توجد في اليابان بعض أكثر المباني مرونة في العالم بقدر يجعلها تصمد في وجه الزلازل. ويكمن السر في ذلك في قدرة تلك الأبنية على "التمايل" عندما تهتز الأرض من تحتها.
تهيمن ناطحات السحاب المنتشرة في طوكيو وأوساكا ويوكوهاما على الصورة العامة لهذه المدن. وتعطي الأبراج عادةً انطباعاً بأنها راسخةٌ وثابتةٌ، كما يمكن لبناءٍ من صنع الإنسان أن يكون.
وتمثل هذه الأبراج الشاهقة خلفيةً ثابتةً لمشهد الحياة اليومية في المناطق الحضرية اليابانية، كما تفعل في أي مدينة كبيرة ومتقدمة في أي مكان آخر في العالم. وبينما يتحرك الناس وكذلك السيارات بصخب حول هذه الأبنية، تظل راسخةٌ لا تتحرك، وكأنها تربط باقي أرجاء المدينة المفعمة بالنشاط المتواصل والمحموم، وتُبقيها في مكانها.
لكن لا يتطلب الأمر سوى وقوع زلزال كي يتضح أن هذا المنظور ما هو إلا وهم. المسألة تختلف على أي حال في اليابان، إذ يتعين على ناطحات السحاب هناك أن تصبح قادرةً على التمايل مع الزلازل لا أن تنهار بفعلها.
تهديداتٌ مستمرةٌ
رغم أن زلزال توهوكو الذي ضرب اليابان عام 2011، يُعرف بأنه أحد أكثر الزلازل التي وقعت في الآونة الأخيرة تدميراً، فإنه ليس سوى واحد من الأحداث المشابهة الكثيرة التي يشهدها هذا البلد سنوياً.
فأرخبيل اليابان يقع على طول ما يُعرف بـ "حزام النار حول المحيط الهادئ"، على حافة الصفائح التكتونية لمناطق أوراسيا والمحيط الهادئ والفلبين. وعند الحافة الفاصلة ما بين كل صفيحةٍ وأخرى، تنضغط إحداها تحت الثانية مما يؤدي إلى تراكم ضغوط غير عادية في كثافتها. ويمثل الزلزال تنفيساً لهذه الضغوط، مما يقود لحدوث هزات تصل في قوتها إلى حدٍ كافٍ لتسوية مدينة متوسطة الحجم بالأرض.
لكن الأبراج المُقامة في اليابان ليست بالمباني العادية. فبحسب جِن ساتو، وهو مهندس إنشاءات وأستاذٌ مساعدٌ في جامعة طوكيو، لا بد أن تتمتع كل الأبنية هناك - حتى وإن كانت صغيرةً أو مؤقتةً - بالمرونة اللازمة للصمود في وجه الزلازل التي تضرب هذا البلد.
وهناك مستويان رئيسيان من المرونة يسعى المهندسون بِجد لضمانهما؛ أولهما هو ذاك الضروري للصمود في وجه الزلازل الأقل قوة، من النوع الذي يمكن أن يضرب أي مبنى ياباني ثلاث أو أربع مرات خلال عمره الافتراضي.
وفي إطار هذا المستوى، يتمثل هدف مهندسي الإنشاءات في الحيلولة دون حدوث أي أضرارٍ تحتاج لإصلاحٍ في المبنى جراء هذه الزلازل ضعيفة القوة، وهو ما يعني أن يكون التصميم مُحكماً على نحو يُمَكِّنُ البناء من مواجهة أيٍ من هذه الهزات الزلزالية دون أن تُلْحِق به أذى.
أما المستوى الثاني من المرونة، فهو ذاك اللازم لمواجهة الزلازل شديدة القوة، وهي أقل عدداً وفرصاً في الحدوث بكثير مُقارنةً بالنوع السابق. وتم تحديد مستوى مثل هذه الهزات بناءً على شدة ما يُعرف بـ "زلزال كانتو الكبير 1923".
وكان هذا الزلزال قوياً للغاية، وبلغت شدته 7.9 درجة على مقياس ريختر، ما أدى لتدمير مدينتيْ طوكيو ويوكوهاما، ومقتل أكثر من 140 ألف شخص.
وبالنسبة للزلازل الأكثر قوة من ذلك الزلزال، لا يسعى المهندسون للحفاظ على المبنى في حد ذاته، ويهتمون في المقام الأول بتجنب وقوع خسائر بشرية، ما يعني تسامحهم مع حدوث أي أضرارٍ لا توقع ضحايا.
ويقول زيغي لوبكوفسكي، الخبير في الزلازل في كلية لندن الجامعية، "المرء يصمم المباني لحماية أرواح الناس.. هذا هو الحد الأدنى المطلوب".
