يبدو أن كلمة التواصل الاجتماعي، كلمة خادعة فقد أثبت العلم أن مراسلة الأصدقاء إلكترونياً لا تؤدي للسعادة على الإطلاق، حتى لو كان الأمر قصة حب، ولكن من حسن الحظ أن العلماء توصلوا إلى الجرعة المثالية لإشعارات الهواتف المحمولة.
نعم، لا تستحق وسائل التواصل الاجتماعي هذا المسمى على الإطلاق بل هي العكس تؤثر على سلباً علاقاتنا الاجتماعية، وفقاً لما يقوله كوستادين كوشليف عالم النفس والأستاذ بجامعة فيرجينيا الأميركية في مقال نشر بصحيفة The Daily Mail البريطانية.
أخيراً بدأت شركات الهواتف المحمولة في محاولة معالجة الكارثة التي تتسبب بها
في مطلع هذا العام 2018، أعلنت شركتا آبل وجوجل عن ميزاتٍ جديدة مُدمَجة في أنظمة تشغيل الهواتف المحمولة المُرتَقَبة، والمُصمَّمة «للحدِّ من المقاطعة والتحكُّم في الوقت الذي تقضيه أمام الشاشة».
وقريباً سيتمكَّن مستخدمو نظامي Android وiOS على حدٍّ سواء من التحكُّم في عدم الإزعاج أثناء النوم بسبب الإشعارات.
وسيتم ذلك من خلال تنشيط وضع «عدم الإزعاج – Do Not Disturb» بسهولةٍ عند الحاجة لذلك، مع إمكانية إيقاف تلك الإشعارات عند استخدام التطبيقات المُفضَّلة لمدةٍ زمنية يُمكِنهم تحديدها.
يقول كوستادين كوشليف «وبصفتي عالم نفس يدرس تأثيرات تكنولوجيا الأجهزة المتنقِّلة على سلامة الإنسان وسعادته طيلة السنوات الخمس الماضية، لا يسعني إلا أن أُرحِّب بقدوم تلك الأجهزة.
إنها تبعدنا عن العائلة والأصدقاء
فهناك قدرٌ كبير من الأبحاث العلمية التي وثَّقت كيف يُمكن للهواتف الذكية أن تُلحِق الضرر بجودة النوم لدى الناس أو إلهائهم عن الأنشطة الأخرى غير الإلكترونية، حسبما يقول كوشليف.
وفي البحث التجريبي الذي أجريته، خلصتُ أنا والمُتعاونون معي إلى وجود دليل ثابت على أنَّ الهواتف الذكية بإمكانها أيضاً تشتيت المُستخدمين وإلهائهم عن العائلة والأصدقاء الماثلين أمامهم مباشرةً، مثلاً أثناء مشاركتهم وجبة طعام أو قضاء وقتٍ مع أطفالهم.
وفي الحالات التي تستلزم بوضوحٍ الحدَّ من التشتُّت الرقمي –مثل أوقات اللعب مع الأطفال- ستُوفِّر أدوات آبل وجوجل الجديدة حلاً مناسباً.
وتجعلنا أقل سعادة بشكل يفوق توقعاتنا
ومع ذلك، يُشير البحث إلى أنَّ استخدام الهواتف الذكية رُبما يجعلنا أقل سعادةً في نطاقٍ أوسع من المواقف الاجتماعية بما يفوق توقُّعاتنا.
بيت القصيد هو أنَّ الناس، كما اتضح، يفشلون في الحكم على ما يُسميه خبراء الاقتصاد «تكلفة الفرصة البديلة» –أي قيمة ما يتخلَّى عنه شخصٌ ما عند اختياره فعل شيء واحد فقط.
يقول كوشليف «على سبيل المثال، في سلسلةٍ من الدراسات التي أجريتها بالتعاون مع جيسون برولكس وإليزابيث دون في جامعة كولومبيا البريطانية، تبيَّن لنا أنَّ الناس يُهملون أثراً جانبياً أساسياً للاعتماد على هواتفهم من أجل الحصول على المعلومات: فهم بذلك يُفوِّتون الفرص لتعزيز شعورهم بالترابط الاجتماعي».
