رفضوا المقابل المالي، وفهموا العلوم المعقدة وفسروها للعالم بالمجان، ولم تنقصهم الجرأة والجَلَد ليصدّروا للعالم أفكارًا ثورية تصحّح النظريات السابقة المُرسخة، وقلوبهم كانت عامرة بالإيمان كما ذُكر عنهم؛ فمعظمهم حفظ القرآن وتعلّمه، وكل واحد منهم حرص على تدوين إنجازاته ونقلها للعالم كله؛ ولازال كل البشر من جميع الأديان والأجناس ينتفعون بهذا العلم حتى الآن، وبفضل إنجازتهم التي أبهرت البشريّة، فقد صنعوا العصر الذهبي للإسلام.
إنهم الأطباء المسلمون، فكيف طوّروا الطبّ ثم منحوه للعالم بالمجان؟
بلا شك.. رئيس الجراحين!
سيوف المعركة تصم الآذان، ورمال الصحراء القاسية تتناثر على الوجوه وتخترق الأعين، والكل يهرع راكضًا مبتعدًا بخوف عن صهيل الأحصنة الجريحة، وصرخات الجنود إثر الحرب الدامية، وبين الصفوف الساعية للهروب؛ يخترق الشاب بجسده النحيل وهو يلملم عباءته الطويلة؛ محاولًا الوصول لأقرب نقطة آمنة من ساحة المعركة، وقبل أن تدهسه الأقدام الهاربة، يلمح بطرف عينه جنودًا يحملون زميل الحرب والموت؛ وقد اخترق سهم فتّاك كتفه العاري الدامي، فيقرر صاحبنا أن يمدّ الخُطا إليهم حتى يُساعد، ولكن قلبه يقفز بين صدره عندما يشاهد أحد الجنود يحاول إخراج السهم بيده، فنادى عليه صارخًا أن ينتظر، ثم ركض إليه وهو يحمل حقيبته القماشيّة وكأنها ابنته الرضيعة.
وصل لاهثًا أمام أعينهم المترقبة المندهشة، فأبعدهم بيديه عن الجريح، وجلس بجواره وفتح حقيبته القماشية الممتلئة بالكثير من المعدات المعدنية الغريبة بالنسبة للجنود، فاختار الرجل أول أداة، وقام بتوسيع الجرح، ومن ثم التقط أداة أخرى وضعها بالجرح ليقيس مدى عمقه، وفي النهاية أمسك بأداة تبدو مخيفة أكثر من الجرح نفسه، ولكن الثقة على وجهه وفي حركات أصابعه جعلت الجنود يراقبونه في صمت، وبتلك الأداة الأشبه بالخطافة؛ أخرج السهم من كتف الرجل، ثم قام بتطهير الجرح، وأمر زملاءه بالعناية بالجرح وكيّه.
«من هذا الرجل؟» سأل أحدهم، فأجاب «أنا الزهراوي!».
أمّا الحقيبة التي كان يحملها، فكانت تحتوي على أولى الأدوات الجراحية التي عرفها العرب، ومن ثم صدّروها للعالم كله، ومازال أطباء العالم يستعملون نفس المعدات الجراحية، وبنفس طريقة الاستخدام مع فارق الطابع التكنولوجي الذي مد اختراعات الزهراوي بطرق تنفيذ أسرع وأكثر فعالية، مثل المشارط والحقنة والمكاوي.
«Albucasis».. كما يسميه الغرب
الطبيب المسلم أبو القاسم خلف بن عباس الزهراوي، المعروف عالميًا باسم «Albucasis»، أو الأب الروحي للجراحة في العالم. عاش الزهراوي في القرن العاشر الميلادي بالأندلس، وأطلق عليه «أبو الجراحة»، وكان أول من استخدم أمعاء الحيوانات خيوطًا للجراحة، وكان له الفضل في شرح كيفية إخراج الأجنّة المتوفية في رحم الأم، وكان له الفضل أيضًا في تعريف العالم بمرض «الحمل المنتبذ»، وهي الحالة التي يكبر فيها الجنين خارج جدار الرحم.
مارس الطبيب المسلم تلك العمليات الجراحية بجانب عمليات أخرى حساسة، مثل معالجة قرنية العين بالجراحة، وفي الوقت الذي كان يمارس فيه الزهراوي درجة رفيعة ومتطورة من الجراحة؛ كان مصير المرضى في أوروبا في ذاك الوقت هو العزل أو التعجيل بالموت.
