أسوأ الظروف وكان قد سبق له أن امتدحها علانية [أشار القرني، عبر برنامج الليوان، إلى ذلك المديح]. اكتشف الملك، في تلك الساعات العصيبة، القيمة الحاسمة للولاء غير المشروط الذي تعرضه سلفية بن جام والمدخلي، كما أدرك لأول مرة الخطر الكامن في الصحوة، وفي كل مشروع ديني يعنى بالسياسة. لم يتأخر الولائيون كثيراً فقد استطاعوا الإطاحة بالصحويين من المجال الأكاديمي في تلك الأيام، عادوا إلى الواجهة من جديد بوصفهم خيولاً صالحة لكل زمان ومكان..
اعتذر القرني عن مواقف سياسية لا يوجد دليل على أنها صدرت عنه. كان يقول، بوضوح، إنه مواطن ليس له حق سياسي، وأن إشاراته السياسية الغامضة، فيما سبق، كانت خيانة وطنية بالغة. تلك الرسالة هي أهم ما أريد له أن ينقلها إلى شعبه. كان صريحاً في اعتذاره، ومع ذلك فإن أحداً لم يفهم بالوضوح نفسه تلك الأشياء التي اعتذر عنها. حدد أموراً ثلاثة: اعتراضه في الماضي على سياسات الدولة، استقلاله الفكري بعيداً عن المؤسسة الدينية الحاكمة، ومبالغاته الدينية الشكلانية، أو: الغلو والتشدد، بالتعبير الأصولي. تنتمي المبالغات الشكلانية إلى السلفية الولائية، سلفية الحاكم، أكثر من انتمائها إلى الصحوة، أو الإسلام السياسي.
سبق أن قال في اللقاء نفسه إن الإخوان المسلمين، وهم العمود الفقري لتلك الصحوة، كانوا منفصلين عن العقيدة، وأنهم معنيون بالمسائل السياسية أكثر من حقائق الدين. أي أنهم جماعة شديدة الافتقار إلى "الغلو والطرف". اعتذر الرجل عن أمور ليست من ماضيه. هذا التمويه أريد له أن يغطي على الأمرين الهامين اللذين قرر الاعتذار عنهما: الاستقلال الفكري عن سلطة المؤسسة، ومساءلة الدولة سياسياً. يعتذر المرء عن هذين الأمرين إلى أجهزة النظام بشكل مباشر لا إلى الجماهير، إذ لا تبدو الجماهير معنية بمواقف المثقفين وتحولاتهم، ولا بمقارباتهم السياسية.
أريد للقرني أن يقدم نموذجاً افتتاحياً لآخرين، أن يبدو عليه الرضا والسكينة وهو يقرر التحول إلى "سيف بيد الدولة"، خصوصاً في أعين أولئك الذين صاروا بلا سكينة في السنوات الماضية. انزلق في الحديث إلى الجهاديين السعوديين بوصفهم يمثلون أعلى درجات الراديكالية السلفية، لكن تلك الإشارة قال عنها مقدم البرنامج إنها بعيدة كل البعد عن موضوع الحوار. إذا كانت الراديكالية السلفية، أو الغلو والتطرف، ليست موضوعاً ذا صلة فعم اعتذار القرني لشعبه؟
كرر محمد بن سلمان الإشارة إلى العام ١٩٧٩ بحسبانه العام الذي فتح الباب لموجات التطرف في بلاده، وأوصد النوافذ في وجه "الدين السمح". في العام ذاك هاجم جهيمان وجماعته الحرم، وترك النظام السعودي في ورطة تاريخية. اتخذ النظام قرارات ذات صلة بالموضوع: أرسل أفواجاً من السلفيين إلى القتال في أفغانستان، عله يتخلص من طاقتهم الجهادية في تلك القفار. كما أصدر قراراً يحظر دخول الشيخ الألباني إلى الأراضي السعودية، وكان قد ألقى محاضرة في خيمة "جماعة جهيمان" في موسم الحج الذي سبق تلك العملية. سبق للسعودية أن رفضت تمديد عقد للألباني في واحدة من جامعاتها، ١٩٦٣، بعد أن أصدر كتاب "حجاب المرأة المسلمة". في ذلك الكتاب استطاع الألباني دحر كل المرويات التي تتحدث عن النقاب. اعتبرت تلك الأطروحة ضربة عميقة للدين استدعت إيقافه عن العمل وترحيله إلى الشام. الحديث عن الألباني هو حديث عن السلفية الولائية، عن قلب تلك السلفية. لم تكن تلك الحقبة على صلة وثيقة ب"الدين السمح"، كما يخبرنا التاريخ.
