مقتل جنود امريكيين في منبج

«الشاورما» التي أوقعت الجنود الأمريكيين في الفخ… عشقوا طعمها وقطعوا مئات الكيلومترات لتناولها لكنها كانت سبباً في مقتلهم

عربي بوست، نيويورك تايمز
 
 

 ما أن وقع انفجار في مدينة منبج حتى بدأ الكلام عن مطعم بعينه اسمه «قصر الأمراء».

يمثل مطعم قصر الأمراء في منبج مكاناً مريحاً للقوات الأمريكية المتمركزة في الأراضي المستوية الغبارية في شماليّ سوريا، إذ يمكنهم الوقوف لتناول الدجاج المشوي، أو البطاطس المقلية، أو الشاورما.

أحب الأمريكيون الطعام للغاية لدرجة أنهم كانوا يمرون بصورة متكررة، وأحياناً لمرات عديدة أسبوعياً، حسبما قال السكان.

لقي المسؤولون الذين زاروا المنطقة ترحاباً بالطعام والشراب من الأكشاك المنتشرة في المكان، وتناول عضوان بمجلس الشيوخ الأمريكي الغداء هناك في يوليو/تموز الماضي.

كانوا يشعرون بالأمان الزائف هنا

وفد يزور مدينة منبج

قال جاسم الخلف، الذي يبيع الخضروات في منطقة قريبة من الموقع ويبلغ من العمر 37 عاماً: «إنهم يتوقفون هنا من أجل الدجاج والشاورما عندما يكون لديهم دورية في المدينة. الناس هنا معتادون على ذلك، لذا ليس بالشيء الجديد أن يشاهدوهم».

وقد لاحظ جهاديو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ذلك أيضاً، فبعثوا انتحارياً فجر نفسه في المطعم أمس الأول الأربعاء 16 يناير/كانون الثاني، مُخلِّفاً وراءه 15 قتيلاً من بينهم أربعة أمريكيين: وهم جنديان، وموظف مدني بوزارة الدفاع الأمريكية، ومتعهد عسكري.

أثيرت تساؤلاتٌ مقلقة بسبب ذلك الهجوم الذي وقع في مدينة سورية يُحتفى بها باعتبارها جزيرة للاستقرار تحظى بدعم أمريكي، وهي تساؤلات تسلط الضوء على ما إذا كان الجيش الأمريكي نما لديه شعور زائف بالأمان في منطقة صراع، حيث يمكن أن يكون تجنب العادات الروتينية المتوقعة، مثل تناول الغداء في مكان ما، مسألة حياة أو موت.

عدد من أفراد العمليات الخاصة الحاليين والسابقين، إضافة إلى مسؤولين آخرين عملوا في المنطقة، قالوا أمس الخميس 17 يناير/كانون الثاني إن تنظيم داعش قد استغل إحدى نقاط الضعف.

وأوضح ضابط عمليات خاصة تحدث بشرط عدم الإفصاح عن هويته لأنه غير مُصرَّح له بالحديث إلى وسائل الإعلام: «ارتأى داعش هدفاً سانحاً، ولكن كان ينبغي أن يجدوا حماية أفضل للقوات».

وكان من السهل على داعش استهدافهم

وقال ضابطٌ سابقٌ كبير، تحدَّث بشرط عدم الكشف عن هويته، إن تنظيم داعش «سوف يهاجم الأمريكيين في أيِّ مكانٍ وفي أيِّ وقتٍ يشعروا فيه بوجود فرصة».

واعترف المسؤولون أن القتلى والجرحى، ومن بينهم واحد على الأقل من أفراد العمليات الخاصة، كانوا غير مبالين وكان يجب عليهم تنويع مسارات دورياتهم أو زيادة التدابير التي يتخذونها لضمان أمن العمليات.

وقال أحد المسؤولين الأمريكيين العاملين في المنطقة: «أوهام وجود الأمان شكَّلَت دائماً مشكلةً في شماليّ سوريا».

كان الحادث خطأً يمكن الوقوع فيه بكل سهولة في منبج، وهي مدينة صغيرة تقع شماليّ سوريا بالقرب من الحدود مع تركيا. تمكَّن ائتلافٌ عربي كردي تقوده الولايات المتحدة من إخراج داعش من المدينة في منتصف 2016، وشكَّل مجالس محلية مدعومة أمريكية لتدير المكان.

بعد أن هدَّدَت تركيا بغزو المنطقة في أوائل العام الماضي لإخراج القوات الكردية، التي تعتبرها تركيا مجموعاتٍ إرهابية، بدأت الولايات المتحدة في تسيير دوريات من قواعدٍ في بساتين الزيتون بالقرب من المدينة كي تحول دون هجومٍ مُحتَمَل من جانب أحد حلفائها، وهي تركيا، ضد حليف آخر، وهم الأكراد.

