قبل نصف قرن ارسل غابرييل غارسيا ماركيز روايته الشهيرة "مئة عام من العزلة" الى ناشره بالبريد بعد زيارة اخرى لمكتب الرهنيات من اجل دفع تكاليف ايصال المخطوطة. وتحدثت كارمن بالثييس وكيلة اعماله الأدبية سنوات طويلة قبل اسابيع على وفاتها عن 85 عاما لمجلة فانتي فير حول الرواية التي اصبحت ايقونة في الأدب العالمي.
انهى ماركيز كتابة "مئة عام من العزلة" في عام 1966. وخرجت الرواية من المطبعة في بوينس ايريس عام 1967 ، وكانت ردود الأفعال بين قراء اللغة الاسبانية أقرب الى الهستيريا ، بحشود امام متاجر بيع الكتب وعدسات لا تتوقف عن التقاط الصور ومراجعات في الصحفات الأدبية ملأها النقاد بالثناء على الرواية.
في عام 1970 صدرت الترجمة الانكليزية واعقبتها طبعة ذات غلاف ورقي يتضمن تصميمه شمساً مشعة اصبحت رمز ذلك العقد. وحين نال غارسيا ماركيز جائزة نوبل في عام 1982 اعتُبرت "مئة عام من العزلة" نسخة العالم الثالث من "دون كيشوت" ودليلا على الطاقة الابداعية لأدب اميركا اللاتينية حيث اصبح الكاتب معروفا بلقب "غابو". بعد كل هذه السنوات يتجدد الاهتمام بصاحب مئة عام من العزلة. إذ دفع مركز هاري رانسوم في جامعة تكساس مؤخرا 2.2 مليون دولار لامتلاك ارشيف"غابو" ، بما في ذلك المخطوطة الاسبانية للرواية مطبوعة على الآلة الكاتبة. وفي تشرين الأول/اكتوبر عقد اكاديميون لقاء مع افراد عائلة ماركيز لالقاء نظرة جديدة على ارثه الأدبي مع اشارات متكررة الى الرواية بوصفها أهم اعماله. وألهمت الرواية كتابا معاصرين من توني موريسون مرورا بسلمان رشدي الى جونوت دياز. ونقل الرئيس الاميركي بيل كلنتون خلال ولايته الأولى رغبته في لقاء ماركيز حين كان الاثنان يزوران الجنوب الاميركي وانتهى بهما اللقاء الى تبادل الآراء عن وليام فوكنر. وحين توفي ماركيز في نيسان/ابريل عام 2014 انضم باراك اوباما الى كلنتون في نعيه قائلا انه "من الكتاب المفضلين عندي منذ أيام شبابي" واعرب عن اعتزازه بنسخة موقعة من رواية "مئة عام من العزلة". وأعلن الباحث الاميركي المعروف في أدب اميركا اللاتينية ايلان ستفانز انها الرواية "التي اعادت تعريف الأدب الأميركي اللاتيني بل أعادت تعريف الأدب". وقال انه قرأ الرواية 30 مرة.
كيف يمكن لرواية كهذه ان تكون مثيرة وممتعة وتجريبية وراديكالية سياسيا وشعبية عالميا في آن واحد مع ان نجاحها لم يكن مضمونا. ولكن ما تقوله كارمن بالثييس عن الرواية فصل لا يعرفه كثيرون في التاريخ الأدبي خلال نصف القرن الماضي. حين وصلت بالثييس مع زوجها لويس الى العاصمة المكسيكية في تموز/يوليو 1965 لم يلتق ماركيز وكيلة اعماله الجديدة فحسب بل تعرف على شخصين ملمين بعمله الماما واسعا. وسرعان ما نشأت صداقة حميمة بين ماركيز والثنائي بالثييس بعد جولات لا تنتهي من الأكل والشرب في مطاعم مكسيكو ستي وحاناتها. وحينذاك اخذ ماركيز ورقة وكتب عليها مع كارمن بالثييس نص عقد يعلن بحضور زوجها لويس شاهدا انها وكيلة اعماله الأدبية في العالم للسنوات المئة وخمسين المقبلة. وقالت بالثييس مبتسمة في حديثها لمجلة فانتي فير "لم يكن العقد ساريا 150 سنة بل 120 سنة على ما أظن". ولكن عقدا آخر وُقع وهو لم يكن نكتة كالعقد الأول. ففي نيويورك تمكنت بالثييس من الاتفاق مع دار هاربر اند راو ـللنشر على اصدار اعمال ماركيز واتفقت معها على حقوق الطبعة الانكليزية لأربعة من كتبه مقابل 1000 دولار عن كل كتاب. وأخذت العقد الى ماركيز لتوقيعه. جلس ماركيز امام الآلة الكاتبة وشرع يرقن "مئة عام من العزلة". وقال لاحقا: "18 شهرا وأنا لم انهض" من امام الآلة الكاتبة. وعلى غرار بطل الرواية الكولونيل اوريليانو بوينديا الذي يختفي في ورشته ، عمل ماركيز على كتابة الرواية بالقدر نفس من الهوس. وكان يؤشر الصفحات المطبوعة ويرسلها الى كاتب آخر على الآلة لطباعة نسخة جديدة. وكان يدعو اصدقاءه لقراءة الصفحات بصوت عال. وتولت زوجته مرسيدس شؤون العائلة. وأبقت رفوف الخزانة عامرة بقنانين الويسكي للاحتفال بانجاز الرواية. وأقنعت جباة الفواتير المتأخرة بالانتظار. وكانت ترهن ما يمكن رهنه من لوازم البيت بما في ذلك الهاتف والثلاجة والراديو والمصوغات ، بحسب جيرالد مارتن كاتب سيرة ماركيز.
