ترجمة: ساسة بوست
وتوندا وملئها بكنوز لا تقدر بثمن تعلو القبة مكسوة بالقرميد مجموعة من أشجار السرو متوجة فيلا كلاسيكية تحمل تأثرًا لا تخطئه العين بالمهندس المعماري العظيم من عصر النهضة أندريا بالاديو. في كل جانب من جوانبها الأربعة المتماثلة، توجد درجات سلم حجرية تؤدي إلى أروقة مغطاة بأقواس النصر، وتطل على مناظر طبيعية رائعة من كروم العنب وبساتين الزيتون والقرى التي تعلو التلال البعيدة. يشبه هذا المكان فيتشنزا، لولا مجموعة المآذن التي ترتفع في أنحاء المدينة مترامية الأطراف في الوادي أدناه، ولولا حقيقة أن البلدات الموجودة على التلال البعيدة هي في الواقع مستوطنات إسرائيلية. هكذا كتب أوليفر واينرايت في وصف «بيت فلسطين» في مستهل مقاله الذي نشرته صحيفة «الجارديان».
هذا هو بيت فلسطين، نسخة سريالية من فيلا لا روتوندا التي بناها بالاديو في القرن السادس عشر، وكأنها تم نقلها إلى قمة تل فوق مدينة نابلس الفلسطينية. هذا القصر هو منزل منيب المصري، أغنى رجل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو رجل أعمال نفطي تحول إلى فاعل خير محب لجمع التحف ويُعرف أيضًا باسم عرَّاب فلسطين، أو روتشيلد فلسطين، أما بالنسبة لسائقي سيارات الأجرة المحليين فهو الرجل في القصر الموجود على التل. على واحدة من أعلى نقاط الأرض قام منيب المصري ببناء نسخة كربونية من فيلا بالاديو مع بعض «التحسينات» الذي أضافها لنفسه.
يقول المصري وهو يقف على إحدى شرفات منزله الأربع، وهو ينظر إلى حديقة بديعة مليئة بالنوافير والمسابح وأقواس النصر الحجرية الرائعة: «قصري أطول بـ10 أمتار. ليس لديهم هناك في فيتشنزا آدم وحواء أو سفينة نوح. في رأيي هذا القصر هو الأصل».
يقع القصر على جبل جرزيم، وهو قمة تقع جنوب نابلس في الضفة الغربية، ويحتل القصر موقعًا مقدسًا لأسطورة توراتية. تصف الروايات الكنعانية والمخطوطات السامرية هذا المكان بأنه المكان الذي التقى فيه آدم وحواء وأنه المكان الذي بنى فيه نوح سفينته الكبيرة وحيث فدى الله النبي إسماعيل بكبش عندما هم أبوه إبراهيم بذبحه. السامريون ــ الذين لا يزالون السكان الرئيسيون في هذه المنطقة – يعتقدون بأن هذا الجبل هو الأعلى والأقدم والأعرق في العالم وأنه مركز الحضارة.
لذلك لا يتفاجأ من يعلم أنه عندما بدأ المصري في الحفر من أجل وضع أساسات قصره اكتشف ديرًا بيزنطيًا يعود للقرن الخامس الميلادي، ويحتوي على أكبر مساحة تم العثور عليها من الأرضية الفسيفسائية السليمة في المنطقة. تم إدراج هذا الدير في التصميم باعتباره تحفة في الطابق السفلي من قصره، وهو الآن واحد من الكنوز التي لا تعد ولا تحصى ولا تقدر بثمن التي تملأ ذلك القصر الخيالي، لدرجة أنه سينشر كتابًا عنه يعرض فيه تفاصيل كل لوحة وكل قطعة أثاث في قصره الملكي الذي يتوج عمره الذي قضاه في جمع التحف.
ولد مصري في نابلس عام 1934 وانتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1952 لدراسة جيولوجيا البترول في جامعة تكساس قبل أن يعود لتأسيس شركة طاقة في الأردن معتمدًا على تدريبه للاستفادة من الموارد الطبيعية في أنحاء الشرق الأوسط. وبصفته رئيسًا لمجلس إدارة شركة فلسطين للتنمية والاستثمار (padico) التي تمثل حوالي ربع الاقتصاد الفلسطيني أصبحت إمبراطوريته التجارية الآن متشعبة في مختلف المجالات من الاتصالات السلكية واللاسلكية والبنوك إلى الإنشاءات والزراعة. عندما كان المصري شابًا يافعًا في شيكاغو، وبينما كان يعمل لفترات طويلة لدفع مصاريف دراسته بدأ في الشغف ببالاديو وأعماله.
