كانت قد حانت ساعة الظهيرة، في فصل الخريف، عندما كانت كارول بيرمان في متنزه «سنترال بارك» بنيويورك، وأدركت برعبٍ أن زوجها لم يعد يدرك أنها زوجته، بعد زواجٍ دَامَ لمدة 40 عاماً.
في نظره، لم تكن هذه كارول الحقيقية، بل امرأةً غريبة تتظاهر بأنها هي، وتنتحل شخصيتها.
وكان الاثنان يتنزهان عندما بدأ الزوج في الصراخ، منادياً على امرأةٍ بعيدة في الشارع لديها نفس تسريحة الشعر قائلاً: «كارول! كارول، تعالي هنا!»، وفق ما ذكر موقع Science Alert الأميركي.
صُدِمَت زوجته، ووقفت أمامه مباشرةً، ونظرت نظرةً عميقة في عينيه وطمأنته أنها بجانبه. لكنه رفض الاعتراف بأنها كارول الحقيقية.
كان مارتي بيرمان رجلاً طيباً وذكياً للغاية، عمل محامياً بجدٍّ معظم حياته. لكن في سن الـ 74، بدأت تظهر عليه علامات الخرف. فبعد أن كان بارعاً في الرياضيات والهندسة، لم يعد يستطيع طرح الأرقام البسيطة بشكل صحيح.
ما هي متلازمة كابغراس؟
الرجل الذي كان يتجوَّل في مقاطعة مانهاتن بأكملها لم يعد يستطيع قطع القليل من المباني بنفسه دون أن يتوه.
وكان الجزء الأكثر ألماً لكارول هو عندما تطوَّرَت أوهام زوجها منذ عامٍ أو اثنين بعدما ظهرت الأعراض الأولية.
تُعد «متلازمة كابغراس» أو «وهم كابغراس» كما يُعرف، حالةً نفسية تدفع الشخص إلى الاعتقاد بأن نسخاً متماثلة من أحبائهم حلَّت محلهم.
وكأستاذة مساعدة سريرية للطب النفسي بجامعة نيويورك، عالجت كارول العديد من حالات كابغراس.
لكنها عندما رأت شخصاً تحبه كثيراً يعاني من الوهم، وكانت ستفقده بالفعل بسبب الخرف، كان ذلك أمراً مفجعاً.
وتقول كارول، «كانت متلازمة كابغراس هي المحطّم الحقيقي لعلاقتنا. إنه أمر مُروِّع لأنه بمثابة حدوث انفصال بينك وبين حبيبك. كان يدفعني ظناً منه بأنني متطفلةٌ أو شخص غريب يتدخَّل في حياته».
الكل يجهل سبب الإصابة بالوهم
وفي حين أننا لا نزال نجهل الكثير عن سبب الإصابة بذلك الوهم، يقول الباحثون إن الإجابات تكمن في نظام المخ المُعقَّد، وهو نظامٌ يشمل الذاكرة والعاطفة والتعرُّف على الذات، الذي يسمح بالتفاعلات السلسة مع الأحباء، الذين نعتبر وجودهم في الغالب أمراً مُسلَّماً به.
وتقول كارول إن حالة مارتي بيرمان ربما تطوَّرَت بسبب مرض الخرف المصاحب لظهور جسيمات ليوي Lewy في قشرة الدماغ، وهو نفس المرض الذي أودى بحياة والده.
تُعد هذه الحالة هي الأكثر شيوعاً من أنواع الخرف بعد مرض الزهايمر، وتنتج عن ترسبات غير طبيعية للبروتينات في المخ، تسمَّى جسيمات ليوي.
وأوضحت الدراسات أن متلازمة كابجراس شائعةٌ نسبياً لدى المصابين بمرض الخرف المصاحب لجسيمات ليوي Lewy، مع تقرير واحد كشف عن معدل انتشار بنسبة 16.6%.
في النهاية كان يجب وضع بيرمان في دارٍ لرعاية المسنين، حين ظهرت بعدها عليه أولى علامات كابغراس.
وبعد مرور 3 سنوات من تشخيص حالته على أنه مصابٌ بالخرف المصاحب لجسيمات ليوي Lewy، لم يتذكَّر أين عاش، وما التاريخ الحالي، أو حتى كيف يأكل أو يلبس بنفسه.
وتقول كارول «كنت معه منذ 40 عاماً، إنها العلاقة الأساسية في حياتي، ثم بعدها بدأ يُصاب بهذا النوع الرهيب من الخرف، وبدأت وظائف جسده وعقله تتداعى».
