ترجمة: عربي بوست
ترتدي نقاباً أسود على وجهها، بفتحة صغيرة للعينين، لم تكن «دورا» مختلفة عن عشرات النساء المتشحات بالسواد والمتكدسات بجوار أطفالهن على البطانيات، حيث كن جميعاً سابقات بإمارة الدولة الإسلامية في العراق والشام «داعش» المنهارة في سوريا. ولكن هذه المرأة كانت تبعد عن وطنها كثيراً.
يقول الصحفي الأمريكي بن ويدمان الذي أعد التقرير لصالح شبكة CNN، «عندما تحدثت إليها باللغة العربية، أجابت بالإنجليزية بلكنة أمريكية شمالية تخبرني بأنها لا تتحدث العربية جيداً».
في هذه البقعة القاحلة من الأرض بسهول شرق سوريا الشاسعة، يمكنك التعرف إلى مئات الأشخاص من جميع أنحاء العالم، واستجوابهم، واحتجازهم في بعض الأحيان. ويصل المزيد كل يوم، في محاولاتهم للهروب من معقل داعش الأخير، في قرية الباغوز المُحاصَرة.
تحدثت إلى أشخاص من كندا، وكازاخستان، وأذربيجان، والعراق وسوريا، مع تحليق طائرات التحالف بحثاً عن أهداف. وباستثناء «دورا» وامرأة كندية أخرى، أنكر الجميع أي علاقة تربطهم بداعش. حيث قال الجميع أنهم انتهى بهم المطاف في هذا الركن المنعزل والموحش في سوريا بـ»محض المصادفة».
طالبة جامعية في تورنتو بكندا
دورا أحمد، 28 سنة، من تورنتو، كندا. وصلت إلى هنا مثل غيرها بصندوق شاحنة نقل يقودها المقاتلون في قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة.
سألتها بالإنجليزية، كيف انتهى بها المطاف في سوريا؟
قالت، «جاء زوجي إلى هنا أولاً في عام 2012، وحاول إقناعي على مدار عامين بالمجيء، ولكنني كنت أرفض، فلم أكن أريد ذلك. ثم قال أخيراً أن عليّ المجيء، ولكنني كنت أدرس».
فسألتها عن دراستها، قالت: «الإنجليزية ودراسات الشرق الأوسط. لم أكن أعرف أي شيء عن داعش ولا أي شيء آخر. ولكنه ظل يخبرني بأن آتي لأرى بنفسي».
فسألتها بارتياب: «كنت تدرسين شؤون الشرق الأوسط ولا تعرفين أي شيء عن داعش؟». فأجابت بأنها لا تشاهد الأخبار، ولا يحب أحد الحديث عنها. وأضافت: «كنت لا أعلم شيئاً عما يحدث هنا في الواقع. فقلت له في النهاية حسناً، سآتي، ولكن إذا لم يعجبني الوضع فسأعود».
لذا جاءت إلى الرقة، عاصمة داعش المزعومة، في عام 2014. وسألتها عما رأت، وما أعجبها. قالت «كان الحياة سهلة، كانت مدينة هادئة ومستقرة، تأكل رقائق بطاطس «برينغلز» وشوكولاتة «تويكس» ولا تشعر أبداً بأنك في حرب».
فسألتها «ألم تسمعي قط بكل القصص التي تُروى عن الأشخاص الذين تقطع رؤوسهم، وعمليات الإعدام الجماعية؟».
فأجابت بالنفي، ثم أضافت بهدوء وكأنها تتحدث عن أخبار الطقس: «لفترة وجيزة، وجيزة جداً، سمعت ببعض عمليات الإعدام الجارية». فسألتها إذا كانت قد سمعت بذبح الأيزيديين، أو سبي النساء الأيزيديات.
قالت بضحكة عصبية: «عندما جئت إلى هنا، سمعت بذلك، ولكنني لم أر واحدة، ولكن..». سكتت برهة ثم تجرأت أخيراً: «حسناً، وجود سبايا جزء من الشريعة. أنا أؤمن بالشريعة، أينما كانت الشريعة. وينبغي أن نتبع من ينفذ الشريعة».