يقول المصري: «اعتدنا أن نذهب في كل سبت إلى مكان رائع لتناول العشاء والرقص يُسمى البالاديوم. لقد قطعت وعدًا لنفسي أن أبني شيئًا مثله لنفسي عندما أعود إلى فلسطين».
يشبه المصري اللورد بيرلنجتون الذي بنى لنفسه قصر بالاديان تشيسويك في عشرينات القرن الثامن عشر بعد أن رأى النسخة الأصلية منه في جولته الكبرى في أوروبا، فبمجرد أن عاد المصري إلى وطنه بدأ في العمل. بدأ المصري في بناء قصره في التسعينات بعد فترة وجيزة من تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية واضعًا مخططاته بمساعدة ابنه رابح الذي درس الهندسة المعمارية في جامعة كاليفورنيا.
لتأثيث البيت طلب المصري من المصممين الداخليين جوزيف أشقر وميشال شاريري استحضار أفضل الديكورات وتقديم المشورة بشأن الأثاث. وتطلبت هذه العملية أكثر من 100 حاوية من التحف تم شحنها من جميع أنحاء أوروبا. وكانت النتيجة نسخة مصغرة من فرساي تضم كل شيء من العروش العثمانية إلى الصوبة الزراعية التي أهداها نابليون إلى عشيقته.
يقول المصري: «أجمع التحف منذ عام 1953»، بينما يقود الكاتب في جولة داخل البهو الدائري المركزي للمبنى حيث تتدلى لوحات الفصول الأربعة الخاصة بأندريا إبياني تحت حليات دائرية من الكتابة بالخطوط العربية لأسماء الأنبياء الأربعة: إبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد تحت قبلة شاهقة. ويضيف متنهدًا: «إنه مرض صعب».
في حين تحتوي فيلا روتوندا التي بناها بالاديو على لوح تصريف حجري في منتصف الأرضية على شكل وجه ذي فم كبير، قام المصري بوضع تمثال لهرقل ــ أو السيد فلسطين كما يسميه. ويقول المصري: «لقد كان شخصًا مليئًا بالقوة والشجاعة والمثابرة. لقد ثبت على أرضه وهزم عدوه، تمامًا مثل الفلسطينيين». هذا المعلم الرائع في القصر هو رمز للتحدي في وجه الاحتلال شأنه شأن كل شيء آخر.
في عام 2002 خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية عندما تعرضت نابلس للقصف بالدبابات والمدافع احتل الجنود الإسرائيليون القصر عندما كان قيد الإنشاء. يقول المصري: «لقد تركوه وكأنه مرحاض كبير». إلا أن ذلك لم يثنه عن إكمال مشروعه. ويوضح: «لو لم أقم ببناء هذا القصر هنا لكانت هناك مستوطنة يهودية في مكانه الآن». إن مستوطنتي إيتامار وبراشا ـ اللتين تعتبران غير شرعيتين بموجب القانون الدولي – هما الآن موطن لأربعة آلاف إسرائيلي على الأقل. وقد حصل المصري على 300 دونم (30 هكتار) إضافي من الأرض حول قصره في محاولة منه لمنع المزيد من التوسع الاستيطاني.
لقد تم تصميم القصر كنصب تذكاري لتطلعات الدولة الفلسطينية: جزء منه لتذكر ما ضاع منها، وجزء منه منارة لمستقبلها القادم. وكما هو الحال في فيلا بالاديو الأصلية ــ التي تم بناؤها كمقر للحفلات الصيفية لرجل دين متقاعد – توجد أربع قاعات كبيرة متفرعة من القاعة الوسطى المستديرة. هذه القاعات تمت تسميتها بأسماء مدن فلسطين التاريخية.
القاعة الأولى تُسمى القدس – الخليل، وهي تحتوي على مكتبة تضم ما يقرب من خمسة آلاف كتاب، حيث يؤدي زوج من السلالم الحلزونية الفرنسية العتيقة إلى معرض علوي للطبعات الأولى والمخطوطات النادرة. كما توجد مدفأة حجرية تعود للقرن السابع عشر تحيط بموقد من الحديد ومزينة بتاج. توجد أيضًا كاميرا بطول ستة أقدام من تركيا وبجوارها صور لمصري مع زعيم منظمة التحرير الفلسطينية السابق ياسر عرفات ــ الذي كان صديقًا له – بالإضافة إلى صور مع نيلسون مانديلا والبابا يوحنا بولس الثاني.