فباستخدام تطبيق الخرائط على الجوال، كمثالٍ، يُغني عن الاعتماد على الأشخاص الآخرين، ويلغي فرصة مُعايشة لُطف الأشخاص الغُرباء الذين يُرشدوننا بإيجابيةٍ إلى الطريق إلى متجرٍ أو دار سينما.
الهاتف يسبب التعاسة حتى لو كنت ترتب لموعد غرامي
من السهل أن نرى كيف يُمكن للاستغناء الكامل عن التفاعل الاجتماعي لأجل الراحة التي تُوفِّرها التكنولوجيا الإضرار برفاهية وسعادة الناس.
لكنَّ معظم الأشخاص يستخدمون هواتفهم بالتحديد بهدف التواصل الاجتماعي –وكثيراً ما تُستَخدَم بينما يتواصلون مع آخرين بشكلٍ شخصي.
فرُبما يحدث أن تتناول مشروباً مع زميلك في العمل بينما تُراسل صديقك عبر تطبيق سنابشات، أو تُراسل شريكك، أو حتى تُرتِّب موعداً غرامياً جديداً عبر تطبيق Tinder أو Grindr.
رُبما يظن المرء أنَّ التواصل الاجتماعي مع أكثر من شخصٍ في وقتٍ واحد هو الأفضل.
حتى أنه تبين أن الوحدة ليست أسوأ من التواصل الرقمي
يقول كوشليف إنني وسامانثا هاينتزلمان، إحدى المتعاونين في البحث، وجدنا مؤخراً أنَّ الجمع بين التواصل الاجتماعي من خلال الأجهزة الرقمية والتواصل وجهاً لوجه ليس ممتعاً مثل ترك الهاتف وقضاء بعض الوقت معاً فحسب.
وفي دراسةٍ أُجرِيَت في جامعة فرجينيا، تتبَّعنا السلوك الاجتماعي وحالة السعادة لـ174 شخصاً من جيل الألفية على مدار أسبوعٍ.
وفي خمسة أوقاتٍ عشوائية كل يوم، أرسلنا لكل شخصٍ استقصاءً مدته دقيقة واحدة لإتمامه على هاتفه الجوال.
طرحنا عليهم سؤالاً عن الشيء الذي كانوا يفعلونه في الدقائق الـ15 التي سبقت ذلك، سواء كانوا يتواصلون بشكلٍ شخصي أو يتواصلون رقمياً (عن طريق الرسائل النصية أو استخدام الشبكات الاجتماعية). وسُئلوا كذلك عن مدى شعورهم بالقرب أو البعد تجاه الأشخاص الآخرين، وعن حالتهم الشعورية عموماً سواء كانت جيدة أو سيئة.
لم نندهش بصورةٍ خاصة حين وجدنا أنَّ الأشخاص شعروا بتحسُّنٍ وتواصلٍ أكبر في الوقت الذي كانوا يتفاعلون فيه وجهاً لوجه، مقارنةً بالوقت الذي لم يتواصلوا فيهٍ على الإطلاق.
وهذا يتناسب مع البحوث القائمة منذ عقود.
ولكن المفاجأة حسبما يقول كوشليف»لم نخلص لوجود أي فائدة للتواصل الرقمي مقارنةً بعدم التواصل مُطلقاً. برغم أنَّ الدراسة لم تكن تهدف إلى استكشاف هذا الفارق».
أي أن التواصل الرقمي ليست أفضل حتى من عدم التواصل على الإطلاق، فالوحدة على عيوبها ليست أسوا من التواصل الرقمي.
والأسوأ أن تحاول أن تجمع بين التواصل الرقمي والمباشر
كما وجد الباحثون أنَّه في حالة التواصل وجهاً لوجه فقط، كان الناس يشعرون بسعادةٍ أكبر وارتباطٍ بالآخرين مقارنةً بالوقت الذي كانوا يتواصلون فيه فقط عبر هواتفهم.
