لو خُيِّر الناس بين أن تنبعث منهم رائحة فضلات الحيتان، أو رائحة الزهور البيضاء الرقيقة فلن يختار الأولى سوى القليل منهم؛ إذ إنَّ رائحة إفرازات كبد الحيوانات وبرازها وقيئها وزيوتها منفرة للغاية، حتى إنَّ ذكر هذه الكلمات وحده قد يستحضر ذكريات أحدهم عندما تغوَّط كلبه على غطاء سريره، أو هبوب هواء مُحمَّل برائحة أسماك نتنة، عندما كان بجوار رصيف الميناء في يومٍ صيفي حار، في شهر أغسطس/آب.
بينما على الجانب الآخر، تبدو رائحة الياسمين وكأنها أغنية حب، أو حكاية من حكايا عالم ديزني. قد تربط رائحة الياسمين برائحة فاكهة حلوة أو أزهار رقيقة.
تتساءل كاتي كيليهير في مقالة لها على موقع Longreads: أي هذه هي الروائح التي تريدها أن تنبعث من جسدك؟
صدِّق أو لا تصدق، إذا آثرت الخيار الثاني فسينبعث منك مزيج من رائحة عُشبية حادة تختلط برائحة ترابية كريهة، إذ إنَّ مستخلص الياسمين هو عبارة عن سائل زيتي، شبه لزج، بلون الكهرمان الداكن، وأكثر كثافة وتركيزاً من زيت الياسمين العطري.
تُصنَع الزيوت العطرية عن طريق تقطير أو غلْي أو ضغط أوراق النبات، في حين تُصنَع المستخلصات الخام عادةً من خلال عملية معالجة تُسمَّى بـ «التّشريب» (Enfleurage)، وهي تتم عن طريق غمر أوراق الزهور النضرة الرقيقة أو التوابل في الدهن الحيواني، قبل استخلاص جزيئات العطر ومزجها بمحلول من الكحول الإيثيلي.
وبالرغم من أنَّ مستخلص الياسمين يعد مكوناً شائعاً في مجموعة أدوات (tool kit) صانعي العطور الطبيعية، فإن رائحته غريبة؛ فهي معقدة وليست جذابة ومبهجة بشكل كامل. فهي تشبه رائحة الإندول الكريهة، وهو مركب كيميائي عضوي يوجد أيضاً في قطران الفحم، وفضلات الإنسان، والأجسام المتحللة.
أما إذا آثرت الخيار الأول، أي رائحة الحيتان، فستنعم بلمسة رقيقة من العنبر، وهي مادة طبيعية جذابة للغاية تشبه رائحة الفانيلا والسكر الداكن ممزوجين بمياه البحر. وتذكرني هذه الرائحة قليلاً برائحة مخالب كلبي؛ وردية وخفيفة وجامحة. ويشبه العنبر في رائحته ملمس صوف الكشمير، وتثير رائحته متعة داخلية، حتى إنَّ الطفل الرضيع سيستمتع به مثلما يستمتع بأول رشفة من الحليب حلو المذاق.
مكوّن إعجازي باهظ الثمن
اعتاد البشر منذ آلاف السنين أن يُعَطروا أجسادهم بالمنتجات المُستخلَصة من الحيوانات مثل العنبر، ومشتقات النباتات ذات الرائحة العَفِنَة مثل زيت الياسمين الخام. إذ نضع على أجسادنا مواد كريهة لتحسين وإخفاء الروائح الطبيعية التي تنبعث من أجسادنا، ويتكالب البشر على تغيير الروائح المنبعثة من أجسادهم عن طريق الاستعانة بمكونات مُستخرَجة من كائناتٍ أخرى.
ولا يتعلق الأمر دوماً بأن تكون رائحتك جيدة فحسب، فأحيانا نريد أن تنبعث من أجسادنا رائحة معقدة، بحيث يضطر الآخرون إلى الاستمرار في العودة إلينا مرة أخرى لاستنشاق رائحتنا مراراً وتكراراً، كما يعود النحل ليستنشق رحيق الزهور، والاقتراب أكثر من الأجزاء الدافئة والرطبة في أجسادنا.
تقول صانعة العطور الطبيعية تشارنا إيثيير، إنَّ رائحة العنبر قد تشبه رائحة «الضوء الذهبي» أو رائحة «القميص القطني الذي جفَّ على حبل الغسيل في يوم صيفي دافئ». ومع أنَّ هناك عدة أنواع من العنبر (منها الرمادي والذهبي والأبيض)، تتحدث إيثير عن عينتها الشخصية، التي تصفها بأنها «ناعمة، وذكية، ومنعشة».