تميز الزهراوي في عالم الجراحة وترك إرثًا يمشي على خطاه أطباء العالم حتى الآن، وكان له إنجازات في فروع أخرى من الطب؛ فهو أول من اكتشف علاج بعض الأمراض الجلدية مثل «الثؤلول» والمعروف بمرض «عين السمكة»، وأدرك الزهراوي قدر العلم الذي وصل إليه، وكان شغوفًا باكتشاف المزيد والمزيد عن جسد الإنسان وكيفية علاجه، وحمل عبء نقل تلك المعلومات للأجيال القادمة؛ ولذلك كتب كتاب «التصريف لمن عجز عن التأليف» المكوّن من 1500 صفحة، وقضى ما يقرب من 50 عامًا في تأليفه، وتحوّل هذا الكتاب فيما بعد إلى واحد من أهم المراجع الطبية في العالم، وتُرجم إلى لغات كثيرة منها اللاتينية على يد المترجم الإيطالي جيراردو الكريموني بالقرن الثاني عشر الميلادي.
ولأن الزهراوي كان همه الأول نقل العلم وتوثيقه، سواء كانت تلك الاكتشافات تخصه أو تخص غيره؛ فهذا الكتاب جمع كمًا هائلًا من المعلومات الطبية للعديد من الأطباء السابقين في مجاله، وتضمن الكتاب ثلاثة أبواب، وكل باب منها احتوى على 20 فصلًا، ويعرض الكتاب الجراحة بالكي والأدوات الجراحية المتعددة والتي وصلت إلى 200 أداة من ابتكار الزهراوي، وتضمن الكتاب أيضًا طرق تجبير العظام و«رد الكتف». أي كيفية إرجاع الكتف والمفاصل الأخرى المتنوعة لوضعيتها الأصلية في حالة زحزحتها من مكانها الأصلي إثر الحوادث والإصطدامات.
وإذا كنت تقرأ هذا التقرير ويزين فكك أحد الأسنان الفضية أو الذهبية، فاشكر الزهراوي؛ لأنه أول من وصف وشرح كيفية معالجة تشوهات الفك السفلي والعلوي، وطريقة تركيب المكملات الفضية والذهبية، وإذا كانت المرأة تظن أن آلام ما قبل الطمث قد اكتشفها علماء الطب الغربي الحديث، فيجب أن تعيد النظر حينما تقرأ ما قاله الزهراوي عن تلك المتلازمة حين قال: «قد تَعتَري بعضُ النِّساء قبل مَجيء الطَّمث أوجاعٌ في السرَّة وكسلٌ وثِقَل في البدن، ويقلُّ الوجع حتَّى ينطلق الطمثُ ويذهب الوَجع».
وقد عرف الزهراوي أيضًا خطورة مرض السرطان وصعوبة علاجه حينما وصفه قائلًا: «السَّرطان إنَّما سُمِّيَ سرطانًا لشَبهه بالسرطان البحري، وهو على ضربين: مبتدئ من ذاته، أو ناشئ عقب أورام حارَّة، وهو إذا تكامل فلا علاجَ له، ولا بُرءَ منه بدواء ألبتَّة، إلاَّ بعمل اليد (الجراحة أو الكي)، إذا كان في عضو يمكن استئصالُه فيه كله بالقطع».
هل جُن الرازي؟
ينظرون من خلف زجاج متاجرهم ليكتشفوا سبب الضجة، أحد الرؤوس تمتد للتلصص على مصدر فضول المتجمهرين، وعين ثاقبة تراه وهو يجر عربة خشبية مُحملة بقطع لحوم كبيرة، ثم يقف في أحد الأركان ليعلقها على شرفة أحدهم، ويمسك العربة ويسير مسرعًا، ويعيد الكرة على أحد الحوائط بالطرقات، ويركض بعربته الخشبية المحملة باللحوم الحمراء فاعلًا نفس الشيء في أنحاء دمشق وبعدها جلس يستريح أمام أعين أهل دمشق المندهشة.
«هل جُن الرازي؟» بالطبع لا! إنه فقط يريد بناء مستشفى.