وحين أُنجزت كتابة الرواية توجه ماركيز ومرسيدس الى دائرة البريد لارسال النص المطبوع الى الناشر في بوينس ايريس. ولكن لم يكن لديهما 82 بيسوس لشراء طابع البريد فأرسلا النصف الأول ثم النصف الثاني بعد زيارة اخرى لمكتب الرهنيات. دخن ماركيز 30 الف سيجارة وانفق 120 الف بيسوس (نحو 10 آلاف دولار) قبل ان ينجز الرواية. وسألت مرسيدس "وإذا ، بعد كل هذا ، كانت الرواية سيئة؟" لاحظ فولكنر "ان الماضي لا يموت ابدا بل انه ليس حتى ماضيا". وبرواية "مئة عام من العزلة" جعل ماركيز حضور الماضي شرطا للحياة في ماكوندو ـ كالفقر والظلم.
وأصبحت "الواقعية السحرية" الاسم الذي يُطلق على خرق ماركيز لقوانين الطبيعة من خلال الفن. ولكن سحر الرواية يكمن في قدرتها على إشعار القارئ بأن ابطالها وشخوصها احياء ، وان ما يقرؤه حدث فعلا. وكتب سلمان رشدي بعد ان قرأ الرواية في لندن حيث كان يفكر في بلد طفولته "كنتُ اعرف كولونيلات غارسيا ماركيز وجنرالاته، أو على الأقل أعرف نظراءهم الهنود والباكستانيين ، وكان اساقفته ملالييّ واسواقه بازاراتي. كان عالمه عالمي مترجما الى الاسبانية" فلا غرو ان أقع في حبه ، لا بسبب سحره بل بسبب واقعيته". ولخص رشدي شهرة ماركيز حين كتب "ان نبأ كتاب ماركيز الجديد يستأثر بالصفحات الأولى للجرائد الاميركية ـ الاسبانية وان صبيانا يبيعون الكتاب من عربات في الشوارع ، والنقاد ينتحرون لافتقارهم الى عبارات مديح جديدة". وسماه رشدي "الملاك جبرائيل" في اشارة الى تأثير ماركيز في رواية "الآيات الشيطانية" التي كان اسم احد ابطالها جبرائيل.