وتشارنا هي صاحبة شركة Providence Perfume Company للعطور في ولاية رود آيلاند
الأميركية، وداخل خزانتها المليئة بعجائب العطور تحتفظ بزجاجة واحدة من هذه المادة الثمينة.
فإلى جوار زجاجة من زيت الكاد عمره مائة عام (سائل كريه الرائحة مصنوع من أشجار العرعر، واشترته أثناء عملية بيع عقار) وتحت مجموعتها من زيوت الزهور الخام والخلاصات العشبية، تخفي قليلاً من سائل العنبر.
تحوي القارورة الزجاجية الشفافة خليطاً من العنبر، بنسبة 5% فقط من هذه المادة المُستخرَجة من الحيتان، والكحول. وفي صورتها الخام، تتخذ هذه المادة شكل كرة رمادية شمعية مكونة من إفرازات الحيوانات، وهي عبارة عن كتلة صلبة من الفضلات العائمة في المياه، تكون قيمتها «أغلى من الذهب».
وعلى عكس زيت الياسمين الخام الذي يدخل في العديد من العطور التي تُصَنِّعها تشارنا فإنَّ العنبر الحقيقي أثمن من أن يُستخدَم في منتج تجاري. وتقول تشارنا: «يُعتبَر العنبر المكون الإعجازي في العطور، فهو يجعل كل شيء أفضل».
لا تستخدم تشارنا أية مواد صناعية ولا منتجات حيوانية في صناعة عطورها، مع أنَّ الروائح المستخلصة من الحيوانات مكوِّنٌ تقليدي في صناعة العطور.
ولا يرجع السبب في ذلك إلى أنَّ هذه المركبات باهظة الثمن فحسب، بل لأن الروائح الأصلية المستخرجة من الحيوانات الثديية مثل المِسك، والزباد، والعنبر غالباً ما تأتي مقابل ثمن لا يُستهان به من القسوة. إذ تُقتَل الحيتان للحصول على شحومها الزيتية والعصارة المعوية المُخزَنة داخل بطونها، في حين تُحبَس الزباديات في أقفاص، حيث تُرغَم على إخراج إفرازات الغدد الشرجية الناتجة عن شعورها بالخوف، ويُحصد المسك من غدد الغزلان المذبوحة.
أستمتاع بشري ومعاناة حيوانية
قد يعرف كثيرٌ من الناس أنَّ صانعي العطور يبنون تجارتهم على قبور الملايين من الزهور البيضاء الصغيرة، لكن قليلاً منهم من يدرك أنهم أيضاً يعبئون منتجاتهم ويبيعونها على حساب تعريض الحيوانات للألم والمعاناة.
يُستثنى من هؤلاء صانعو العطور الذين يستخدمون مكونات صناعية، أو مَن يستخدمون مواد ثمينة أو قديمة عثروا عليها بالصدفة. والعنبر الذي تمتلكه تشارنا «قديم جداً» ويُقال إنه عُثَر عليه على الشاطئ. تقول تشارنا: «آمل أن يكون ذلك صحيحاً». لكن حتى العطور التي تُصنَع من مركبات صناعية أو العصارة المعوية الثمينة من الحوت تحمل نفحة من رائحة الموت؛ إذ تسلل إليها التاريخ السيئ لصناعة العطور، ورائحة الموت هذه لا تزول بسهولة.
هناك سبب يدفع صانعي العطور إلى استخدام هذه المكونات؛ إذ إنها تعزز روائح الزهور، وتقلل من بهجتها بالقليل من القبح. بمعنى آخر، تؤدي المنتجات الحيوانية في هذه الدراما دور كارهي الأبطال، فمهما بلغت كراهيتك لهم لا تملك إلا أن تحمل لهم شيئاً من الحب. أو يمكننا مقارنتها بعرائس البحر التي تسحر البحارة بغنائها، وفي هذه الحالة يُعَد العنبر هو الأكثر سحراً من بينها.
في إحدى المرات، صنعت تشارنا عطراً باستخدام أغلى المكونات التي تملكها، فمزجت مستخلص خشب الصندل البالغ من العمر 100 عام، مع خليط العنبر والكحول، ومستخلص زهرتيّ البلوميريا والبورونيا، اللتين تنموان في أميركا الوسطى وتسمانيا، على التوالي. كانت تلك هي المرة الأولى التي تستخدم فيها العنبر، وكان هذا العطر الفريد من نوعه رائعاً للغاية، لدرجة أنه «كان شيئاً أشبه بسائل من الذهب».
