ترجمة: الموقع بوست
«كانوا بمثابة وقود مدفع ممتاز في حروبنا»، كان هذا أبلغ وصف لعملية استغلال فرنسا لسكان المستعمرات على مدار التاريخ.
الغريب أن هذا الوصف صدر عن المسؤولة عن القصر الذي يرمز لعلاقة فرنسا بمستعمراتها «قصر البوابة الذهبية» في باريس، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
واجهة القصر تتزين برسوم منحوتة لوحة رمزية مبهرة: إذ تظهر في منتصفها فرنسا، التي ترمز إلى السلام والازدهار والرخاء، وتحيط بها «ممتلكاتها»، أي المستعمرات، وهي تقدم لها ثرواتها قرباناً.
ولكن الجدل حول استغلال فرنسا لسكان المستعمرات، لم يعد يقتصر على الدول التي احتلتها بل أصبح في قلب السجال بين حكومة ماكرون الليبرالية التي تحاول التبرؤ من هذا الميراث وبين السياسيين الإيطاليين اليمنيين الذي يرفضون ما يعتبرونه وصاية فرنسية على بلادهم.
إنه تذكير حي بعملية استغلال فرنسا لسكان المستعمرات
اليوم، يضم القصر المزين بزخارف فنية مبهرة، الذي شُيِّدَ في معرض المستعمرات عام 1931، متحف تاريخ الهجرة، وهو وجهة شائعة للرحلات المدرسية.
تقول مديرة قصر «قصر البوابة الذهبية «، هيلين أوران، إن المتحف يعد بمثابة رسالة تذكير حيوية بماضي فرنسا الاستعماري.
وأضافت: «من واجبنا أن نتذكر. يجب أن نروي ما فعلناه، ونتحمل مسؤوليته، بما في ذلك عمليات النهب والانتهاكات. يتمثل دورنا في إظهار الطريقة التي غيرنا بها مصائر الدول والقارات التي استعمرناها».
وها هو وزير إيطالي يعاير فرنسا بماضيها الاستعماري
وبالنسبة للطلاب الذين كانوا يصطفون خارج المتحف صباح أحد أيام الأسبوع الماضي قارسة البرودة، فقد جعلت عناوين الأخبار من زيارتهم أمراً وثيق الصلة بالحالة الراهنة.
إذ ألقى لويجي دي مايو، نائب رئيس الوزراء الإيطالي، في ثورة غضب لا تتسم بالدبلوماسية، باللوم على فرنسا لإجبارها المهاجرين الأفارقة الفقراء على الفرار من بلدانهم بتحويلها إلى مستعمرات بالقوة.
وقال دي مايو زعيم حركة النجوم الخمسة الشعبوية: «لم تتوقف فرنسا قط عن استعمار عشرات الدول الإفريقية».
حتى أنه دعا إلى معاقبتها على جرائمها القديمة
وأضاف «ينبغي على الاتحاد الأوروبي أن يعاقب فرنسا، وجميع الدول التي تشبه فرنسا، على إفقار إفريقيا والدفع بكل هؤلاء الناس لمغادرتها، لأن الأفارقة يجب أن يكونوا في إفريقيا، وليس في قاع البحر المتوسط».
وجاءت تصريحاته بعد غرق قاربين يقلان مهاجرين، أحدهما قبالة السواحل الليبية والآخر في البحر المتوسط، مما أدى إلى غرق ما يقدر بنحو 170 شخصاً.
وسارع ماتيو سالفيني، رئيس حزب رابطة الشمال الإيطالي اليميني المتطرف ونائب رئيس الوزراء الإيطالي الآخر، إلى شن هجوم على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قبيل الانتخابات البرلمانية الأوروبية في مايو/أيار.
وقال إن «حكومة فرنسا ورئيسها غاية في السوء».
إذ كانت اللغة تحمل لهجة معادية وتثير موضوعاً يثير حتماً الغضب في فرنسا، ألا وهو الاستعمار.
وسبق أن أغضب ماكرون اليمين الفرنسي بهذا الاعتراف
أثناء حملة الانتخابات الرئاسية عام 2017، تسبب ماكرون في إثارة اليمين الفرنسي بعد وصفه الاستعمار بأنه «جريمة ضد الإنسانية» أثناء رحلته إلى مستعمرة فرنسية سابقة، وهي الجزائر.
وأشار المؤرخ الفرنسي جيل مانسيرون في ذلك الوقت إلى أن الاستعمار لا يزال يؤرق الذاكرة الفرنسية الجماعية.
وكتب: «إنها قضية محرجة» تثير»حالة الإنكار» وكذلك «حالة من الحنين إلى الماضي في بعض المناطق».
ولكن الأمر تعدى الماضي، فالسياسي الإيطالي اتهم فرنسا باستمرار التلاعب بالإفارقة
غير أن دي مايو ذهب إلى أبعد مما وصفته مجلة L’Express بـ»الهجوم على فرنسا.. بالطريقة الإيطالية»، واتهم فرنسا بالتلاعب في اقتصادات الدول الإفريقية التي تتعامل بالفرنك الإفريقي، مما يعوق نموها.
ويُستخدم الفرنك الإفريقي -الذي يتكون من عملتين مختلفتين ولكن قابلتين للتبادل- في 14 دولة في وسط وغرب إفريقيا. وهي عملة مرتبطة باليورو بسعر صرف ثابت وتدعمها الخزانة الفرنسية.