في اليوم التالي عاد الرازي يراقب اللحوم ويدوّن ملاحظاته، وفي النهاية اختار إحدى البقاع، وتخيله معي يقولها بالطريقة المعتادة: «وجدتها!» وفي تلك الحالة؛ يقصد الرازي أنه وجد أفضل بقعة مناسبة لبناء مستشفى؛ لأن تلك البقعة لم يتعفن بها اللحم الأحمر كما تعفن في باقي البقاع؛ وهذا لأن المستشفى تحتاج لهواء نقي للعمل على شفاء المرضى.
«أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق»
ولكن دعونا نعُد بالزمن لبدايات الرازي، أو الطبيب المسلم فارسي الأصل؛ أبي بكر محمد بن يحيى بن زكريا الرازي القاريء النهم الذي لم تشبع روحه من المعرفة ولم يخلُ عقله من الشغف، وتوّجت موهبته العلمية بكرمه المتجسد في علاج المرضى بالمجان؛ ليكون رمزًا ليس في الطب فقط، بل في المعاملات الإنسانية، وقد وصفته المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه بكونه «أعظم أطباء الإنسانية على الإطلاق» في كتابها «شمس الله تسطع على الغرب»، والذي تحدثت فيه عن إنجازات المسلمين في العلوم والطب وفضلها على باقي دول العالم.
وتلك المكانة استحقها الرازي عن جدارة؛ وإذا كنت تظن أنك كبرت في العمر وفات أوان الإبداع في حياتك؛ فعليك أن تعلم أن الرازي حتى عامه الأربعين كان يدرس كل العلوم سويًا، ولم يقرر التخصص في الطب حتى هذا السن، وعندما تخصص فيه لم يكف عن السعي وراء تطويره وترك بصمته الشخصية على الطب.
ومن هذا الدافع كتب الرازي 200 كتاب في الطب وغيرها من العلوم، تُرجمت جميعها إلى العديد من اللغات، أهمها اللاتينية، ومن أشهر تلك الكتب «الحاوي في الطب»، والذي يحتوي على ملخصات علوم الطب السابقة من مؤلفات الإغريق، بالإضافة إلى ملاحظاته الخاصة عن تلك الاكتشافات والعلوم، وتُرجم الكتاب للعربية واللاتينية، وطُبع للمرة الأولى في إيطاليا بالقرن الخامس عشر.
الرازي لم يكن طبيبًا فقط، بل كان فيلسوفًا محبًا للموسيقى وللحياة، وكان مُدركًا لأثر الروح على الجسد، ولذلك كان من أوائل الأطباء الذين اكتشفوا الأمراض الجسدية الناتجة عن علل نفسية، وأكد من خلال تأليفه لكتاب «الطب الروحاني» الذي يشرح طبيعة تأثير الأمراض النفسية على الجسد؛ مكملًا لكتاب «المنصوري في الطب»، والذي كان يشرح فيه طبيعة العلل الجسدية؛ الأمر الذي يسعى الأطباء في كل العالم الآن إلى شرحه لمرضاهم، عن قوة الترابط بين الحالة النفسية والجسدية؛ كان الرازي منذ القرن العاشر سابقًا لكل العصور.
التجارب المعملية.. بدأت على يد رجل مسلم بجلباب يصطحب قردًا
الصورة الذهنية في عقلك عن الأطباء المُشرفين على التجارب المعملية على الحيوانات؛ بردائهم الأبيض وملامحهم الأوروبية والمعامل التي تشبه السُفن الفضائية؛ تلك الصورة يجب أن تتغير لتدرك الحقيقة التاريخية للأمر؛ فعليك أن تعدل تلك الصورة وتستبدل بالمعمل حديث الصناعة غرفة بسيطة صغيرة وأثاثًا خشبي الصُنع ورجلًا بجلباب يشبه كل رجل مسلم تراه صباح يوم الجمعة ذاهبًا للصلاة، وهذا الرجل يقف بجوار قرد صغير يناوله الدواء في فمه داعيًا الله أن ينجح الأمر حتى يكون عقارًا جديدًا من أجل مساعدة البشر، وما يجب أن تعرفه أن هذا الرجل هو الرازي، والتجارب المعملية على الحيوانات كانت تُجري في غرفته الصغيرة البسيطة بمنزله المتواضع في مدينة الري.
