Getty

الإنسان الكلب

كتابات- ماجد عبدالهادي

يُكَشِّرُ عن أنيابه الحادّة، وينبحُ بصوتٍ مخيف، استعداداً لِشَنِّ هجوم تظنّه سيودي بك، لا محالة، في لحظاتٍ، غير أن إيماءةً بسيطةً، من صاحبه، تجعلُه ينقلب على عقبيه، في لمح البصر، لِيَتَمَسَحَ بقدميك، ولُعَابُه يتصبّب من فمه، مثلما تجعلُه إيماءةٌ نقيضةٌ، يَنْقَضُّ على أيٍ كان، ليفتك به، من دون أي مبرّر، سوى إدمانِهِ رؤيةَ علامات الرضى، والحبور، على وجه من يُطْعِمُه، ويسقيه، ويُوفّر له المأوى.

إنْ تجهم سيِّدُه تجهم، وإنْ انشرح ينشرح. هو فُطِر، منذ خَلْقِه، أو لعله تربّى، عَقِبَ مولده، في بيئةٍ تستدعي منه طاعةً عمياء لا حدَّ لها، ولا قِيمَةَ فيها أسمى من قِيمًةِ انصياعه لفعلِ ما يُؤْمَرُ به، خيراً كان أو شراً، كلما لوحت له اليدُ التي أَلْحَمَتْ كتفاه من فُتات موائدها، وأشحمت فخذاه على وثير فراشها.
عن كائنٍ حي يدعى الكلب هذا الكلام، والكلبُ حيوانٌ شاعت من أخباره، المتواترة عبر العصور، فضيلةُ الوفاء، على نحو مضلّل، ينزع عنها شبهة التشابه، أو الالتباس، في تاريخه، مع رذيلة العبودية، حتى إن مخلوقاً آخر يُدعى الإنسان استلهم التجربة الأزلية، أو لعله تأثر بها تدريجياً، من غير قصد، فما عاد يتوانى، في محطات انحطاطه، عن التذرّع بأنبل المُثل الأخلاقية، ومعها أقدس الرموز الدينية، لا لينبح مكشّراً عن أنيابه فحسب، بل لينشب مخالبه في أجساد الآخرين، إن شمَّ الرضى على ما يفعل، في رائحة ولي نعمته.
ولا جواب هنا قاطعاً تماماً على سؤالك، إن سألت، عن الغريزي والمُكْتَسَب، في سلوك مخلوقين، تجذّرت علاقتهما منذ أربعة عشر ألف سنة، وشهدت، ولا تزال، تأثيراً متبادلاً وعميقاً، استكلب الإنسان في محصلته النهائية، بقدر ما تأنسن الكلب، فأمسيا متماثليْن، إلى درجةٍ تفوق الوصف، في عبوديتهما المفضوحة لأهل المال والسلطة، كما في انتمائهما الزائف لقيم الحضارة والتقدّم. 
سيظل في وسعك، على الرغم من ذلك، أن تعثر على اختلافاتٍ خُلُقِية لم يبدّدها طول العشرة بين هذين الكائنين الحيين، لكنها بالكاد تزيد جوهرياً عن كونها امتداداً لتلك التي بين أصناف الكلاب ذاتها، والتي عادةً ما يتحدّد بناءً عليها دورُ كل منها، ووظيفته، فتجد "السلوقي" المعروف بسرعته الفائقة يُطارد الفريسة في رحلات الصيد، و"جيرمان شيبرد" الشهير بقوته وذكائه يساعد أجهزة الأمن في أوقات المحن، وهكذا، وصولاً إلى أنواعها اللطيفة الرقيقة المكرّسة سلوى سيدها، وإشباع ترفه. 
عن إنسانٍ يدعى الكلب هذا الكلام، والإنسان كائنٌ حي خلقه الله في أحسن تقويم، كما قال فيه أيضاً "ولقد كَرَّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات، وفضّلناهم على كثير ممّن خلقنا تفضيلاً"، بيدّ أن كثيرين من سلالته اختاروا أن يكونوا "كمثل الكلب إنْ تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث"، وفق أية أخرى في القرآن الكريم، تنتهي بالقول "لعلهم يتفكّرون".
والدعوة إلى التفكّر تستدعي من ذاكرتي أخيراً قصةً عن الكلاب ذات شجون: شاهدت مرة عند ابن أخ لي، يعيش في بلدةٍ ريفية، كائناً مخيفاً يستطيع التحول من وحشٍ مفترسٍ إلى حمْلٍ وديع، أو العكس، بمجرد نظرةٍ من صاحبه. سألت الفتى عن سرّ هذا الولاء المدهش، فقال لي مفسّراً إنه كان قد عثر عليه جرواً كسيحاً، مغمض العينين، فور ولادته، فأخذه، وأخفاه في حفرةٍ مظلمة، وصار يقدّم له الحليب الطازج، ابتداء، واللحم النيء لاحقاً، تحت جنح الظلام، ثم لمّا كبر، وأخرجه من عتم الليل إلى ضوء النهار، وجده على تلك الحال العدوانية التي استمرّت ردحاً من الزمن، وانتهت بالعثور عليه، كما علمت في ما بعد، وقد مات بوجبةٍ مسمومة، قدّمها إليه، ربما، أحد الجيران، أو من عابري السبيل الذين تعرّضوا لأذاه، أو كانوا يخشون بطشه.

للعربي الجديد