وبالنسبة لمؤيدي التعامل بهذه العملة، فإنها توفر الاستقرار وتضبط التضخم في الدول الأفقر التي تستخدمها؛ وبالنسبة إلى منتقديها، فهي رمز للاستعمارية الفرنسية التي تعوق النمو.
ولكن هل الفرنك الإفريقي يضر الدول التي تستخدمه فعلاً؟
وقال باتريك سميث من مجلة Africa Report، وهي مجلة تصدر باللغة الإنجليزية تُعنى بشؤون الاقتصادات والسياسات الإفريقية: «يرى البعض أن لها مزايا ويرى البعض الآخر أن لها عيوباً، ويجب على كل بلد أن يقيّم الأمر بما يتفق مع ظروفه».
ويتفق رولاند مارشال، وهو خبير إفريقي في المركز الوطني للبحث العلمي في باريس، مع هذا الرأي.
ويضيف: «إن التعامل بالفرنك الإفريقي خيار طوعي، لذلك فالقرار يعود إلى علماء الاقتصاد الأفارقة؛ فقد يكون جيداً لبعض البلدان وغير ذلك لغيرها». وقال إن تصريحات دي مايو وسالفيني «مضحكة للغاية».
ويبدو أن الإيطاليين نسوا في خضم السجال ما فعلوه بليبيا
وقال: «يمكننا أن ننتقد فرنسا، وغالباً ما أفعل ذلك، لكن يبدو أن إيطاليا تنسى الطريقة التي تتصرف بها في مستعمراتها السابقة، مثل ليبيا».
ولكن المهاجرين أنفسهم يقفون في منتصف الخلاف الفرنسي-الإيطالي الدائر.
فمنذ أن جاء حزبا النجوم الخمس ورابطة الشمال الإيطاليين إلى السلطة في روما في يونيو/حزيران الماضي، كانت فرنسا وإيطاليا، اللتان يعوقهما غياب سياسة موحدة يتبناها الاتحاد الأوروبي تجاه الهجرة الجماعية، تتنازعان حول المكان الذي يجب أن يذهب إليه الآلاف من الناس الذين أُنقذوا من الغرق في البحر المتوسط.
والمشكلة ليست في الماضي، ولكن من يستقبل هؤلاء المهاجرين الذين يموتون غرقاً
واتهم ماكرون إيطاليا التي أغلقت موانئها أمام سفن إنقاذ المهاجرين بقوله إنه فعل «لا إنساني». واتهمت روما باريس بـ»النفاق» بعد أن شددت فرنسا من إجراءات الأمن على طول الحدود الفرنسية-الإيطالية لوقف عبور المهاجرين ورفضت السماح لسفينة إنقاذ المهاجرين أكواريوس بالرسو في ميناء مرسيليا الفرنسي في سبتمبر/أيلول الماضي.
وقال سميث إن تعليقات دي مايو وسالفيني الأخيرة كانت مجرد خطاب أجوف.
وأضاف: «إنهما يحاولان تصعيد الضغط على الهجرة، وماكرون هدف سهل. وعندما ننظر إلى أصول المهاجرين في موجة الهجرة الأخيرة، لا نرى سوى عدد ضئيل منهم قادماً من بلدان منطقة الفرنك الإفريقية».
وأضاف: «إن علاقة أوروبا بإفريقيا لا تسير جيداً لأسباب عدة، ولكن هذا بسبب جميع البلدان الـ 28، وليس فرنسا وحدها».
كما أن الإيطاليين يتجاهلون أنهم كانوا يوماً مهاجرين مثل الأفارقة
وفي المتحف، تشير هيلين إلى ما بدا أن البعض في الحكومة الإيطالية قد نسيه: أن حوالي 24 مليون إيطالي هاجروا من إيطاليا في القرنين التاسع عشر والعشرين، واتجه العديد منهم إلى فرنسا.
وقالت: «خلال تلك الفترة كانت إيطاليا دولة فقيرة وكانت هناك موجة هجرة هائلة.. فحتى إذا ذهبت إلى نهاية العالم، ستجد جاليات إيطالية هناك».
وتعتقد هيلين أن فرنسا يجب أن تكون أكثر ترحيباً بأولئك الذين يسعون إلى بدء حياة جديدة في فرنسا.
وهؤلاء القوم ماتوا دفاعاً عن فرنسا ولكنها لفظتهم في النهاية
وتتحدث هيلين عن استغلال فرنسا لسكان المستعمرات قائلة: «أردنا لوقت طويل أن يأتي الناس من مستعمراتنا إلى فرنسا: طلبنا منهم المجيء إلى هنا واستغللناهم في التصنيع والتعدين وصناعة المنسوجات وعملوا جنوداً كانوا بمثابة وقود مدفع ممتاز في حروبنا».
وتضيف: «لم تُروَ هذه القصة قط. عندما يتحدث الناس عن «فرنسا الحقيقية» يذكرون القرى، والقسيس جون فياني، ومبنى البلدية، وأجراس الكنيسة، والحقول.. لقد نسوا أن بعض المهاجرين كانوا يعملون في تلك الحقول في الماضي البعيد».
وتردف: «لقد نهبنا الدول التي استعمرناها للحصول على الموارد البشرية، ولم يكن ذلك أمراً إيجابياً. وما نحاول أن نظهره هنا في المتحف هو كيف كانت الهجرة إيجابية لفرنسا وتاريخها».