تستذكر تشارنا ذلك بحنين: «لقد كان جميلاً جداً».
الشم أهمّ الحواس
وتُعتَبر حاسة الشم الأكثر غموضاً من بين جميع الحواس، وهي تحظى أيضاً بأقل تقدير. وفي سيرتها الذاتية التي كتبتها عام 1908 بعنوان The World I live in، وصفت هيلين كيلر الروائح «بالملاك الهابط من السماء». وقالت: «لسببٍ لا يمكن تفسيره، لا تحتل حاسة الشم المرتبة الرفيعة التي تستحقها بين أخواتها».
كانت حاسة الشم هي الدليل بالنسبة لكيلر، كانت تشم رائحة العاصفة قبل ساعات من هبوبها، وكانت تعرف موعد حصاد أخشاب أشجارها المفضلة من رائحة الصنوبر الحادة.
وتعتقد هيلين أنَّ الروائح «لا تدوم طويلاً»، وذلك على النقيض من حاسة اللمس التي وصفتها بـ «الثابتة والمحددة». وقالت إنه بينما ساعدتها حاسة اللمس في معرفة أين تضع قدميها، كانت الروائح تغذي روحها. فمن دون الرائحة، تتخيل هيلين أنَّ عالمها كان سيفتقر إلى «الضوء واللون والشرارات المتلونة. وكان الواقع الحسي الذي يتداخل ويدعم كل الحقائق في مخيلتي سيتهدَّم».
وعندما يتعلق الأمر بالشمِّ، لا نفكر في كثير من الأحيان من نفس منظور اللون والضوء، ربما لأن لدينا كلمات قليلة جداً عن الرائحة التي نقترضها من معاجم حواسنا الأخرى. وإلى جانب أنَّ الرائحة هي أقدم حواسنا، يبدو أنها أيضاً الحاسة التي تتلاعب باللغة، فالمنطقة المسؤولة عن هذه الحاسة من المخ يُطلَق عليها «الدماغ الشمّي» (rhinencephalon) وتعني حرفياً «الدماغ الأنفي».
كتبت دايان أكرمان في كتابها A Natural History of the Senses: «حاسة الشم هي الحاسة الصامتة، الحاسة التي لا تملك كلمات، فبافتقارنا إلى المفردات، انعقدت ألسنتنا، وأصبحنا نلتمس الكلمات في بحر من الملذات والمتعة الصامتة». واستغرق الأمر منا دهوراً لابتكار كلمات تصف رائحة الأرض الخصبة الجديدة، أو رائحة النار المتوهجة على الشاطئ وصفاً دقيقاً، ولا يزال أفضل ما توصلنا إليه هو رائحة التراب ورائحة الدخان.
بيد أنَّ صانعي العطور لديهم لغتهم الخاصة، التي لم تبدأ كلماتها في الوصول إلى الثقافة الشعبية إلا في الآونة الأخيرة، من خلال مجلات الجمال والمدونات. ولا يقتصر الأمر على تحدّث صانعي العطور ومعجبيهم عن المستخلصات الخام والزيوت ومحاليل الكحول، بل يمكنهم أيضاً التحدث عن المركبات العطرية مثل مركب الكومارين والأوجينول.
ويستطيع صانع العطور المُدرَّب الخبير (أو «الأنف الخبيرة») تمييز الروائح الدقيقة داخل العطر المُكوَن من طبقات مختلفة من الروائح. ولا يكتفي هؤلاء الخبراء بالقول إنَّ رائحة ما سيئة فقط، بل بإمكانهم تمييز رائحة المسك النفاذة أو رائحة التبغ الكريهة من بين مكونات العطر، وهي مكونات لذيذة عندما تُستخدَم بجرعات صغيرة، لكنها تكتم الأنفاس عند استخدامها بشكل غير متوازن.
بعض الجمال يكون ستاراً لأشياء قبيحة
في مسعاي إلى فهم الجاذبية التي يبدو أنَّ هذه المكونات الحيوانية البغيضة تتمتع بها، تحدثت مع أطباء يدرسون الأنف، وصانعي العطور الذين يغذون هذا الأنف، وأيضاً مع حارسة حديقة حيوان تقضي أيامها تتنسَّم رائحة الزباد الثقيلة التي تفوح من الزباديات.