هل يعلم طفلك ما قدمه المسلمين للعالم؟ امنح طفلك متعة مشاهدة قصة حياة الرازي من هُنا
ومدينة الري كانت مسقط رأس الرازي؛ ولذلك حينما درس وتعلم في بغداد؛ عاد مرة أخرى إلى مدينته وأهله، حيث أدار إحدى المستشفيات أو (البيرامستانات) كما كانت تسمى في ذاك الوقت، وكان يستقبل العديد من المرضى الفقراء ويعالجهم دون أي مقابل مادي، وكان يصر على عودتهم مرة أخرى للمتابعة الطبية حتى لا تتدهور حالتهم. والتف حوله الأطباء الشباب يلتهمون من علمه الذي لم يبخل به عليهم، وظل متنقلًا بعد ذلك بين بغداد ومدينته مشرفًا على كبرى البيرامستانات في البلدتين، حتى توفي في عام 935 وسط أهل بلدته في مدينة الري.
ابن سينا.. الطفل الحكيم
يلعب مع قطته الصغيرة كأي طفل لم يتجاوز عمره 10 سنوات، ولكن دون أن يلحظ؛ تسقط القطة من الشرفة، ولا تتحمل قدماها الصغيرتان صدمة السقوط، ويحملها ويهرع بها إلى والدته مخبرًا إياها أن قطته قد كُسرت عظام قدمها اليسرى، وفجأة يتوقف عن الكلام ويعود ذهنه للخلف؛ لليوم الذي كُسر فيه ذراع صديق والده؛ حينما جاء الطبيب ووضع قطعة من الخشب لتجبير الكسر وعلاجه، وعلى الفور أخبر أمه أنه سيعيد الكرة على القطة ليعالجها. تنظر له أمه بفخر وتدعو الله أن يستغل ابنها ذكاءه عندما يكبر في شيء مفيد ويجعل منه رجلًا ذا مكانه. واستجابة لتلك الأمنية خرج للعالم الطبيب المسلم ابن سينا.
لُقب في صغره بين أهل بدلته بالـ«الطفل الحكيم»؛ لما أحصاه من علوم ومعارف في هذا السن الصغير، ومع مرور الوقت تحول الطفل الحكيم إلى المراهق النابغة حين نجح في علاج أمير مدينة بخارى وقتما عجز كبار الأطباء عن علاجه، وكان يعاني الأمير من أوجاع المعدة والقولون، وقد وصف له الطبيب الصغير نظامًا غذائيَا مصحوبًا بجرعات من عقاقير طبية، وتعافى الأمير؛ وهو الأمر الذي جعل كل الأطباء الكبار في ذاك الوقت والمثقفين يفتحون له أبواب مكتباتهم العامرة بعظيم العلم حتى يستثمروا في هذا العقل الذي جمع بين حفظ القرآن كاملًا والريادة في العلوم الطبية قبل أن يصل عمره 20 عامًا.
الطبيب المسلم أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا. جمع بين علمي الفلسفة والطب، ووازن بين نهمه لمعرفة الاثنين، ولذلك كان طبيبًا يستدل بالأدلة الواقعية المرئية، ولكنه أيضًا لم يحجّم خياله، وتركه سارحًا في الملكوت محاولًا اكتشاف ما يوجد وراء هذا الجسد وهي الروح، أو كما أسماها في مؤلفاته «النفس» حيث وصفها بكونها القوة الكامنة وراء جسد الإنسان، وشرح أن لها أنواعًا متعددة، كالنفس النباتية، وهي النفس التي تسعى دائمًا للنمو والعطاء، والنفس الحيوانية، وتلك المُخصصة لإدراك الماديات من حول الإنسان.
وقد أخذته أفكاره الثورية للعديد من المناطق التي كانت تعتبر محرمة في ذاك الوقت مثلما رجح أن الأجسام لا تقوم مع الأرواح يوم القيامة. تلك النظرية بجانب نظريات فلسفية أخرى تخص الألوهية؛ تعرض بسببها فيما بعد للتكفير والتهام بالإلحاد كما فعل العالم الإسلامي أبو حامد الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال».
ولكن إن اختلف علماء المسلمين على نظريات ابن سينا الفلسفية؛ فمن الصعب على العالم كله نكران إنجازاته الطبية والتي تفيد البشر حتى الآن.