بلغت مبيعات "مئة عام من العزلة" 8000 نسخة في الاسبوع الأول في الأرجنتين وحدها ، وهو رقم لا سابق له بالنسبة لعمل أدبي في اميركا الجنوبية. وقرأها عمال مثلما قرأها اساتذة جامعيون ـ وعاهرات. إذ يروي الكاتب فرانسيسكو غولدمان انه رأى "مئة عام من العزلة" على منضدة بجانب السرير في ماخور ساحلي. وزار ماركيز الأرجنتين وبيرو وفنزويلا للاحتفاء بكاتب الرواية. ولتفادي ما يلهيه عن الكتابة انتقل ماركيز مع عائلته الى برشلونة. وكتب بابلو نيرودا الذي التقاه هناك قصيدة عنه. وفي جامعة مدريد كتب ماريو فارغاس يوسا الذي كان مشهورا وقتذاك بعد نشر روايته "البيت الأخضر" رسالة دكتوراه عن رواية ماركيز التي مُنحت اكبر الجوائز الأدبية في ايطاليا وفرنسا واعتبرت أول رواية توحد الثقافة الأدبية باللغة الاسبانية التي ظلت منقسمة زمنا طويلا بين اسبانيا واميركا اللاتينية ، بين المدينة والقرية ، بين المستعمِر والمستعمَر. نُشرت الرواية باللغة الانكليزية عام 1970. وكتبت صحيفة التايمز ان القارئ يخرج من هذه الرواية الرائعة "وكأنه يخرج من حلم ، بذهن مشتعل. وان غابرييل غارسيا ماركيز بحركة واحدة قفز الى المسرح بجانب غونتر غراس وفلاديمير نابوكوف. فان شهيته هائلة بقدر مخيلته وقدريته أكبر من الاثنتين. مذهل". وعلى اساس ما سمته بالثييس وكيلة اعمال ماركيز الأدبية "عقدا خرائيا" يمنح للكاتب 5000 دولار بلغت مبيعات الرواية 50 مليون نسخة في انحاء العالم. وتابع مترجمها الى الانكليزية غريغوري راباسا بفخر وتقرب عمله يصبح أروع الروايات المترجمة وأكثرها شعبية. وكان راباسا تلقى نحو 1000 دولار عن الترجمة وكأنها مقابل عمل "بستاني يرش الروث لتسميد مرج في الضواحي" ، على تعبير بالثييس. وحين قرأ ماركيز الطبعة الانكليزية الصادرة عن دار هابر اند راو اعلن انها انها افضل من الأصل الاسباني الذي كتبه. وقال ان راباسا "افضل كاتب اميركي لاتيني باللغة الانكليزية".
كان الاعجاب بماركيز عاما شاملا وأصبح محبوب الجميع ، ما عدا ماريو فارغاس يوسا. وكان الاثنان صديقين تعود صداقتهما الى سنوات بوصفهما مغتربين في برشلونة وكاتبين مرموقين وكلاهما اختار كارمن بالثييس وكيلة اعمالهما. وكانت علاقات اجتماعية تربط بين زوجتيهما مرسيدس وباتريشيا. ثم حدثت القطيعة. وفي عام 1976 حضر ماركيز في مكسيكو ستي عرضا لفيلم "اوديسا الانديز" الذي كتب سيناريوه فارغاس يوسا. وحين رأى ماركيز صديقه توجه لأخذه في الأحضان ولكن فارغاس يوسا استقبله بلكمة طرحته ارضا واحدثت كدمة في عينه. وتروي بالثييس في حديثها لمجلة فانتي فير "ان غارسيا ماركيز قال "الآن وقد طرحتني ارضا بلكمة لماذا لا تقول لي السبب". ومنذ ذلك الحين تتساءل الأوساط الأدبية في اميركا اللاتنينة عن السبب. وتذهب احدى القصص الى ان ماركيز قال لصديق مشترك ان باتريشيا زوجة فارغاس يوسا أقل من جميلة. وتقول رواية اخرى ان باتريشيا شكت له بأن لزوجها علاقة مع امرأة اخرى وحين سألت ماركيز ماذا تفعل قال لها ان تترك زوجها. واكتفى فارغاس يوسا نفسه بالقول ان السبب "قضية شخصية". تتذكر بالثييس ان كاتبا آخر قال لفاراغاس يوسا "كن حذراً. فأنت لا تريد ان تُعرف بكونك الرجل الذي ضرب مؤلف مئة عام من العزلة".
وعلى امتداد 40 عاما رفض فارغاس يوسا ان يتحدث عن الواقعة وقال انه عقد عهدا مع ماركيز على اخذ القصة معهما الى القبر. ولكنه في حديث اخير تكلم بشغف ومحبة عن صديقه وغريمه واستفاض في الحديث عما يعنيه ماركيز بالنسبة له. وقال ان "مئة عام من العزلة" التي قرأها في لندن بعد اسابيع على نشرها "وسعت دائرة القراء باللغة الاسبانية لتشمل المثقفين وكذلك القراء الاعتياديين بسبب اسلوبها الواضح والشفاف. وهي في الوقت نفسه رواية ذات طابع تمثيلي كبير بتصويرها الحروب الأهلية في اميركا اللاتينية واللامساواة في اميركا اللاتينية وحب اميركا اللاتينية للموسيقى ، ولونها ـ كل هذا في رواية يختلط فيها الواقع والخيال بطريقة مثلى". بعد سبعة اسابيع على حديث بالثييس لمجلة فانتي فير توفيت بنوبة قلبية. ولا أحد يعرف من سيمثل بعدها مصالح "مئة عام من العزلة". ولكن اهل قرية ماكوندو في الرواية ممثَلون تمثيلا جيدا بالمليارات من اخوتهم في انحاء العالم وهم حاضرون بيننا ، احياء مثل سرب من الفراشات الصفراء في صفحات رواية ماركيز الجميلة.