محج المثقفين في فينيسيا

بنيت على أخشاب ضخمة وسط البحر.. ما لا تعرفه عن مدينة البندقية "المدينة العائمة" (صور)

فينيسيا- هناك ملحمة تاريخية تحكي أن البندقية قد تأسست عام 421 ميلادية، وفي عام 829 ميلادية تمكن تاجران من البندقية من سرقة سيقان (القديس ماركوس) من الإسكندرية، وكان رمزه الأسد الطائر، وكانت البندقية نقطة التقاء الشرق بالغرب وبالذات مع الإسكندرية في مصر، وكان يحكم البندقية مجموعة تجار، فكانت السلطة بيدهم، وفي عام 1453 توقفت حركة التجارة في البندقية بفعل تهديدات الترك.

تتكون مدينة فينيسيا من 116 جزيرة، والمدينة كلها بنيت على أخشاب ضخمة وسط البحر، وتعد اليوم من عجائب الدنيا، والكثير يرددون أن البندقية ستغطس تحت الماء بعد 30 عاما. تقع أفضل المقاهي الفينيسية في ساحة ماركوس وأشهرها هي (هاريس با)، التي كان يتردد عليها الأديب العالمي الراحل (همنغواي) وكذلك مقهى (فلوريان)، حيث حدثني (كلاوديو يوسيم) المشرف على المقهى منذ 1965، بأنه قد ترددت على مقهاه أشهر شخصيات العالم ورؤساء الدول، وفرح كثيراً حين أخبرته بأني أكتب مشاهداتي بعين كوردية في إيطاليا للصحافة الكوردية والعربية، وقال بنبرة صادقة: «نحمل كل الحب لشعبكم». في جولة بالقارب حيث قناطر المدينة، وبين أزقتهم وشوارعهم المائية وأغاني الطليان على ظهور القوارب، والمدينة المزدحمة بالسواح، وهي نقطة إلتقاء كل الجهات، بين ثناياها الجمال والثقافة والحضارة.

 

كرنفال أقنعة

 

 

 

قلب المدينة النابض هو ساحة ماركوس وكاتدرائية ماركوس التي تعد ثاني أكبر كاتدرائية في إيطاليا بعد كاتدرائية (بيتر) في روما، وساحة ماركوس يتجمع فيها الحمام والأطفال، والسواح يقدمون لهم الحبوب ويلتقطون الصور معهم. القوارب الفينيسية (الجندول) تعد جزء من حضارة وتاريخ البندقية وطول الواحدة يبلغ (11) مترا، وتتألف من 280 قطعة خشبية، وقد صبغت هذه القوارب باللون الأسود، وأصحابها ورثوا هذه المهنة عن آبائهم وأجدادهم لأنها تجلب لهم مالا وفيراً.

يقام سنوياً في البندقية الكرنفال الضخم ووقتها تكثر الأقنعة، وهي جزء من البندقية، وتكثر قنوات المياه التي تمر فيها القوارب السوداء، إضافة إلى المجرى الرئيسي الكبير. وفي مركز المدينة حيث الباعة المتجولون وأكشاك بيع التحف الفينيسية وذكريات وهدايا للزوار، وكذلك كثرة الرسامين لرسم صورتك في ثوان ودقائق وبأشكال مختلفة، ولاحظت وجود الهنود واليابانيين بصورة مكثفة ضمن أفواج السواح.

جسر الناهدين.. وهو من الجسور المشهورة، ويقع فاصلا بين السجن والقصر، وكان السجناء قبل رميهم في الزنزانة تمنح لهم الفرصة الأخيرة لإلقاء نظرة على الماء. الطاعون الذي أصاب أوروبا خلال القرون المنصرمة كان ضحيته في البندقية 50 ألف إنسانا، ولذلك وقتها قررت المدينة بناء كنيسة ضخمة، وذلك لعدم وجود مستشفى فيها.