الأعشاب وقانون الطب.. بين ابن سينا وديتليف
يفصل بينهما ما يزيد عن ألف عام، ولكنهما يعملان جنبًا إلى جنب لخدمة البشر؛ يقف الأول بحديقته المليئة بالألوان المتعددة، ويفتح كتابًا يعود أصوله لزمن بعيد، ويشعر بالامتنان لترجمته هذا الكتاب للغات يستطيع قراءتها، ويحتوي الكتاب على مئات من الأعشاب التي تساعد في مداواة الإنسان، دون الحاجة للعقاقير الكيميائية التي تفسد أكثر مما تعالج.
في المشهد الآخر يفتح الطبيب ديتليف كوينترن كتاب «القانون» في الطب لابن سينا، والذي يشرح فيه كيفية علاج الأمراض بالأعشاب، ويدرك – ديتليف – أنه مازال أمامه الكثير؛ فهو لم يزرع في حديقته التجريبية سوى 26 عُشبًا، بين مضادات التسمم، مثل حبة البركة، ومضادات الالتهاب، بينما ذكر الطبيب المسلم ابن سينا مئات الأعشاب في كتابه الذي قضى في كتابته ما يزيد عن ست سنوات، ولكنها على الأقل البداية، فقد أكد ديلتيف في لقاء معه أن بعض هذه الأعشاب قد ثبت فعاليتها بالفعل، وإذا تم تطبيق تلك النظريات المذكورة في كتاب ابن سينا، فقد يمكن للبشر بعد سنوات من العمل والبحث أن يتخلوا عن العقاقير الكيميائية.
«الماء يحتوي على حيوانات دقيقة».. من أين أتى ابن سينا بالميكروسكوب؟
كتاب القانون في الطب يعتبر موسوعة طبية بها خُلاصة الفكر اليوناني في الطب مضفرة بخبرات ابن سينا وملاحظاته وإنجازته الذاتية في الطب، وتُرجم للغة العربية واللغة اللاتينية، ثم انتشر في العالم كله بفضل حركات الترجمة المستمرة، وفي هذا الكتاب أيضًا شرح ابن سينا للمرة الأولى العديد من الأمراض التي لازلت تهاجم البشر حتى يومنا هذا، مثل مرض أنكلوستوما، والمعروف للعامة باسم الديدان المعوية، وكان له الفضل في شرح الفارق بين المغص المعوي والمغص الكلوي، وبين الشلل الناتج عن سبب داخلي والناتج عن سبب خارجي.
وفي القرن الثامن عشر احتاج الطبيب أنطوني فان ليفينهوك المجهر حتى يفحص مكونات المياة جيدًا بحثًا عن المسببات لبعض الأمراض مثل الجدري والحصبة، وحينما استخدمه أنطوني وجد بالفعل كائنات صغيرة جدًا لا تُرى بالعين المجردة، واكتشف أنها المتهمة بنقل عدوى تلك الأمراض السابقة، وهذا يثبت صحة المعلومة التي ذكرها ابن سينا في مؤلفاته قائلًا: «إن الماء يحتوي على حيوانات صغيرة جدًا لا تُرى بالعين المجردة، وهي التي تسبب بعض الأمراض».
ابن النفيس: عذرًا هارفي.. عذرًا جالينوس!
تخيل معي الطبيب الإنجليزي وليام هارفي، الذي توفي في منتصف القرن السابع عشر، وهو يقف ناظرًا من بوابة زمنية على العصر الحديث، وكل عام يمر أمام أعينه يشعره بالفخر؛ فهو الرجل الذي أخبر العالم بطبيعة عمل الدورة الدموية في الجسد البشري، يشعر بالفخر سنة وراء الأخرى بإنجازه الفريد وريادته لهذا الاكتشاف الطبي، ولكن هذا الفخر لم يستمر طويلًا؛ ففي عام 1957 وقع أمر لم يكن يتوقعه هارفي.
هذا العنوان العريض في جريدة «صن داي تايمز» الإنجليزية؛ والذي يصرح فيه الطبيب جي بي لاثام أن شرح هارفي لطبيعة عمل الدورة الدموية لم يكن الشرح الأول من نوعه، والأكثر إزعاجًا – لهارفي- أن الشرح كان خاطئًا؛ وهذا بعد أن عُثر على مخطوطة للطبيب المسلم الدمشقي ابن النفيس، والتي يشرح فيها كيفية عمل الدورة الدموية الصغرى في جسد الإنسان، عذرًا هارفي لم تكن محقًا! ولم تكن رائدًا أيضًا! ربما عليك أن ترقد بسلام وتترك تلك النافذة الزمنية بروح رياضية لزميلك الطبيب المسلم ابن النفيس؛ ليراقب من خلالها بفخر ما قدمه للطب في العالم، خاصة وأنه كشف عن تلك المعلومة الطبية وعمره 29 عامًا فقط.