المعدات الخاصة بامتصاص الاهتزازات
حتى يتسنى للمبنى الصمود في وجه القوى الهائلة الناجمة عن الزلازل، يتعين عليه امتصاص أكبر قدرٍ ممكنٍ من الطاقة الزلزالية. ويقول ساتو في هذا الشأن: "لا ينهار المبنى إذا ما كان بمقدوره امتصاص كل الطاقة" التي يوّلدها الزلزال.
ويحدث ذلك في الأساس من خلال ما يُطلق عليه عملية "العزل الزلزالي"، التي يتم فيها وضع المباني أو الهياكل الإنشائية على حوامل أو أسطح تتحمل الصدمات أو تمتصها. وفي بعض الأحيان، تتسم مثل هذه الأسطح ببساطة التكوين، إلى حد كونها مجرد كتلٍ من المطاط يتراوح سمكها ما بين 30 إلى 50 سنتيمتراً تقريباً (من 12 إلى 20 بوصة)، وذلك بهدف تحمل الهزات الناجمة عن الزلزال ومقاومتها.
ويتم وضع هذه البطانات المطاطية تحت الأعمدة الحاملة للمبنى، مهما كان موقعها في أساسات البناء.
ورغم أن مسألة تهيئة وضع الأعمدة الخرسانية وجعلها تستقر على مثل هذه البطانات المطاطية - الموضوعة بدورها فوق قاعدة المبنى - تشكل إحدى الوسائل الرئيسية التي تمكن الأبنية من الصمود في وجه الزلازل؛ فإن اللجوء إلى استخدام صماماتٍ لتثبيط الحركة والاهتزازات وتخفيفها، ونشر هذه الصمامات في نقاطٍ بالطوابق العليا من المبنى، يمكن أن تزيد كذلك من مستوى مرونته.
ويقول لوبكوفسكي: "يمكن أن يتحرك المبنى المرتفع لمسافة 1.5 متر (5 أقدام)، ولكن إذا وضعت صماماتٍ على مستويات علوٍ معينة - بواقع كل طابقين مثلاً وصولاً إلى أعلى البناء - فسيكون بوسعك أن تقلص الحركة إلى مسافةٍ أقل بكثير، ما يمنع حدوث تدمير للبنى الموجودة فوق قاعدة المبنى".
وتبدو هذه الصمامات أشبه بالمضخات التي تُستخدم مع الدراجات الهوائية، باستثناء أنها مملوءةٌ بالسوائل لا بالهواء. وتقوم فكرة عملها على أنها تضغط على السائل الموجود بداخلها، عندما تنضغط هي دون أن يؤدي الضغط الواقع عليها إلى تحريكها سوى بمقدارٍ طفيف. وتقود هذه العملية إلى تقليل الاهتزازات التي تحدث بين جنبات المبنى.
الجمع بين الأناقة والأمن والسلامة
لكن طرق جعل المبنى مرناً بما يكفي للصمود أمام الزلازل لا تقتصر على استخدام وسائل معقدة تستهدف امتصاص الطاقة الزلزالية وتخفيف قوة الاهتزازات، بل إن هناك أساليب أخرى تُعنى بالتصميم الداخلي والخارجي للمبنى وهيئته كذلك.
وفي هذا السياق، يقول لوبكوفسكي: "ما نريده - في الحالة المثالية - أن نجعل المبنى منتظماً ومتناسقاً بقدر الإمكان.. إذا ما كان لكل الطوابق الارتفاع نفسه وكانت الأعمدة على شكل شبكةٍ تفصلها مسافاتٌ متساويةٌ" ستزيد قدرة المبنى على الصمود أمام أي زلزال.
لكن مصممي ناطحات السحاب ذات الشكل المتميز لا يرحبون في أغلب الأحيان بتقديم مثل هذا النوع من التنازلات، ما يجعل من الشائع حدوث تباينات بين المعايير المطلوبة من جانب المهندسين لجعل المبنى قادراً على مقاومة الزلازل، والرؤى الإبداعية التي يريد المهندسون المعماريون تطبيقها في البناء نفسه، مما يقود إلى أن تنشأ توتراتٌ بين الفريقين.
ويقول نوريهيرو إجيري مدير شركة إجيري للهندسة الإنشائية ومقرها طوكيو: "توجد دائماً صراعاتٌ كبيرةٌ بيننا.. لحسن الحظ، يتلقى المهندسون المعماريون في اليابان - بدورهم - تعليماً بشأن الزلازل، لذا يكون بمقدور المهندسين والمصممين تبادل النقاش بشكل منطقي".
ولعل الوقت قد حان لإلقاء نظرةٍ على برج "سكاي تري" الموجود في طوكيو وهو ثاني أعلى مبنى في العالم. وقد شيّد على طرازٍ معماريٍ معروف باسم "المستقبلية الجديدة"، ويُنتفع فيه بعناصر معماريةٍ من تصميمات المعابد اليابانية التقليدية المعروفة باسم "باغودا".
كما يتضمن عموداً مركزياً مرتبطاً بصماماتٍ زلزاليةٍ. ويمكن للعمود والصمامات أن تمتص مجتمعةً الطاقة التي يوّلدها الزلزال.