جعل الوجود العسكري مدنية منبج آمنة وسالمة، لكنه أمان خادع.

حتى أنهم لم يرتدوا سترات واقية

كانوا يشعرون بالأمان الزائف

وصل وفد من قادة الجيش الأمريكي وأعضاء مجلس الشيوخ في زيارة خلال شهر يوليو/تموز، حيث لم يرتدوا سترات واقية وساروا في السوق المزدحم هناك، لتفقد الأكشاك التي تبيع التوابل والذهب وصابون الزيتون والدجاج الطازج.

قال الجنرال الأمريكي بول فانك، الذي كان يقود آنذاك قوات الائتلاف التي تقاتل في العراق وسوريا: «رائع جداً. هذا ما يبدو عليه الاستقرار. هذا ما يبدو عليه الانتصار».

المجموعة التي ضمت عضوا مجلس الشيوخ الأمريكي: الجمهوري ليندسي غراهام عن ولاية كارولينا الجنوبية والديمقراطية جين شاهين عن ولاية نيو هامبشاير، سارت من هناك نحو مطعم قصر الأمراء لتناول الغداء مع القادة المحليين.

قال غراهام بعد ذلك: «خضنا جولةً جيدة جداً وغداءً رائعاً». مضيفاً أن منبج كانت «مكاناً للأمل في منطقة تحتاج مزيداً من الأمل».

ارتأى صاحب المطعم، علي صالح اليوسف، أن منبج نقطةٌ مضيئةٌ في بلدٍ مزقته الحرب.

وقال في مقابلة أجراها مؤخراً مع التلفزيون المحلي إنه غادر المدينة عندما استولى داعش عليها ولم يعد إلا بعد أن صارت آمنةً مرة أخرى.

قال اليوسف: «نأمل أن تكون جميع المحافظات في سوريا مثل منبج؛ لأن منبج الآن صارت نموذجاً».

هنا المطعم.. الوجهة المفضلة للأميركان

يقع مطعم قصر الأمراء في شارعٍ مزدحم وسط المدينة ويضم طابقين، ويقدم لمرتاديه لحماً مشوياً على الفحم، ودجاجاً مشوياً، وشاورما، وأطباق أخرى يجعله وجهة مفضلة للجنود الأمريكيين الذين يمرون في دورياتهم.

قال السكان إنهم يمرون أحياناً للحصول على شطائر يتناولونها وهم في طريق عودتهم إلى قواعدهم خارج المدينة. وفي أوقات أخرى قد يتوقَّفون بمدرعاتهم أمام المطعم ويحصلون على طاولة لتناول الطعام عليها.

إذا فكر الأمريكيون في الأهمية الجوهرية لتنويع روتين الأفراد في منطقة حرب؛ من أجل تصعيب التخطيط لهجوم على يد العدو، لانعكس ذلك في عادات الطعام الخاصة بهم.

قال شرفان درويش، المتحدث باسم المجلس العسكري في مدينة منبج، الذي يعمل بشكلٍ وثيق مع الولايات المتحدة: «أعرف أنهم عندما يذهبون إلى المدينة في دوريةٍ أو مهمة، فإنهم يمرون على ذلك المطعم».

مرت إحدى هذه الدوريات من هناك يوم الأربعاء من أجل تناول غداء متأخر. كانت السيارات مركونةً في صفين أمام المطعم وكانت الأرصفة ممتلئة بالأشخاص الذين يرتادون سوق الخضروات القريب، وذلك حسبما أفاد السكان ومقاطع الفيديو التي التقطتها كاميرات المراقبة ونُشِرَت على الإنترنت.

اختلط الانتحاري بالحشود وفجَّر سترته بالقرب من مدخل المطعم. حسبما أفاد الشهود والفيديوهات المنشورة على الإنترنت، اشتعلت كرةٌ من اللهب أمام المطعم وأسقطت لافتته وأطاحت بالشواية، وخلَّفت وراءها القتلى والجرحى متناثرين في الشارع.

الانفجار المشهد المروع الذي خلفه

قال الصحفي المحلي أحمد هيمو في مقابلة بالهاتف: «رأينا المدنيين على الأرض: الأطفال والجنود، والنيران لا تزال تشتعل في المحل. كان مشهداً مُروِّعاً».

مرَّ أحمد سليمان (12 عاماً) على المطعم في طريقه إلى منزل جده عندما وقع الانفجار.

وقال أحمد، بينما كان يُعالَج من إصاباتٍ في ساقه في إحدى المستشفيات: «عندما مررت، كان الرجل الذي يُعِدُّ الشاورما موجوداً. ثم دوَّى صوت إطلاق النار واختفى ولم يعد الرجل موجوداً».