تحوي البندقية متاحف كثيرة تعنى بالفن الحديث، ومتحف أكاديمي يضم عددا كبيرا من أعمال الفنانين العالميين بالرغم من أن إيطاليا هي منبع فن الرسم. زيارة إلى البندقية توحي لك بحياة وجنة على الأرض، هي حلم لا يتكرّر.

لقد كتب الكثير من الأدباء العالميين حول البندقية.. فقد قال تشارلز ديكنز فيها: «ليس كل من سمع عن البندقية بوسعه أن يردد الحقائق، ولكن الأحلام تزداد، فالسحر ليس بوسعه أن يشيد هكذا مكان فقط.. فلم أزر مكانا في حياتي مثلما وثقت بالبندقية». و(شكسبير) حين كنا نقرأ قصته ونحن طلبة في الابتدائية (تاجر البندقية)، أما الشاعر الألماني (توماس مان) فقد كتب قصة قصيرة بعنوان (موت في البندقية)، وفيها يعرض أجواء البندقية.

البندقية: الحاضر ساحر ومستقبل غامض

 

القاصة الإنكليزية (ليزا سانت أوبينيت) كتبت انطباعاتها في كتاب البندقية والفصول الأربعة، وفيها البندقية مركز ثقل الرومانتيكية وفيها تمزج الواقع بالرومانسية، وقد قضت الكاتبة 4 سنوات في البندقية تكتب انطباعاتها وتبرز معالم الجمال من خلال أقنعة الكرنفال والقصور الكبيرة والبناء الرائع. وقال عنها (نيتشة): «من يفكر في الموسيقى لا ينقصه سوى أن يتذكر البندقية»، وألف الشاعر المصري علي محمود طه أغنية «الجندول» ولحنها الموسيقار محمد عبدالوهاب وغناها عام 1941، والتي يقول فيها: أين من عيني هاتيك المجالِ.. يا عروس البحر يا حلم الخيالِ/ أين عشاقك سمار الليالي.. أين من واديك يا مهد الجمالِ/ موكب الغيد وعيد الكرنفالِ.. وصدى البلبل في عرض القنالِ. وصُورت بالبندقية العديد من الأفلام السينمائية.

 

حاضر مأساوي

 

 

 

تاريخ البندقية الحاضر مأساوي، فهي تحارب الفيضانات والقذارة التي تملأ بعض أحيائها، ومازالت تلم بعض المهارات اليدوية، ولكنها لم تخل من الصناعات.

في أوائل القرن الثاني عشر تأسست منطقة (الأستانة)، وكانت منطقة عسكرية اشتغل فيها 16 ألف عامل لصنع سفن الحرب، وكانت مساحة (الأستانة) تشمل ثلث مساحة البندقية. في عام 1932 وعلى شواطئ البندقية كانت أول انطلاقة لمهرجان سينمائي عالمي، وهو يقام لحد الآن تحت اسم (بيرنالي)، وكذلك شيدت على شواطئ البندقية القصور الأثرية وفنادق ضخمة بأسعار خيالية.

البندقية لها تاريخ كبير وحقائق مثيرة وعظماء دخلوها، ولكن للأسف لها مصير مجهول، ولهذا تحاول إيطاليا والعالم إنقاذ آخر كنوز الإنسانية، وكثيرا ما تغمرها الفيضانات لهذا قامت الدولة بمشروع (موسى) لإنقاذ المدينة. جولة وسياحة مع حضارة البندقية وتاريخها القديم تبعتها جولات أخرى وبرفقة عدستي التي تلتقط الجمال والفن، وقلمي الذي ينقش تواريخ مدن وجزر إسهاما مني في أدب رحلات في عصر العولمة.

كم من القصائد كتبت وتكتب وتتغنى بهذه المدينة؟ وكم صورة تلتقط يوميا فيها؟ وكم عاشق يزورها كي يوقظ حبا قد مات؟ وكم فنانا تلهمه مدينة فوق الماء؟ والبندقية تصرخ بأعلى صوتها: إني أغرق.. أغرق.. أغرق.

نقلا عن صحيفة العرب