شبكة واقية
إذا عدنا إلى ساتو سنجد أنه يعكف على تطوير حلولٍ هندسيةٍ تتسم بالطابع العملي والجمالي معاً، وتُمَكِّن المباني من مقاومة الزلازل. ويقول في هذا الشأن: "عندما أناقش التصميمات الإنشائية مع المهندسين المعماريين، أبحث دوماً عن طريقةٍ لجعل العناصر المرتبطة بمقاومة الزلازل متناغمةً مع التصميم العام للمبنى".
ويضيف بالقول: "أحياناً أتمكن من إيجاد وسيلة يمكنني من خلالها دمج هذه العناصر في المخطط المعماري الخاص بكل طابق من الطوابق، وفي أحيان أخرى أستطيع تطوير عناصر شفافةٍ أو نصف شفافةٍ، وفي أوقاتٍ ثالثة" يتم الانتفاع بعناصر مُستقاةٍ من علم الهندسة موجودة في تصميم المبنى، وتحويلها إلى عوامل قادرةٍ على تحسين كفاءةٍ المبنى فيما يتعلق بالصمود أمام الزلازل.
فعلى سبيل المثال، يفيد استخدام بنىَ شبكية في الحيلولة دون انبعاج والتواء الهياكل التي تُستخدم لدعم المباني.
فإذا انبعج أحد أجزاء هذه البنى، سيساعده وجود جزءٍ آخر يماثله في الشكل وملاصقٍ له في المكان، على ألا يلتوي بشكلٍ كبيرٍ، كما يوزع مهمة امتصاص الطاقة على أكثر من نقطة. ونتيجةً لذلك، يساعد الهيكل الشبكي على تقوية المباني وتدعيمها، دون أن يقلل ذلك من قيمته الجمالية، إذ يمكن أن يكون بديع الشكل في الوقت نفسه.
تصميماتٌ آخذة في التطور
لا يتسم الهدف الخاص بتحديد المعايير المطلوبة لتشييد مبانٍ مُقاومة للزلازل ومن ثم بنائها بالفعل أمراً يتسم بالجمود والسكون. فالباحثون يسعون دوماً للاستفادة من الصدوع الزلزالية النشطة في الوقت الراهن، من أجل بلورة تقديراتٍ وتكهناتٍ بشأن التأثيرات المحتملة للزلازل التي ستقع في المستقبل على المباني.
لكن ثمة مشكلةً في هذا الصدد تتمثل كما يقول إجيري، في أن قوة الزلازل التي تضرب اليابان والمنطقة التي تقع فيها، تزداد قوةً على ما يبدو شيئاً فشيئا، وهو ما يجعل التكهن بقوة الهزات الزلزالية التي يمكن أن نواجهها في المستقبل أكثر صعوبة.
ولكن هل يمكن لمباني الغد أن تتحمل أقوى الزلازل المتوقعة، وتواجهها دون أن يلحق بها أي ضرر؟
يجيب لوبكوفسكي على هذا السؤال بالقول: "نعم من المفترض أن يكون تشييد مثل هذه المباني ممكناً (ولكن) في حدود المعقول. إذ أن أنواع المنظومات الخاصة بعزل القاعدة (الزلزالية) والدعامات وأنظمة الركائز.. التي نستخدمها ستحقق هذا الهدف".
وتكمن الوسيلة الكفيلة بتشييد مبانٍ قادرةٍ على مواجهة أكثر الزلازل قوة، في العمل تدريجياً على تجربة كل ما لدينا من تقنياتٍ تُعرف بأنها تُستخدم لجعل المباني أكثر ثباتاً واستقراراً، وذلك بالتزامن مع تجريب أكثر التصميمات ابتكاراً، كالاستعانة بالهياكل الشبكية على سبيل المثال.
بجانب ذلك، يمكن أن تُشكل هياكل صغيرةٌ وتجريبيةٌ إضافةً إلى جعبة ما لدى المهندسين من وسائل وأدوات. ومن بين أمثلة تلك الهياكل، هذه الشبكة المعقدة متعددة السطوح، التي صُمِمَتْ لمقاومة حدوث أي انبعاج في عملٍ فنيٍ يوجد في بلدة ناوشيما الواقعة في مقاطعة كاغاوا، وصممه سو فوجيموتو.
ونظراً للطبيعة غير المتوقعة للكوارث الطبيعية، من المستحيل أن نعرف مسبقاً ما إذا كان تصميمٌ ما بعينه سيجعل المبنى الذي سيُشيّد على أساسه قادراً على الصمود في وجه الزلزال القوي المقبل أم لا، حتى تقع هذه الهزة الزلزالية بالفعل.
وهكذا لا يمكن للمهندسين المتخصصين في مقاومة الزلازل ونظرائهم المعنيين بالتصميم والإنشاءات، أن يتيقنوا من مدى مرونة تصميماتهم سوى بعد فوات الأوان.