وقال هيمو إنه بينما سارع عمال الإنقاذ بالجرحى إلى المستشفى، ظهرت ثلاث مروحيات في السماء. حاولت إحدى هذه المروحيات أن تهبط في الشارع لكنه كان بالغ الضيق، لذا فقد هبطت على ملعب كرة قدم قريب. أُخِذَ القتلى والجرحى الأمريكيون ونُقِلوا جواً.

رفض البنتاغون، يوم الخميس، تحديد هوية الأمريكيين الأربعة الذين قُتِلوا، لكنَّ مسؤولين عسكريين قالوا إنَّ واحداً من أفراد الخدمة كان جندياً في القوات الخاصة، أو أصحاب القبعات الخضراء، والآخر ملاحاً في البحرية، وكلاهما من الأفراد المجندين. أما المدني فقد كان موظفاً في وكالة استخبارات الدفاع، والمتعاقد كان مترجماً فورياً. وقال المسؤولون إنَّ واحداً على الأقل من أولئك الأربعة (ملاح البحرية)، كان امرأة.

وقال مسؤول عسكري إنَّ ثلاثة آخرين من أفراد الخدمة قد جرحوا ونقلوا جواً إلى مستشفى عسكري أمريكي في ألمانيا لتلقي العلاج.

وحتى هذا الأسبوع، لم يكن قد قتل من أعضاء الخدمة الأمريكيين في سوريا سوى اثنين فحسب.

وقال البنتاغون إنَّ طائرة من طائرات التحالف قصفت مسجداً، يوم الخميس، كان تنظيم الدولة (داعش) قد استخدمه مركز قيادة في الصفصافية بسوريا، في وادي نهر الفرات الأوسط. ولم يكن من الواضح ما إذا كانت الضربة الجوية جاءت رداً على الهجوم في منبج، على بعد عشرات الأميال إلى الشمال الغربي، أم أنها كانت فرصة لإصابة هدف ما، وهو الأمر الأرجح.

المستفيد الوحيد من هذه الفوضى.. داعش

وقال السكان إنَّ منبج كانت ما تزال في حالة صدمة يوم الخميس، وتناضل للتعامل مع أعقاب الانفجار ومستقبل مدينتهم غير المستقر في حال نفذ ترامب وعده بسحب القوات الأمريكية.  وتريد الحكومة السورية وحلفاؤها الروس والإيرانيون استعادة المنطقة. وداعش أثبتت أنها ما تزال قادرة على تنفيذ الضربات.

وقد زاد هذا الهجوم من اشتعال الجدل الدائر حول المهمة الأمريكية المتغيرة باستمرار شرقي سوريا، وخطط الرئيس ترامب لإعادة القوات إلى أرض الوطن.

وبينما كان يصر ترامب ونائبه مايك بنس، حتى يوم الأربعاء، أنَّ داعش قد هزمت، فإنَّ عدداً من المسؤولين الأمريكيين، بما في ذلك الكثير من حلفاء ترامب، قالوا إنَّ هذا الهجوم أثبت عكس ذلك وإنَّ مغادرة سوريا من شأنها السماح للجهاديين بالعودة بقوة.

وقال درويش، من المجلس العسكري المحلي، إنه سواء انسحبت الولايات المتحدة في نهاية المطاف أم لا، فإنَّ الارتباك الحالي بشأن السياسة الأمريكية قد جرأ الجهاديين.

وقال درويش: «تستفيد داعش من الأجواء المتوترة، والوضع الغامض، والتصريحات الأخيرة، وقرار الانسحاب والتغريدات من كل مكان. هذا الأمر جعل المنطقة غير مستقرة، وكل ذلك يساعد داعش على إعادة نفسها بقوة».

وقال درويش إنَّ انسحاباً أمريكياً سوف يعني إحداث فراغ سوف يكون الجهاديون على أهبة الاستعداد لاستغلاله.

وأضاف: «سوف تستفيد داعش».

لكنَّ هذه الوفيات، في هذا الجزء من سوريا الذي لم يسمع عنه سوى عدد قليل من الأمريكيين، اجتلب أيضاً دعوات لإزالة الولايات المتحدة من ساحة معركة غامضة أخرى في الشرق الأوسط.

وقال آرون ديفيد ميلر، المُحلِّل السابق للشرق الأوسط بوزارة الخارجية: «الخطر الحقيقي أنَّ هذه الهجمات سوف تجعل ترامب ورفاقه ينصاعون لضغوط صقور واشنطن الذين يقولون بالفعل إنه ما لم تبق أمريكا، فسوف تظهر بمظهر الضعيف. وهذه وصفةٌ لحرب أخرى دائمة».