وبينما كانت لديهم نظريات مختلفة عن السبب الذي يجعل العتمة والغموض عناصر أساسية في الجمال، اتفقوا جميعاً على شيء واحد: الأمر برمته يتوقف على السياق.
ففي السياق الصحيح، حتى رائحة الموت قد تصبح جذابة، ويمكن أن يكون القيء مرغوباً أكثر من الذهب. وفي السياق الصحيح، ومع تشغيل الموسيقى المناسبة في الخلفية، تبدأ بالتهليل للمرأة الفتّانة أو تاجر المخدرات الساخر.
واتفقوا جميعاً كذلك على أنَّ الجنس جزءٌ من هذه المعادلة، وهو التفسير الأسهل لاستعراض المفاتن. لكن صناعة العطور هي أكثر من مجرد رائحة لطيفة تستهدف جذب شريك، بل تتعلق بالجمال والذوق والرغبة بمعنى أكثر عمومية. فنحن نريد أن تكون رائحتنا أخَّاذَةٌ، ومثل هذه الروائح غالباً ما تكون سيئة بعض الشيء؛ لأنَّ تأثيرها يكون أعمق من مجرد إثارة متعة حسية بسيطة.
وبرغم ما تبدو عليه الأشياء الجميلة فإن التعامل معها نادراً ما يكون ممتعاً بالكامل. فإذا كان كذلك، كان ليُنظَر إلى الأكواخ التي تحيط بها بقع من الضوء في لوحات الفنان الأميركي توماس كينكاد على أنها قمة الفن الرفيع، وكنا سنتجول جميعاً وأجسادنا مغطاة بالقليل من الياسمين الصناعي وزهر البرتقال الزائف.
لكننا نعشق اللذة المظلمة في لوحات كارافاجيو، ونعطّر أماكن النبض في أجسادنا بخلطاتٍ عطرية تحوي روائح المستنقعات المُتعفِّنة، والفضلات الكريهة، ورائحة الموت النتنة النفاذة المثيرة للغثيان.
إنَّ الجمال قاس، وحاد، ومُكلّف. ومثلما تسير الرغبة والاشمئزاز في المسار نفسه في عقولنا، فإنَّ الجمال والدمار يترافقان. عندما تجد شيئاً جميلاً بشكل لا يُحتمل، فلتدقق النظر وستراه مُحاطاً بظلال التعفن المألوفة.
تاريخ العطور
إنَّ واحدة من أوائل صانعي العطور المعروفين في التاريخ كانت امرأة تُدعى تابوتي-بيلاتكاليم. ووفقاً للألواح المسمارية الطينية التي يعود تاريخها إلى عام 1200 قبل الميلاد، عاشت تابوتي في بابل القديمة، وعملت على الأرجح لدى أحد الملوك. والجزء الثاني من اسمها «بيلاتكاليم»، يشير إلى أنها كانت تعيل أسرتها، بالإضافة إلى احتلالها مكانة رفيعة في البلاط الملكي.
وقبل آلاف السنين من ظهور شركة «SheEO» النسائية الرائدة، كانت تابوتي تعطي أوامرها لمن يعملون تحت إمرتها.
وكانت أستاذة في حرفتها، واعترف بذلك أقرانها. ويأتي الكثير مما نعرفه عنها من مصادر ثانوية، لكن عملية تقطير وتكرير المكونات لإنتاج بلسم عطري -وتشمل الزيت، والزهور، والماء، والوجّ، وهو نبات ينبت على شكل أعواد ويشبه الليمونية- مذكورة بتفاصيلها على ألواح طينية سليمة. ومن المدهش أنها تبدو مثل الروائح الحديثة إلى حد بعيد، أو بالأحرى، من المُستغرَب أنها تغيرت قليلاً فحسب.
استخدمت تابوتي أساليب استخلاص الروائح مثل التقطير، واستخراج الأريج من الزهر النضر بالطريقة الباردة، والمحلول الكحولي الذي لا يزال صانعو العطور الطبيعية يستخدمونه إلى اليوم. وقد مزجت الكحول الإيثيلي بروائحها كذلك، فابتكرت عطوراً كانت أكثر إشراقاً وأخف وزناً وأكثر ثباتاً من أي عطر آخر صُنِعَ في أي وقت.
ومن الجائز أنه كان لهذه الروائح دورٌ ديني في الثقافة القديمة، لكنها قد تكون ببساطة طريقة أخرى لتجميل الجسد وإرضاء الحواس. لسوء الحظ، وصلتنا قصة تابوتي مجتزأة، فمن الممكن أنها كانت أول امرأة كيميائية، لكنها نُسِيَت على مر التاريخ.