تعالوا سويًا في رحلة إلى بداية حياة ابن النفيس، أو أبي الحسن علاء الدين علي بن أبي الحزم الخالدي المخزومي، في مراهقته أصيب بمرض شديد جعله ملازمًا للفراش، وتوالي عليه الأطباء من كل صوب محاولين اكتشاف سبب مرضه، وكل طبيب منهم يصف له علاجًا كيميائيًا مُركبًا، إن عالج مرضًا؛ أصابه بمرض آخر كعرض جانبي، حتى مل ابن النفيس من الأطباء وامتنع عن وصفاتهم، وقرر أن يعالج نفسه بما يراه مناسبًا لجسده، وتناول ما يريده من طعام، وحصل على ما يكفيه من راحة؛ ليجد نفسه قد تحسن بالفعل؛ ومن تلك المحنة خرج إلى العالم واحد من أهم الأطباء؛ حين قرر ابن النفيس أنه ليس بالضرورة أن يكون كل الأطباء صالحين، وليس بالضرورة أيضًا أن يكونوا دقيقين في معلوماتهم.
كانت مصر الوطن الثاني لابن النفيس؛ حيث تعلم وعاش بها ما يقرب من 40 عامًا، وشغل منصب رئيس البيمارستان المنصوري، ولذلك فحين استشعر الخطر يداهم تلك البلد التي منحته الكثير؛ وقف أمام هذا الخطر وتصدى له، خاصًة وأن هذا الخطر يعتبر أشد أعداء الأطباء في كل العالم، وهو الوباء، وبكل ما أوتي ابن النفيس من علم وجهد، تصدى هو ومساعده لمحاربة هذا الوباء بتشكيل فريق طبي يعمل على مدار الساعة؛ حتى سيطر على الوباء، وأنقذ الكثير من المصريين؛ فأحبه هذا الشعب، وأصبح من مشاهير الأطباء، وتردد على بيته كبار العلماء من شتى الفئات، وأغدق عليه الأغنياء الهدايا والأموال شكرًا لمجهوداته، وهذا على الرغم من تقديمه للطب والعلاج بالمجان.
الجزار بدأ بخطأ.. فحوّله فائدة للعالم
ممارسة الطب قد يتخللها بعض الأخطاء، هذا مع التكنولوجيا الحديثة والتقدم التقني، أما فيما مضى كان الخطأ هو مرحلة من مراحل التعلم، وهذا هو الدرس القاسي الذي تعرض له الرجل الذي وقف منذ قرون أمام غرفة المنصور أمير تونس؛ ينتظر عقابه والذي عادًة ما يكون بالقتل؛ وهذا لخطأ طبي ارتكبه أدى إلى وفاة المنصور، ولولا دفاع أستاذه عنه لكان قُتل بالفعل في شبابه قبل أن يقدم علومه للبشرية.
هذا الخطأ لم يتعامل معه الطبيب التونسي المسلم أبو جعفر أحمد بن إبراهيم أبي خالد القيرواني، المعروف بابن الجزار القيرواني، على أنه حافز لترك الطب، بل كان هذا الخطأ هو الدافع الذي أهله لمكانة أحد أهم الأطباء في العالم حتى الآن؛ ولأن السبب في وفاة المنصور أن الجزار لم يتبين التشخيص الصحيح للمرض؛ فحسم الجزار أمره بأن الطب يجب أن ينقسم إلى تخصصات، ولا يجب على الطبيب أن يخلط بين إصابة عجوز بمرض، وإصابة طفل بنفس المرض.
فطريقة العلاج يجب أن تكون مختلفة، ومن هُنا بدأت التخصصات الطبية التي اتبعها العالم بأكمله مثل طب الأطفال والذي كتب فيه الجزار «سياسة الصبيان وتدبيرهم» واختاره تخصصًا لعلمه في النهاية، وطب النساء والتوليد وغيرهما من التخصصات، وإذا كنت طبيبًا وتشعر بالغضب أنك مضطر لاختيار تخصص بعد دراستك للطب فترة طويلة، فربما عليك شكر الطبيب المسلم الجزار قبل أن تغضب منه؛ فوصوله لهذا الاكتشاف كاد أن يودي بحياته.