بعد ذلك هناك قاعة نابلس – جنين، وهي غرفة معيشة فخمة توجد بها مرآة عتيقة من فينيسيا موضوعة فوق مدفأة قوطية من الجرانيت. كذلك توجد لوحة نسيجية فرنسية لحوريات راقصات من إنتاج ورشة غوبيلينز يُقال إنها كانت ملك لويس الرابع عشر. وإلى جوار ذلك يوجد تمثال برونزي من بلاد ما بين النهرين لـ«حيوان البراق الخاص بالنبي محمد». كذلك توجد منحوتات يمنية من العصور الوسطى معروضة أمام خزانة مطعمة بصدف السلاحف.
في حجرة المعيشة التالية التي تُسمى حيفا-يافا يوجد العرش المطلي بالذهب الخاص بالخديوي إسماعيل – حاكم مصر من 1863 إلى 1879 – والذي اشتراه المصري لأن الباخرة التي أبحر عليها لأول مرة من بيروت إلى أمريكا كانت تُسمى «إس إس الخديوي إسماعيل». تستمر قائمة المقتنيات الموجودة ويصعب حصرها. يتحرك الرجل الرشيق البالغ من العمر 84 عامًا بسرعة بين مقتنياته التي لا تقدر بثمن وكأنه راعي متحف يتفقد ممتلكات متحفه ويتلقى مكالمات هاتفية من حين لآخر ليروي قصص غنائم الملوك والأباطرة.
لكن المعنى الحقيقي للقصر موجود في الطابق الأسفل على حد قول المصري. هنا بين سلسلة من الغرف التي يغطيها الغبار والتي تحتوي على هواء عتيق تشبه رائحته رائحة متحف مهجور أنشأ المصري مجموعة من المعروضات التعليمية. هناك غرفة مخصصة للجيولوجيا وأصل الحياة على الأرض يليها معرض أثري صغير، ويوجد كذلك جناح مخصص لعرض تاريخ النضال الفلسطيني، معروض فيه السيرة الشخصية للمصري بين سلسلة من الجداريات الظريفة.
كذلك يوجد جدار مذهل يوضح مئات المدن الفلسطينية التي تم الاستيلاء عليها في حرب قيام إسرائيل جنبًا إلى جنب مع جميع مخيمات اللاجئين التي هُجر إليها الفلسطينيون قسرًا على مر السنين.
يمكن رؤية البيوت المتداعية لأحد أكبر تلك المخيمات ـ مخيم بلاطة – في الوادي بالأسفل، حيث توجد بنايات مؤقتة مكتظة بالسكان المُهجرين أصلًا من يافا. عندما يعيش آلاف الأشخاص في فقر مدقع بالقرب من قصر المصري بالغ الترف، ألا يُعد ذلك فُحشًا؟ عن ذلك يقول المصري: «لقد بنيت هذا القصر من أجل فلسطين. كل أعمالي كان الهدف منها رؤية فلسطين مستقلة وفي سلام ووئام مع إسرائيل».
على مر السنين استخدم المصري قصره لاستضافة الاجتماعات والتوسط في الاتفاقات بين الفصيلين الفلسطينيين المتنافسين فتح وحماس، ومحاولة التوسط بين القادة السياسيين والتجاريين العرب والإسرائيليين خلف أبواب القصر الخشبية العتيقة. وفي الوقت ذاته قامت مؤسسته بتمويل الكثير من المبادرات التعليمية والطبية منذ السبعينات.
وكما هو الحال في فيتشنزا يحتوي قصر فلسطين على هدايا تذكارية تحمل اسمه، إذ يقوم المصري بإنتاج قطع من الصابون عليها صور القصر، وهي مصنوعة من زيت الزيتون المزروع في الأراضي الفلسطينية. ويقول المصري إنه يريد فتح منزله لمزيد من الزوار، ويخطط لدعم العملية ماليًا من بيع الزيتون والزيت والصابون. في هذه الأثناء تبقى البوابات الكهربائية للقصر مغلقة في أغلب الوقت لتحمي ذلك العالم بالغ الترف بمدرجاته الرومانية ومسابحه الأندلسية وغرفه الفخمة الآتية من جنوب فرنسا.