حصار تعز.. إرادة تجار الحرب

تعد مدينة تعز اليمنية مثالاً فريداً على الجغرافيا الواحدة المتنازع عليها بين المتحاربين اليمنيين، وما أحدثه ذلك من ظروفٍ قاهرة يكابدها أبناء المدينة، فإضافة إلى التبعات المكلفة التي يواجهها المدنيون جرّاء استمرار القتال في جبهات المدينة وأريافها بين المتصارعين، بما في ذلك تعرّضهم للقتل المجاني، فإن تصاعد دورات الصراع المتعاقبة على السلطة المحلية في المدينة بين فرقاء السلطة الشرعية زج المجتمع المحلي في أتون الصراع، وأدّى إلى تعدّد القوى المحلية التي تنتهك المواطنين، مضافاً إلى هذا العنف المزدوج حصار جائر فرض على مدينة تعز، حيث كرّس الحصار واقعاً لا إنسانياً مأساوياً حال بين المواطنين وتدبّر أمورهم المعيشية، كما مزق وحدة النسيج المجتمعي الواحد للمدينة.

يكثف حصار مدينة تعز، بكُليته وبالصور المتغيرة التي اتخذها، تفاهة الحرب في اليمن، وغباء أطرافها المحلية وانتهازية رعاتهم الإقليميين، حيث تغيّرت وظيفة الحصار بما ينسجم مع إرادة فرقاء الصراع، وتفاهماتهم السياسية على جني ثمار الحرب والسلطة، لا لما تقتضيه ضرورة الحرب ذاتها. ووفقاً لذلك تغيرت جغرافيا الحصار في مدينة تعز، بحسب المنعطفات التي دخلتها الحرب، حتى أخذ شكله الحالي، ففي حين كانت وظيفة الحصار عسكريةً في المقام الأول، حين فرضت مليشيا الحوثي وقوات الرئيس السابق علي عبد الله صالح، إبّان تحالفهما، الحصار على مدينة تعز، لتطويق المدينة من خلال منافذها الرئيسية، حتى تعزل عن محيطها الحيوي المتمثل

"في حسابات فرقاء الصراع لا أهمية للمعاناة، مهما طالت، فبقاء الحصار ضرورة لها لجني ثمار اقتصاد الحرب" في مدينة عدن، بحيث تكون مدينة تعز نقطة انطلاقٍ للمتمرّدين للانقضاض على عاصمة السلطة الشرعية المؤقتة، أو على الأقل تهديدها. وترتب على ذلك إغلاق جميع منافذ المدينة البرّية التي تربطها بالمدن الأخرى، وكذلك إقامة نقاط عسكرية داخل المدينة خنقت المواطنين. ومع فشل خطة المتمرّدين التي قام لأجلها حصار مدينة تعز، حوّل المتمردون الحصار إلى ورقة سياسية، حيث ظل معبر الحوبان نقطة الحصار الرئيسية، وقسّم المدينة إلى جغرافيتين منفصلتين، غربي يبدأ من منطقة الحوبان تسيطر عليه مليشيات الحوثي، وشرقي تتنازع على سلطته القوى والأحزاب المنضوية تحت لواء السلطة الشرعية. كما أغلق الحوثيون المنفذ الشمالي للمدينة، الأمر الذي فاقم من معاناة الأهالي، حيث شتت الأسرة الواحدة بين منطقتين ذات سلطات متحاربة، وهو ما عرّضهم لأخطار الاعتقال العشوائي، أو الإخفاء القسري من السلطتين، كما أن تحويل المدينة إلى كانتونات مجزّأة وتقطيع أوصالها فرض على المواطنين اجتياز خط سير مروع لعبور ضفتي المدينة، إذ يجتازون منطقة الحوبان إلى منطقة الأقروض في جبل صبر وحتى منطقة التربة، ومن ثم إلى داخل المدينة أو العكس، مجتازين ممرّات جبلية شاقة غير ممهدة، تتخللها قرى وعرة في رحلةٍ تستغرق يوماً واحداً، حيث يتعرّض السكان لحوادث شبه يومية.