محتالاً ما استبدل زوجته
ومثل باقي مرضى كابغراس، اعتقد مارتي أن محتالاً ما استبدل زوجته. انعزل آخرون عن أحبائهم ظناً بأنهم غرباء أو روبوت أو مستنسخون.
وفي بعض الحالات، قام مُصابون بالمرض بأعمالِ عنفٍ مُروِّعة ضد الشخص الوهمي الذين أخطأوا التعرُّف عليه.
وصدر تقرير في العام 2014 يصف حالتين من الرجال يعانون متلازمة كابغراس يقتلون أمهاتهم، في حين ذكر تقرير في العام 2015 كيف أصبح أحد مرضى كابغراس يعاني من مرض باركنسون أيضاً، عنيف بدرجة متزايدة تجاه «النسخ» المتعددة من زوجته.
وذُكِرَت حالةٌ في وقتٍ سابق تتعلَّق بمريض قطع رأس والده «الروبوت» للعثور على البطاريات في رأسه.
ويزعم بعض المصابين بمتلازمة كابغراس وجود نسخ منهم.
أول حالة في العام 1923
إن أول حالة مُوثَّقة عن مريض مصابٍ بمتلازمة كابغراس اكتشفها الطبيبان النفسيان الفرنسيان جوزيف كابغراس وجين ريبول لاشو عام 1923، كانت سيدة تبلغ 53 عاماً، كانت تعتقد أن محتالين استبدلوا زوجها وأبناءها والخدم بمنزلها.
حتى إن المريضة أصرَّت على وجود نسختين أو ثلاث منها، شكَّلوا جزءاً من مؤامرةٍ مدروسة لسرقة هويتها وميراثها.
وتجري العديد من الدراسات مؤخراً عن عدد الأشخاص الذين يعانون من هذا الاضطراب.
وكشفت دراسةٌ أجريت في العام 2014 على مرضى باضطراباتٍ نفسية من الدرجة الأولى يخضعون للعلاج بالمستشفى، أن 73 من 513 مريضاً (أي 14.1%) يعانون من وهم كابغراس.
«اعتقد أنهم نسخاً»
ومنذ أكثر من 20 عاماً، حقَّقَ فيلايانور راماشاندران، مدير مركز المخ والإدراك في جامعة كاليفورنيا بسان دييغو، تقدُّماً باهراً في فهم هذا الوهم، من خلال حالة تعلَّقت بطالبٍ لديه أُصيب بالوهم نتيجة صدمة برأسه من حادث سيارة.
قال راماشاندران، «فسرت النظرية القديمة متلازمة كابغراس على أنها نوعٌ من أنواع النظريات الفرويدية، ربما عقدة أوديب أو إلكترا التي تبقى مكبوتة منذ الطفولة».
وأضاف، «عندما تتعرَّض لصدمة في قشرة الدماغ، وتبدأ الرغبة الجنسية لدى الطفل في التكوُّن، ولكنك تعتاد على القول «لا يمكن أن تكون والدتي وإلا لما انجذبت إليها».
لم يكن هذا الافتراض التحليلي النفسي منطقياً بالنسبة له، لأن المرضى بمتلازمة كابغراس يخطئون التعرُّف على من هم غير والديهم أيضاً، وحتى الحيوانات والنباتات.
سعى راماشاندران إلى تجاوز دراسة الحالة النموذجية عن طريق الملاحظة، وأجرى مجموعةً من التجارب البسيطة على تلميذه ديفيد، للكشف عن الأسباب المحتملة الكامنة وراء الإصابة بهذا الوهم.
في البداية، لاحظ أن ديفيد كان يعتقد فقط أن والديه محتالان بعينهما في الواقع، لكن ليس عبر الهاتف، ما جعله يشك أن عنصراً مرئياً قوياً يكمن في هذه الظاهرة.
وربما، لسببٍ ما، فقد ديفيد ذلك الشعور المُتوقَّع بالدفء عند النظر إلى والديه، ما جعله يعتقد أنهم كانوا نسخاً.
يصدر الأشخاص العاديون استجاباتٍ انفعالية أكبر عند رؤية وجوه من يحبونهم مقارنة بالغرباء، وتُقاس هذه الاستجابات عن طريق قدرة الجلد على توصيل الكهرباء.
توضع أقطاب على يد المريض لتسجيل مدى توصيل الجلد للكهرباء، والذي يعتمد على حالة الغدة العرقية والتغيُّرات التلقائية الطارئة على الاستثارة النفسية.
مع ذلك، عندما عرض راماشاندران على ديفيد صوراً لأفراد عائلته وأشخاصٍ غرباء، كان توصيل جلده ثابتاً على نفس المستوى في كلتا الحالتين.