اختيار الدواء الخاطيء للمنصور ربما كان دافعًا للجزار لتطوير نفسه ومعلوماته عن علم الصيدلة أيضًا حتى ينجح في مداواة المرضى، ولذلك أسس محلًا للعطارة تباع فيه العقاقير الطبية، مثل الصيدليات الحالية، وقد ارتكز في علمه على كتب علماء اليونان، مثل جالنيوس، وكان مؤمنًا بأن كل مريض يستطيع أن يجد علاجه من الأرض التي يعيش فيها، معللًا نظريته بأن «يتداوى كل عليل بأدوية أرضه؛ لأن الطبيعة تفزع إلى أهلها»، وساعدته معرفته اللغوية بترجمة أسماء النباتات والمعارف الطبية المتخصصة في التداوي بالأعشاب.
ولازال كتابه «زاد المسافر وقوت الحاضر» من أهم المؤلفات الطبية التي تعتمد عليها جامعات الطب حتى الآن، وتوجد أقدم مخطوطات مترجمة منه بالفاتيكان، وكان الهدف من كتابته أن يكون عونًا للمسافر وقتها للبلدان التي لا يوجد بها طب متطور، ولكنه فكر أيضًا أن الشخص المسافر أو حتى المقيم في موطنه، إذا لم يكن معه المال الكافي لاستشارة الطبيب، أو شراء العقاقير الموصوفة له، فمصيره سيكون المرض حتى الموت، ومن هُنا جاءت له فكرة كتاب «طب الفقراء»، والذي يقدم فيه أفضل الحلول المجانية والمتاحة في الطبيعة من أجل التداوي من الأمراض الشائعة، بجانب كتابه «الاعتماد» الذي يشرح الأمور الطبية التي تخص الصيدلة والعقاقير الطبية وتُحفظ نسخة من مخطوطة هذا الكتاب بالمتحف البريطاني بوقتنا هذا.
البيطار.. مهووس بعلم النباتات
لم يكن أحدهم يعرفه، هذا الرجل الذي يسير بحقيبة على كتفه، ويرنو إلى الأرض، ويقطف بعض النباتات، ثم يقارنها بالبعض الآخر من الحقيبة؛ ومن ثم تتهلل أساريره ويتقافز فرحًا صائحًا: «لقد صاروا 300!».
هذا الغريب الرحالة ليس بمجنون، هو فقط طبيب مهوسًا بعلم النباتات والأعشاب؛ حتى أُطلق عليه لقب «العشّاب». وهو الصيدلي المسلم ضياء الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد المالقي المشهور بابن البيطار، والذي سافر للعديد من البلاد طالبًا للعلم ودارسًا للنباتات في كل بلدًا على حدة، مثل بيروت وبلاد اليونان والروم وبلاد الشام، واختار دمشق أخيرًا مستقرًا له حتى يتفرغ لتحليل ودراسة ما جمعه من معلومات ونباتات؛ وقد نتج عن ذلك كتابه «الجامع لمفردات الأدوية والأغذية» والذي تضمن 1400 وصفة دوائية، منها 300 من ابتكاره الخاص.
وأطلق عليه ابن البيطار؛ نظرًا لعمل أسرته في مجال الطب البيطري، وبمساعدة والده والحيوانات أيضًا استطاع البيطار التنبؤ بالكثير من فوائد وأضرار النباتات؛ نظرًا لأن الحيوان هو الخبير الأول في الطبيعة، وقد تعلم بالفعل منذ الأزل أي النباتات تضره وأيهما تفيده.
البهاق هو أحد الأمراض التي تميز ابن البيطار في علاجها باستخدام بذور الخلة مع عسل النحل، وكان يتابع حالة المريض بنفسه حتى يُشفى، وظهر هذا في ملاحظاته التي أكدت للمرة الأولى أن البقع التي تصيب مريض البهاق تتفاعل مع أشعة الشمس بعد وضع الخليط على جلد المريض، وهو الذي أكد أيضًا أن تلك البقع يصعب علاجها، إذا كانت ظاهرة على الجلد فوق النتوءات العظمية، وهو ما أكده الطب الحديث، وقد كتب البيطار ما يزيد عن خمسة كتب كلها متخصصة في الصيدلة، وظل يوثق لعلومه حتى توفى في القرن الثالث عشر.