تأبيد معاناة المدنيين في مدينة تعز يعكس لا أخلاقية الحوثيين بدرجة رئيسية، كونه حصارا بلا هدف عسكري، كما أنه لم يكن ذا أولوية في حسابات أطراف الصراع وتفاهماتها، ولا في أجندة المبعوثين الدوليين المتعاقبين في اليمن، فعلى الرغم من محاولة مليشيات الحوثي مقايضة فتح الحصار عن مدينة تعز جزئياً باحتفاظها بسيطرتها على مدينة الحديدة، فيبدو أن الأمم المتحدة في اليمن لم تر في بقاء هذا الحصار من عدمه أثراً مهماً في سياقات الحرب الشاملة، أو في التسوية السياسية بين فرقاء الصراع، ومن ثم جعلته ملفا سياسيا داخليا، يخضع لإرادة فرقاء الصراع المحليين في اليمن وتقديراتهم، لا معاناة إنسانية يقتضي حلها لتحسين الشروط الإنسانية لأبناء المدينة، فمع حرجٍ كثير فرض اتفاق استكهولم ملحقاً ثانوياً يقضي بفتح منافذ الحصار عن مدينة تعز، إذ أوكلت هذه المهمة للجنة مشتركة مشكلة من مليشيات الحوثي وقيادات سياسية من مدينة تعز، ولكن مهام هذه اللجنة وأداءها ظل خاضعاً لمزاجية أطرافها، وبالتالي تسويفها، ففي حين أعلن فرقاء الصراع قبل شهر اتفاقهما على فتح منفذ الحوبان أمام الأهالي، فإن كل التفاهمات، وعلى مدى نحو عام، فشلت في حلحلة هذا الملف الإنساني، لحساباتٍ أخرى بين الطرفين تتعدّى النيات السيئة.

انتهت المسارات التفاوضية التي قطعتها اللجنة المشتركة لفتح منافذ مدينة تعز إلى طريق مسدود، بما في ذلك الجهود الحثيثة التي بذلها محافظ تعز الأسبق، شوقي هائل سعيد، إذ تشي مواقف 

"فشل فتح الحصار يتعدّى وجود عراقيل على الأرض، عسكرية أو فنية مهمة"أطراف الصراع اليمنيين بأن فشل فتح الحصار يتعدّى وجود عراقيل على الأرض، عسكرية أو فنية مهمة، كتمشيط الألغام، إلى تمسّك الأطراف بالمكاسب المترتبة على الحصار، إذ أوجدت البيئة المستقرة للحصار منافع متعدّدة ومتداخلة للمتحاربين من خلال اقتصاد حرب ناشط يتحرّك بين الجبهتين، يتجاوز صراع الفرقاء إلى تفاهمات اقتصادية متبادلة، تسيطر عليه طبقة من أثرياء الحرب الجدد من تجار ومقاولين تابعين لمليشيات الحوثي والقيادات العسكرية والسياسية المنضوية في السلطة الشرعية في مدينة تعز، إذ لا يقوم هؤلاء فقط بالمضاربة في أسعار المواد الغذائية والمشتقات النفطية التي يستهلكها المواطنون، وإنما يتحكّمون في إدارة تدفقها بين الجبهتين. وبالتالي، عرقل المنتفعون باقتصاد الحصار أي تفاهماتٍ تؤدي إلى فتح منافذ الحوبان، لأنه يضر بمصالحهم التجارية، إضافة إلى تمسّك جماعة الحوثي بمكتسباتها السياسية والاقتصادية من أنها سلطة حاكمة للقسم الغربي من مدينة تعز، وبدرجة رئيسية العائدات الضريبة التي تتحصل عليها من أن منفذ الحوبان نقطة ضريبة أساسية في تجارتها الداخلية، وربما أهمها. في المقابل، ترى القيادات العسكرية والسياسية في تعز التي استفادت من الحصار طوال هذه السنوات أن رفعه يوقف تحصيلاتها من الأموال التي تستقطعها من مموليها لدعاوى تحرير المدينة من قبضة مليشيات الحوثي، فضلاً عن أن منافع بيئة الحرب في المدينة، بما في ذلك استمرارها جبهة رئيسة ضد مقاتلي الحوثي، كرّس قوى عسكرية وسياسية محلية وجنرالات جددا، وجدت في فتح منفذ الحوبان خطراً رئيساً يتهددها، وذلك ليس لخطر عودة الحوثيين إلى قلب المدينة، وإنما لما قد يؤدّيه ذلك من إزالة أسباب قوتها الاجتماعية التي راكمتها في تعز طوال الحرب والحصار.

يوثق الفنان اليمني، رشاد السامعي، حصار مدينة تعز في كاريكاتيرات هي أبلغ تعبير عن معاناة المواطنين. ولكن في حسابات فرقاء الصراع لا أهمية لهذه المعاناة، مهما طالت، فبقاء الحصار ضرورة لها لجني ثمار اقتصاد الحرب، مع بقائه ذريعة لاستمرار الحرب في المدينة، ولذلك سيسعى فرقاء الصراع، بكل الوسائل، إلى أن يظل الحصار قائماً، ربما حتى الاتفاق النهائي على تسوية سياسية شاملة.


نقلا عن العربي الجديد

 

نسعد بمشاركتك
إضافة تعليق
الأسم
موضوع التعليق
النص