هناك الكثير من الأدلة المتوفرة حول عطور مصر القديمة وبلاد فارس وروما.
ففي عام 2003، اكتشف علماء الآثار أقدم مصنع للعطور في العالم في قبرص. ويرى علماء الآثار أنَّ هذا المبنى المصنوع من الطوب والطين والعطور التي صُنِعَت لرغبة المتعَبِّدين اليونانيين في ربط الجزيرة بأفروديت، إلهة الجنس والحب. (ففي الأساطير اليونانية، وُلِدَت أفروديت من بقايا خصيتي إله السماء السحرية، اللتين فصلهما كرونوس، إله الحصاد عند التيتان، عن جسده، وألقى بهما في البحر.
ويُعتقَد أنها خرجت من مياه البحر الرغوية على الشاطئ في بافوس، وهي مستوطنة قديمة تقع على الساحل الجنوبي لجزيرة قبرص). وأظهر تحليل المواد الموجودة في الموقع أنَّ هذه العطور القديمة دخل في تصنيعها مكونات نباتية مثل الصنوبر والكزبرة والليمون العطري واللوز والبقدونس وغيرها.
المسك والجنس
تبدو كل هذه العطور لطيفة إلى حد ما، أليس كذلك؟ يمكنني أن أتخيل رش زيت اللوز الممزوج بقليل من الليمون العطري على معصمي، وأشم القليل من الرائحة النباتية حولي وأنا أتحرك. ومن الطبيعي أن يرغب الناس في الحصول على رائحة تشبه رائحة النباتات، إذ إنَّ بعض أقدم القطع الفنية تمثل الزهور والأوراق والأشجار.
وقد أظهرت الدراسات أننا نتوق إلى تحقيق التناسق في لاوعينا، كما أننا ننجذب إلى اللون؛ لذلك فمن المنطقي أن تجذب الزهور انتباهنا بأوراقها المتناسقة وألوانها الزاهية.
يمكنني حتى أن أفهم لماذا قد يجبر فضول شخص ما يسير على طول الشاطئ على التقاط قطعة من الدهون البحرية وشمها.
من الصعب أن نفهم اللحظة التي حقق فيها صانعو العطور في العصور الوسطى قفزة في المفاهيم بالتحول من شم الحويصلات الغدية في الغزلان الميتة التي تحوي المسك إلى رشها على أماكن النبض في الجسم، لكن في مرحلة ما، كان يجب أن يحدث هذا، إذ أصبح الأوروبيون بعد الحروب الصليبية مهووسين بالمسك.
وعلى غرار الكثير من التوابل والأقمشة والمواد الفاخرة، وصل المسك إلى أوروبا من الشرق الأقصى.
والمسك كلمة مشتقة من الكلمة المرادفة للخصية في اللغة السنسكريتية، ويشير إلى المنتجات القادمة من غدد ذكر الغزال الآسيوي الصغير. وكانت هذه الأكياس الصغيرة التي تحوي العصارة الحيوانية تُجمَع من أجسام الغزلان المذبوحة وتُترَك لتجف في الشمس.
وفي شكلها الخام، تشبه رائحة المسك رائحة البول، إذ تكون نفاذة وحادة، لكن بعد تركه ليجف تصبح رائحة المسك أقل حدة، ثم تتلاشى رائحة الأمونيا، لتصبح أقل حدة وأشبه برائحة الجلود، وتتوقف رائحة البول عن الانبعاث منها، وتصبح مثل رائحة العرق الطازج، أو مثل رائحة الشعر الناعم الذي يزين رأس الطفل.
واشتهر المسك بأنه منشط جنسي طبيعي؛ فوفقاً لبعض الأساطير استخدمت كليوباترا زيوت المسك لإغواء مارك أنتوني.
ويساهم حجم جزيئات المسك كذلك في زيادة شعبية العطر المُصنَّع منه: فالجزيئات الأكبر تتأكسد ببطء، لذا فإنَّ جزيئات المسك الكبيرة نسبياً تدوم لفترة أطول من الروائح الأخرى، وتسمح له بإطالة عمر الروائح الأخرى.
وتمتع المسك بخاصية تثبيت العطر يعني أنه يشكل عنصراً أساسياً في تركيب العديد من العطور، حتى في تلك العطور التي لا تنبعث منها رائحة المسك بوضوح.