طفل أصم يتحدث مع صديقه بلغة الإشارة - iStock

أبعدوه عن والديه 6 أشهر ليتكلم من جديد.. قصة عبدالله المتكلم الوحيد في عائلة صماء

سلام فريتخ:

 

عندما ألقيت تحية السلام بلغة الإشارة، أدركت وقتها أننا -نحن البشر- نحتاج إلى لغات ولغات للتفاهم، ولكن ليس من الضرورة أن نتقن لغة الكلام ونجيد استخدام الكلمات المعقدة والقوية حتى تصل فكرتنا أو رسالتنا إلى من حولنا.

دعوني أخبركم متى كانت المرة الأولى التي ألقيت فيها تحية الإسلام (السلام عليكم) بلغة الإشارة للصم والبكم.. كانت خلال استضافتي الشاب عبدالله أبو لبدة في مقابلة تلفزيونية.

كيف لا ألقي تحية الإسلام بلغة الإشارة وعبدالله كان حريصاً على أن يبدأ مقابلته معي باللغتين معاً!

وعندما سألته عن السبب، أجاب قائلاً:

– لي أصدقاء من الصم والبكم، ووالدي وعائلتي كذلك من الصم والبكم، وسوف يشاهدون المقابلة، فأحببت أن يفهموا ما أقوله في هذه المقابلة ويشاركوني أجواء الحوار.

فقلت له:

– لك ذلك، وأنا أيضاً سأبدأ حواري معك بلغة الإشارة.

لا أدري كيف أصف لكم شعوري وقتها؛ أحسست بأنني أخاطب فئة مهمة جداً من مجتمعنا، لم أتعامل معها قبل ذلك.

سأروي لكم قصة عبدالله ابن السنوات الثلاث: تعلَّم لغة الإشارة من والديه، فقد كان يطلب الطعام والشراب من والدته بلغة الإشارة؛ ذلك أنه وُلد من أب وأم من الصم، ولَم يدرك وقتها أنه يستطيع الكلام أو السماع إلا من خلال زيارة جدته لهم، ومناداتها اسمه، والتفاته إليها الذي أثار انتباه الجدة له وجعلها تتأكد أن عبد الله ليس من الصم والبكم.

فقررت الجدة أخذه إلى الطبيب، ليؤكد لها أن عبدالله يستطيع أن يسمع وأن يتكلم، وطلب من جدته أن تحتضنه عندها بعيداً عن والديه مدة 6 أشهر؛ لإعادة تأهيله من جديد، لينضم إلى فئة الأصحاء.. إلى أن كبر عبدالله وأصبح شيئاً فشيئاً يتقن الكلام ويتقن لغة الإشارة بشكل كبير، وكان تواصُله مع الصم ميسَّراً جداً، فأصبح يترجم في الدوائر الحكومية، إلى أن أصبح مترجماً للغة الإشارة بنادي الأمير علي للصم في إربد.

وعندما رجعت معه بالذاكرة للوراء وسألته عن شعوره عندما أصبح يجيد لغة الكلام ويتعامل مع فئة الناطقين، أجاب بأنه كان يشعر بالمرح والتسلية أكثر عندما كان يتعامل مع الأطفال من فئة الصم، كان يقضي أوقاتاً ممتعة معهم؛ وذلك لأن لغة الإشارة هي لغته الأم، وهي لغة التواصل بينه وبين والديه، ولأنها -على حد تعبيره- لغة يستطيع المرء من خلالها أن يعبر عن مشاعره بسرعة، وهي لغة عملية، ونادراً ما يتقن أحدٌ تلك اللغة، فأحب عبد الله أن يكون مميزاً في هذا المجال.

وفعلاً، تميَّز عبد الله في ذلك، وبعد تعيينه بعام واحد فقط في نادي الأمير علي للصم، أصبح ضابط ارتباط بين المفوضية السامية والصندوق الأردني الهاشمي، وهو أيضاً معتمد من المحاكم والمؤسسات الحكومية، ومترجم معتمد لخطبة الجمعة في مسجد الفيحاء.

وعن أهم المعوقات التي تقف أمام الأشخاص من ذوي الصمم، فقد كان جوابه هو عدم قدرة الموظفين في الدوائر الرسمية على فهم متطلبات الأصم ومتطلبات معاملاته الرسمية؛ ومن ثم يؤدي هذا إلى التأخر في إنجاز معاملاته الرسمية بالمجتمع المحلي، وعرقلة الكثير من معاملاته الحياتية المهمة. ولغاية ما يتم استدعاء مترجم يكون قد حصل تأخير كبير في إكمال إجراءات المعاملة.

وأشار إلى أن هذه المشكلة بصدد معالجتها من قِبل المجلس الأعلى لشؤون الأشخاص المعوقين، الذي عيَّن مدربين لتدريب موظفين الدوائر الحكومية.

أما عن وجه الاختلاف بين مجتمع الصم والبكم ومجتمع الناطقين، فكانت إجابته بأن الصم والبكم يعرف بعضهم بعضاً على مستوى الوطن العربي، ويتابعون إنجازات وفعاليات بعضهم البعض.

وعن سر سعادته بخصوصية التواصل بينه وبين والدَيه، عبَّر عبدالله عن ذلك، وابتسامته المحِبة لهما بادية على محياه. وعبَّر عن مدى حبه وفخره واعتزازه بأبيه وأمه، التي هي أمية، على حد تعبيره، لكنها استطاعت أن تربيه وتحسن تربيته، وأضفتُ على كلامه وكلي حماسة بقولي: يكفي أنها استطاعت أن تنشئ شاباً مميزاً مثلك، وأكسبتك لغة جديدة هي سر نجاحك وتميزك في المجتمع.

أما الرسالة التي وجهها عبد الله للمجتمع، فكانت تتلخص في أن لمجتمع الصم حقوقاً في هذا المجتمع، يطالب بها من أجلهم، ومن أبسط هذه الحقوق ألا ينظر إليهم المجتمع نظرة شفقة؛ فهم جزء لا يتجزأ من هذا المجتمع، والإعاقة هي إعاقة بيئية وليست إعاقة جسدية.

وأوصى بأهمية إتقان فئات المجتمع لغة الإشارة؛ حتى تتسع دائرة التواصل فيما بينهم وبين مجتمع الناطقين.

أما أنا، فقد ختمت لقائي مع عبدالله وكلي شعور بالفخر بمثل هذا الشاب ابن الـ22 عاماً، الذي كان ممتناً لوالديه ولَم يخجل منهما ولَم يخذلهما؛ بل كرس وقته وجهده في خدمة مَن هم أمثالهما من هذه الفئة، واختار مجال عمله ليكون بينهم ومعهم، ليكون حلقة الوصل بينهم وبين الناطقين، وليكون صوتهم وكلامهم المعبر عما يختلج في قلوبهم.

عظيم أنت يا عبدالله! أدهشتني بحجم برّك بوالديك. نعم، إنه البر، لكنه برٌ من نوع مختلف، برٌ يحدوه الأمل والجد والعمل وحب الخير لإجل الغير.

ختمت لقائي معه وودَّعته، وودَّعت أحبَّته أيضاً بتحية الإسلام وبلغة الإشارة، فما أصدقها من تحية تختصر الكثير من الكلام وتختصر الكثير من المشاعر!