خلص راماشاندران إلى أن مرض كابغراس ينطوي على الفصل بين أجزاء المخ للتعرُّف على الوجه والاستجابة العاطفية، أي الفص الصدغي المُتعلِّق بالتعرُّف على الوجوه والتأثير الوجهي، والجهاز الطرفي النطاقي المتعلق بالعاطفة.
وأثبتت دراساتٌ أخرى أنه لم يكن لديه مشكلةٌ في التمييز بين الوجوه، ولكن كان ينزع إلى تعيين العديد من الهويات إلى نفس الشخص، طالما التُقِطَت الصور من زوايا مختلفة.
حتى بعض صوره الخاصة كان يقول إن الشخص في الصورة هو شخص غير ديفيد.
قال، «إنك عادةً عندما تنظر إلى غرفةٍ لأول مرة فإن عقلك يحتضنها، وإذا نظرت إلى جانبٍ آخر منها، فأنت تضيفه إلى ملف الذاكرة ذاته. أنت تجمع كل تلك المعلومات لإنشاء ملف واحد. يبدو أن نظام إنشاء الملفات ذلك معطل لدى هؤلاء الأشخاص، وبالتالي يخلقون نسخاً من الأشياء».
نظرية «ثنائية العوامل للاعتقاد الوهمي»
وربما نظر مارتي إلى زوجته هكذا، فلم يشعر بهذا الوميض العاطفي المعتاد، نظراً للتدهور الخرفي الذي يعاني منه.
لكن ما الذي قاده إلى النتيجة المستحيلة بأن تلك السيدة لم تكن كارول الحقيقية؟
يتجادل العلماء بشأن أن التوصيلات التالفة بين أجزاء المخ المسؤولة عن التعرُّف على الوجوه والمشاعر ليست كافية لدعم هذا الوهم الحاد.
وتوصَّل العالم الإدراكي ماكس كولتهارت وزملاؤه إلى نظريةٍ ثنائية العوامل للاعتقاد الوهمي، أكَّدَهاالتصوير الدماغي لمريض كابغراس.
يتمثل العامل الأول في شكلٍ من أشكال تلف الدماغ، يمنع الوجوه المألوفة من استثارة الاستجابة العاطفية، لكن عاملاً ثانياً موجوداً أيضاً ويمنع المرضى من التصدي للاعتقاد الوهمي.
وقال كولتهارت، الدكتور الفخري بجامعة ماكواري الأسترالية، «إذا كان لديك نظام سليم تقييم للاعتقادات، فلا بد من أنك سترفض فكرة تحوُّل من تحبهم إلى محتالين، ولكن تلف الفص الأمامي الأيمن من شأنه أن يمنع حدوث ذلك».
يختلف علاج مرضى كابغراس بناء على المرض الكامن، ولكن الأمر لا ينجح دائماً.
كيف يتم علاج المرض؟
يوصي كولتهارت بتطبيق علاج سلوكي إدراكي، وهو نوعٌ من العلاج يجري بالتحدُّث من شأنه مساعدة المريض على إدراك الاعتقادات غير الدقيقة. بعد إقناعٍ كثير، تقبَّل ديفيد، مريض الدكتور راماشاندران، والديه أخيراً على أنهما والداه الحقيقيان، لكن الدفء الناتج عند رؤيتهما لم يعد قط حتى بعد مرور سنوات.
لجأ الأطباء النفسيون الآخرون، ومنهم كارول بيرمان، إلى علاج مرضى التوهُّم بالأدوية المضادة للذهان والمضادة للاكتئاب.
وقال بول مالوي، أستاذ طب النفس والسلوك الإنساني بجامعة براون، «رأيت مرضى تتحسَّن حالتهم بهذا العلاج، إلى درجةٍ تجعل هذا الوهم غير موجود بشكلٍ دائم أو بصورةٍ تُزعِج أهلهم أو حياتهم، على الرغم من استمرار وجوده في الظاهر».
وخلال الأعوام الأخيرة من حياته، كانت حالة كابغراس لدى مارتي بيرمان تخبو وتنتعش، لكنها لم تُشف قط قبل وفاته في العام 2012.
في النهاية، كتبت كارول، التي لا تزال ترى مرضى، مسرحيةً عن حالة مارتي، ونشرت كتاباً أيضاً منذ عامٍ مضى بعنوان «Surviving Dementia«، أو «النجاة من الخرف»، لمساعدة الآخرين في التأقلُم مع حالة أحبائهم.
ذكرت في كتابها. «خلال مرضه، ربما لم يكن الشخص الذي كان عليه حقاً من قبل».
وأضافت: «لكن في النهاية كان هو الرجل الذي لطالما ظلَّ في قلبي وعقلي».