الـ«بيمارستان».. قبل أن ينتشر مصطلح «العلاج
بالخارج»
إذا شاهد صغيرك شاشة منفصلة لقسمين؛ لتقارن ما بين تطور الطب بالعالم العربي والغربي قديمًا بالعصور الوسطى، بما يراه الآن الطفل في العالم؛ سيتوقع أن الجانب الأيمن من الشاشة المليء بالخيام والمرضى ينزفون ومن حولهم معدات قديمة ومخيفة هو الجانب الخاص بالعرب، وسيظن أيضًا أن الجانب الأيسر للغرب حيث المعمار الفخم، والأجواء النظيفة والأدوات الأكثر تطورًا؛ ولكنه فجأة سيرى شيئًا يوتر يقينه بالتخمين السليم؛ رجل بعباءة وعمامة يقترب من أحد المرضى في فراشه ويطمئن على حالته؛ ليدرك هذا الطفل الذي يرى كبار السن يعالجون بالخارج على أيدي الأطباء الأوروبيين أن المجتمع العربي والإسلامي في العصور الوسطى كان منشأ الطب الحديث وبداية بناء المستشفيات، والتي سميت في هذا الوقت بالـ«بيمارستان»؛ وهي كلمة فارسية تعني المكان الذي يتواجد فيه المريض، بينما استخدم العثمانيون مسمى «دار الشفاء» للمستشفيات التي بنوها.
تحت ظل الإسلام بُنيت العديد من البيمارستانات مثل بيمارستان دمشق، والذي أُسس في القرن الثامن عشر، حيث قدمت المعونة بالمجان لكل المرضى، وهو أول مكان حُجز فيه مرضى الجذام وعزلوا عن باقي الأصحاء.
بينما تميز البيمارستان المنصوري بالقاهرة في الدولة العباسية بمبادرة إنشاء أول قسم نفسي في تاريخ الطب بالعالم؛ حيث كان يُحجز المرضى الذي يعانون من اضطرابات عقلية ونفسية؛ ولازال في العامية المصرية يُطلق على مستشفى الأمراض النفسية «مورستان» وهو تحريف لكلمة «بيمارستان»؛ في حين كان هؤلاء المرضى قد يتعرضون للقتل أو الحرق في العصور الوسطى بأوروبا، كما كانت تُحرق النساء المضطربات لكونهن ساحرات.
وتوالت بناء البيمارستانات حتى القرن الحادي عشر لتكون مشفى للمرضى، ومصنع للعقاقير الطبية وتطويرها، وجامعة للطلاب القادمين من كل العالم ليتلقوا الطب من علماء المسلمين.
رحلة إلى مستشفيات أوروبا في القرون الوسطى
في هذا الممر بنهاية البيمارستان الذي تجولنا فيه، وبعد أن عرفنا كيف كان يمارس المسلمين الطب في العصور الوسطى؛ دعونا نتخيل أن الجانب الآخر من هذا الممر يأخذنا إلى مستشفى بالقرون الوسطى أيضًا، ولكن في أوروبا، وقبل أن تدخل عليك أن ترتدي تلك الكمامة الطبية؛ لأن النظافة لم تكن عاملًا متوفرًا في ذاك الوقت، ولا حتى بالمستشفيات، وعندما تخطو عابرًا للمكان والزمان، ستجد على يمينك ويسارك مرضى متقيحة جروحهم، أو شاحبة وجوههم، متراصين على نقّالات مهملة في الممر.
ستبحث بعينيك عن ممرضة أو طبيب، فلن نجد سوى الراهبات ورجال الدين؛ ففي هذا الوقت المرض عند الأوروبيين لم يُفسر تفسيرًا علميًا، بل فُسر تفسيرًا دينيًا على كونه عقابًا من الله على ذنوب المريض، أو القدر المحتوم الذي عليه أن يتقبله، أو سحر بمساعدة الشيطان، ويجب أن تُقام طقوس سحرية لتخليص «الممسوس» من أوجاعه.
وعندما تجد طبيبًا، حتى وإن لم يؤمن بذنب المريض واستحقاقه المرض، فلن يستطيع أن يساعده أيضًا؛ لأن الأطباء في ذاك الوقت لم يجدوا الفرص المتاحة لدراسة الطب كما درسه المسلمون في ذاك الوقت برعاية مالية ومعنوية من الحكام والمثقفين.