وهذا الأمر جديرٌ بالملاحظة لأن الأشخاص المشاركين في الدراسة يُمثِّلون جيلاً يُطلَق عليه «الجيل الرقمي»؛ الذين كانوا يستخدمون الهواتف الذكية، والأجهزة اللوحية، وأجهزة الحاسوب للتفاعل منذ سنٍّ مُبكرة للغاية.
وحتى بالنسبة لهذا الجيل، تخطَّت الفوائد المُكتَسَبة من الحديث الجيد وجهاً لوجه رفاهية التواصل الرقمي.
بل الأهم من ذلك أنَّ الأشخاص شعروا بشكلٍ أسوأ وأقل ارتباطاً بالآخرين حين خلطوا بين التواصل الرقمي والتواصل وجهاً لوجه، مقارنةً بالوقت الذي تواصلوا فيه بشكلٍ شخصي فقط.
تُشير نتائجنا إلى أنَّ التواصل الرقمي لا يدعم الفوائد النفسية للتواصل غير الرقمي، بل ينتقص منها في الحقيقة.
والآن، علم النفس يخبرك عن الجرعة المثالية لإشعارات الهواتف المحمولة
بدأت الأجهزة الرقمية النافعة في توفير خياراتٍ أكثر وأفضل للحدِّ من الوقت الذي تقضيه أمام الشاشة وتجنُّب الانقطاعات التي تُحدِثها الإشعارات.
ولكن تحديد كيفية استخدام هذه الخصائص ليس واضحاً أو بديهياً بعد.
ويُوفِّر علم السلوك بعض الحلول الواعدة لهذا المأزق مثل طريقة استخدام خيار «عدم الإزعاج – Do Not Disturb» يعمل بشكل افتراضي، ليتسنَّى للمستخدمين رؤية الإشعارات الواردة فقط حين يرغبون في هذا.
ولكن اللافت هو أن عدم استقبال الإشعارات مُطلَقاً يضر شعور الفرد بالسلامة النفسية من خلال زيادة مُعدَّل الخوف من تفويتها، حسب أثبت البحث البحث الأخير الذي أجراه كوشليف بالتعاون مع نيكولاس فيتز ودان أريلي في مراكز التجارب المُتقدمة في جامعة ديوك.
والسبيل الأمثل هو الحل الوسط: إذ وجدنا أنَّ ضبط الهاتف بحيث يستقبل دُفعاتٍ من الإشعارات مُقسَّمة على ثلاث مراتٍ يومياً يُحقِّق الاستفادة المُثلى.
ولذا يقترح على شركتي لشركتي آبل وجوجل تسهيل دمج الإشعارات، بهدف حصول مُستخدميهم على أفضل الفوائد النفسية من كلا النوعين من الأنشطة؛ الرقمية وغير الرقمية.
ويجب أن تتعلم الهواتف أن تتوقف في هذه الأوقات
في خضم السعي إلى الوصول إلى الجرعة المثالية لإشعارات الهواتف المحمولة يتعيَّن على الشركتين أيضاً توسيع التوصيات الاستباقية للتحكم في الإشعارات أثناء استخدام الهاتف، وفقا لكوشليف.
على سبيل المثال، يوفر هاتف آيفون بالفعل خيار تشغيل وضع «عدم الإزعاج» تلقائياً أثناء القيادة، وسُيصبح ممكناً كذلك في أثناء النوم في الميزات القادمة.
وتشير الأدلة المُتزايدة حول كيفية تأثير الهواتف الذكية سلباً على سلامتنا النفسية أثناء التفاعل الاجتماعي إلى أنَّ الوقت الاجتماعي والأسري يستلزم أيضاً الحماية من الاضطرابات الناجمة عن التفاعل الرقمي.
يقضي الناس وقتاً أطول بصحبة أجهزتهم الرقمية مقارنةً بأصدقائهم وحتى شركائهم العاطفيين.
وبالتالي يتعيَّن على مصنعي هذه الأجهزة معرفة المزيد بشأن ما يجعل الناس سُعداء، وإتاحة الفرصة لاسترداد السعادة المفقودة بسبب النشاط الرقمي، وكذلك الشركات التي هي في حاجة إلى جذب اهتمام الناس لتنمو.