فسألتها إذا كانت نادمة على قدومها إلى سوريا، وإذا كانت قد شعرت بخيبة الأمل مع الدولة الإسلامية، بعد سنوات من إجبارها على التراجع من قبل قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة، وانتقالها من مكان لآخر، لتنتهي أوهام «الخلافة» إلى مساحة 1.5 ميل مربع تحت القصف المتواصل.
فأجابت: «لا، ولديّ أطفالي هنا». كان صبياها الصغيران، محمد ومحمود، يجلسان عند قدميها. كان وجهاهما وملابسهما مغطاة بالتراب، وأنفاهما يسيلان. وكان الأصغر، محمود، لا يرتدي حذاء.
مصممة رسومات من ألبرتا
كانت تشارك «دورا» بطانيتها، وتجلسان بعيداً عن النساء الأخريات، مصممة رسومات من ألبرتا، بعمر 34 سنة، رفضت أن تخبرنا اسمها، ولكنها وصفت حياتها في سوريا بالتفصيل.
جاءت، هي الأخرى، إلى سوريا بطلب من زوجها، تقول، «كان الأمر أشبه بإلزام لي بأن آتي إلى هنا. لم يكن لدي خيار. أي زوجة مسلمة عليها أن تطيع زوجها، حتى إذا كان من الصعب عليّ تنفيذ ذلك». ثم تنهدت بعمق وقالت «كنت مضطرة لذلك».
ومثل دورا، ادعت أنها لم تكن تعرف أي شيء عن داعش أو سوريا قبل أن تصل إلى هنا. تقول «لست من النوع الذي يشاهد الأخبار، ولا أتابع أي شيء من هذه الأمور. كنت أعمل مصممة رسومات وكنت أعمل من المنزل وأعتني بأطفالي، لم أكن مهتمة بأي شيء يدور في العالم».
كان زوجها الأول من البوسنة، وغادر كندا للانضمام لداعش، «ليعمل طاهياً وليس مقاتلاً»، هكذا قالت، وهو التعبير الشائع والمتداول لزوجات داعش. وأضافت «سواء كان طاهياً أو مقاتلاً، فقد مات في القتال».
ولمدة عامين ظلت عزباء، ثم تزوجت مرة أخرى من رفيق كندي هذه المرة، ولكنه مات أيضاً في القتال، وهي حُبلى.
وخلال زواجها في المرتين، عاشت حياة منعزلة في الرقة، تعتني بولديها. لم ترسل أطفالها إلى المدرسة، فعلى حد تعبيرها كان ذلك خطيراً جداً، فالقنابل في كل مكان، ولم يكونوا يتحدثون العربية، فتوَّلت تعليمهما بنفسها.
عندما حاولت التحدث بالعربية بأبسط الكلمات أمام ابنها، يوسف، ظل يحدق في وجهها دون فهم.
رجل بمنتصف العمر يزور «صديقاً عزيزاً»!
يُستَجوَب كل بالغ يصل إلى هنا من قبل ضباط الاستخبارات بـ»قوات سوريا الديمقراطية» الكردية المدعومة من الولايات المتحدة. كما يتم استجواب كل الذكور البالغين والنساء الأجنبيات من قبل أفراد أمريكيين وبريطانيين وفرنسيين يوقفون سياراتهم المدرعة على منحدر منخفض يشرف على تجمعات المدنيين. وأوضح لنا مرافقنا من قوات سوريا الديمقراطية بأنه لا يُسمح لنا بالاقتراب أو التقاط صور للأفراد الأمريكيين وزملائهم.
استجوبت القوات الأمريكية «فاتح الخطيب»، رجل في الخمسينات من العمر بلحية بيضاء كثيفة، يعيش في محافظة إدلب غرب سوريا. وأخبرني فاتح بأنه قام بهذه الرحلة إلى الشرق لزيارة «صديق عزيز». عندما اندلع القتال، أُجبر هو وعائلته على مرافقة مقاتلي داعش المنسحبين.