فتح النظام السعودي النوافذ للصحوة، السلفية الحركية، بعد حادثة جهيمان. وبعد ١٢ عاماً، عقب صدمة الخليج الثانية، أطاح بالسلفية الصحوية واستعاد نظيرتها الولائية. تنتمي "هيئة الأمر بالمعروف"، وهي وزارة الداخلية الموازية، إلى النظام السلفي الولائي، وهي أكثر ما يتوجب الاعتذار عنه. كما عمل الولائيون على إعادة هندسة النظام التعليمي وفقاً لمنطلقاتهم الأخلاقية والعقيدة. إن إسلام ما قبل ١٩٧٩، الذي امتدحه بن سلمان، هو نفسه إسلام ما بعد ١٩٩١. في تلك النسخة من الإسلام أعيد توزيع الحياة بين النظام السعودي والمنظومة السلفية: يحتكر النظام شؤون الاقتصاد، الإعلام، السياسة الخارجية والمسألة الأمنية، على أن تتفرغ المنظومة السلفية للمسألة الاجتماعية. تتحدث الإحصاءات السنوية عن فعاليات تربوية ودينية تتجاوز المليون حدث في العام. في تلك الفعاليات يتحدث الولائيون عن الأخلاق من زوايا عديدة، وبالكاد ينزلقون إلى الحديث عن فساد القانون والسياسات في بلادهم. إن مثل تلك الإشارات ستعد خارج التعاقدات وقد تعكر صفو المياه بين الطرفين. لعلنا نتذكر تلك الحادثة عندما غرد شيخ سلفي قائلاً إن حليق اللحية ليس برجل، إلى أن وضع أحد المعلقين صورة ولي العهد آنذاك، محمد بن نائف، في صلب تغريدته. فاستدرك الشيخ السلفي قائلاً: إلا سيدي ولي العهد. كانت القسمة مرضية للطرفين، ولم يفكر أي منهما بخلط الأوراق.
تكمن واحدة من ورطات بن سلمان في كونه ضاق ذرعاً بالسلفية الولائية، وربما سئم احتقار الناس لبلده بسببها. راح يضرب بيد غليظة أبرز حصونها، يرفع الحظر عن المرأة والموسيقى والجامعات، يحاصر نشاط "الهيئة"، يعيد هندسة النظام التعليمي، ويحظر الدعاء على الآخر. كتابات كثيرة توقعت أن تحدث مثل هذه التغييرات الدرماتيكية زلزلة، غير أن ذلك لم يحدث. وهو يضرب السلفية الولائية، خيوله العزيزة، كان بن سلمان يكرر القول إنه إنما يستهدف "الصحوة". لا يريد الرجل سياسة ولا تطرفاً في بلاده، لكنه يغفل حقيقة أن قليلاً من السياسة يصلح الحكم، والكثير من الوهابية سيحفظ له الملك.
حتى الآن تبدو العملية سائرة في طريقها بلا معوقات: زعزعة السلفية الولائية تحت ذريعة تقويض الصحوة. في هذا السياق جاء القرني ليقدم اعتذاراً مخلوطاً ومشوشاً، فهو من ناحية يعتذر عن "الغلو" واصفاً إياه بالقيد المفروض على المجتمع السعودي. ما سيعني في الأخير: إن بن سلمان جاء ليرفع تلك الأغلال. ومن ناحية أخرى اعتذر القرني عن معارضته لسياسات الدولة في بعض مراحل حياته. في الواقع لا يعرف عن القرني أنه كان شيخاً متطرفاً، ولا معارضاً سياسياً. هو حالة إعلامية بعيدة عن المجالين: السياسة والغلو. إذ أكثر ما اشتُهر به هو سرقة الكتب ونسبتها لنفسه، وقد سبق أن أدانته محكمة سعودية في حادثة مدوية. في لقائه التلفزيوني اعتذر الرجل عن أمور ليست من ماضية. أو لنقل: لقد اعتذر نيابة عن كل الذين لا يريد بن سلمان حتى أن يسمع اعتذاراتهم.
*نقلاً عن صحيفة الاستقلال