سألته إذا كان هناك أي شيء يربطه أو عائلته بتنظيم داعش. فأجاب «لا، هذا نفس ما سألتني إيّاه المخابرات الأمريكية».
فسألته عن الوضع داخل قرية «بوغاز»، حيث يوشك الطعام والإمدادات على النفاد، والناس هناك تعيش بالخيام. فأجاب: «هذا طبيعي، أقام الناس هناك أكشاكاً ويبيعون ويقايضون الطعام والسلع الأخرى. هناك أشخاص من جميع أنحاء العالم، الكثير من الشيشانيين هناك».
فسألته «أليس من الغريب أن تجد شيشانياً في الباغوز الفوقاني؟». لم تكن الباغوز الفوقاني، حتى في أفضل أحوالها، ضمن المخططات السياحية، ويقول قادة القوات الديمقراطية السورية أن هناك الكثير من الشيشانيين بين 500 من مقاتلي داعش متحصنين في البلدة. فأجاب بمنتهى اللامبالاة» «لا أعلم إن كان ذلك مريباً أم لا».
آخر الناجين من الغارة الجوية
عبدالرحمن، شاب في العشرينات، يعيش مع عائلته في طرف البلدة المستهدف من قبل الغارات الجوية. عندما التقيت به، كان يجلس مستقيماً ببطانية على صدره. وكان وجهه ويداه وذراعاه في حالة ضرر بالغ. وكانت الضمادة تلتف حول رأسه فوق أعين محتقنة بالدماء. وبجواره تجلس شقيقته الصغيرة، بحروق على وجهها.
تعرض منزل عائلة عبدالرحمن في الباغوز الفوقاني لقصف مباشر في حوالي الساعة الثالثة صباحاً، منذ عدة أيام. فسألته إن كان هناك أي ضحايا، فأجاب بسرعة: «أمي وأخي وزوجته وابنه، وأختي وزوجتي وابنتي، وخالي وزوجته وأطفالهما الاثنان».
وكان والده، سلام، 45 عاماً، ينصت لحديثه. كانت لديه ضمادة على يده اليسرى ولديه الكثير من الندوب على وجهه. وتلتف ضمادة أخرى حول رقبته وذقنه؛ ويقول بأنه فكّه تعرض للكسر في الغارة الجوية.
قال بصوت يرتجف: «إنني خائف، هل تفهمني؟ كل ما تبقى لي هو ابنتي وابني». ودفن وجهه بين كفيه وانهار بالبكاء.
وبحلول الظهيرة، وصلت حافلتان باللون الأبيض. صعدت النساء والأطفال إلى الحافلة في رحلة نحو الشمال لحوالي خمس ساعات، وصولاً لمخيم مكتظ بالنازحين بالقرب من بلدة الهول. ويتم إرسال الرجال الذين يشتبه بأنهم أعضاء بتنظيم داعش إلى مخيم منفصل للمزيد من الاستجواب. وقد شمل ذلك أكثر من 800 مقاتل أجنبي.
ومثل الأطفال، كانت تتم السيطرة على الركاب وإخضاعهم. بإرادتهم أو رغماً عنهم، هذه العناصر السابقة بتنظيم الدولة الإسلامية -الذي كان مخيفاً- قد خسرت كل شيء. تقلصت أبعاد «خلافتهم» المزعومة إلى نقطة صغيرة على الخريطة، وسرعان ما سيتم محوها أيضاً.
أثناء معيشتهم في ظل حكم داعش، كان دعاة الدولة والخلافة يروِّجون بيقين بالغ لقدرة الجماعة على هزيمة أعدائها رغم كل الصعاب. ولا يزال بعضهم يصدق ذلك. ولكن على متن الحافلة، تجلَّى الواقع للجميع. الخلافة على شفا الموت، وهذه هي النهاية.