منذ أن تقدمت تركيا بطلب بالانضمام للاتحاد الأوروبي عام 1987، لا يزال حلمها الكبير حلماً لم يتحقق بعد، فلا يقترب مرة حتى يبتعد مرات، ولا تزال تركيا منذ ذلك الحين، وبعد الموافقة عليها كـ «مرشح» للعضوية الكاملة عام 1999، تحاول وبكل جهد لتحقيق حلمها المنشود، إلا أن العقبات والعراقيل الأوروبية كثيرة أمامها، فهل تستسلم أنقرة وترفع رايتها البيضاء أمام جدران المنع الأوروبية العالية؟
من أين بدأت الحكاية؟
يعود تاريخ مساعي تركيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي إلى عام 1959، وتم توثيق ذلك في اتفاقية أنقرة عام 1963، التي أقرت العضوية التدريجية لتركيا في الاتحاد الجمركي الأوروبي. أما في عام 1987، فقد قدَّمت تركيا طلباً رسمياً للانضمام إلى ما كان يُسمى «الاتحاد الاقتصادي الأوروبي».
وكانت تركيا عضواً مؤسساً في عدد من المؤسسات الدولية الأوروبية، مثل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية عام 1961، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا عام 1971، واتحاد أوروبا الغربية حتى تاريخ نهايته منذ عام 1992 وحتى 2011.
وقد تم تصنيفها من قبل الاتحاد الأوروبي في 1999 على أنها مؤهلة للانضمام اليه، إذ اعترف بها رسمياً كمرشح للعضوية، لكن لم تبدأ المفاوضات الفعلية على الأرض حول ذلك إلا عام 2005.
طلب العضوية التركي هذا أثار جدلاً كبيراً خلال سنوات توسيع الاتحاد الأوروبي. وهي العملية التي تم فيها ضمّ المزيد من الدول لعضوية الاتحاد الأوروبي. وبدأت هذه العملية بالستة المؤسسين، وهي الدول الست التي أسست الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (الاتحاد الأوروبي فيما بعد) في عام 1952. ومنذ ذلك الحين نمت عضوية الاتحاد الأوروبي لتصل إلى 27 دولة مع التوسع الأخير بانضمام بلغاريا ورومانيا في عام 2007. وانضمت كرواتيا للاتحاد في أول يوليو/تموز 2013، لتصبح الدولة الثامنة والعشرين.
لماذا تريد أنقرة الدخول للاتحاد الأوروبي؟
تسعى تركيا في السنوات الـ15 الأخيرة إلى تحقيق التكافؤ مع القوى الأوروبية الكبرى، خاصة (ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة)، ولذلك لأن من ضمن شروط الانضمام للاتحاد وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على اقتصاد السوق وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد، وتركيا بالطبع استطاعت تحقيق نجاحات اقتصادية ضخمة جداً في آخر عقدين، مما يرشحها «اقتصادياً» بقوة للانضمام.
وكما نعلم، فللاتحاد الأوروبي مميزات عديدة، أهمها أنه سوق موحد ذو عملة واحدة هي اليورو، الذي تبنّت استخدامه 19 دولة من أصل الـ28 الأعضاء، كما له سياسة زراعية مشتركة وسياسة صيد بحري موحدة.
وعند انضمام تركيا إلى الإتحاد الأوروبي فذلك يعني الاستقرار السياسي والديمقراطي والاقتصادي، كما أن السوق المشتركة ستتوسع بين تركيا والدول الأوروبية، ما سيخلق الكثير من النشاط في حجم التبادلات الاقتصادية والتجارية.
إضافة لذلك، تسعى تركيا خلال السنوات الأخيرة إلى توسيع دائرة استقطاب الاستثمار الخارجي، وخصيصاً الأوروبي، إذ تبلغ قيمة الاستثمارات الأوروبية المباشرة في تركيا لعام 2018، 138 مليار دولار، وهي نسبة مرتفعة تقدر بحوالي 97% من حجم الاستثمار الأجنبي ككل، تعود أغلبها إلى الشركات الأوروبية.
على سبيل المثال، تتصدر الشركات الهولندية القائمة بقيمة تصل إلى 41 مليار دولار، في حين تبلغ قيمة الاستثمارات الألمانية 18.2 مليار دولار، أما الاستثمارات البريطانية فقد قُدرت بما قيمته 8 مليارات دولار، مع ظهور كل من إسبانيا وإيطاليا ولوكسمبورغ كمستثمرين بارزين آخرين.
وعليه فإن انضمام تركيا للاتحاد سيُوسّع آفاق الاستثمار هذه، وستُضاعف مختلف المشاريع بين مؤسسات الطرفين، مما يعني خلق فرص عمل جديدة وتحقيق النمو الاقتصادي الكبير، ورفع قيمة الليرة التركية لتكون من ضمن أقوى العملات في المنطقة.
ما معوقات دخولها؟ وما الأسباب الحقيقية لرفض الأوروبيين لها؟
تختلف وتتعدد معوقات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، فبالنسبة للأوروربيين، هناك معوقات ديموغرافية، إذ سيجعل انضمام تركيا للاتحاد ثاني أكبر عضو فيه من حيث عدد السكان بعد ألمانيا، حيث بلغ عدد سكان تركيا حوالي 80 مليون نسمة وفقًا لآخر الإحصاءات.
وعليه، قد تكون تركيا العضو الأول في الاتحاد خلال السنوات القليلة القادمة وفقاً لبعض التقديرات. وهذا التعداد يعطي لتركيا عدداً أكبر من الممثلين داخل البرلمان الأوروبي، ويجعلها من الأعضاء الفاعلين فيه والمسيطرين.
وهذا بالطبع ما يثير مخاوف سياسية عديدة لدى دول الاتحاد، من أن تتحول القضايا الإسلامية في تركيا إلى قضايا أوروبية، نظراً لأن الديانة الأكثر انتشاراً في تركيا هي الإسلام.
كما أنه على المستوى الاقتصادي يتوقع الأوروبيون أن انضمام تركيا للاتحاد سوف يدفع بعدد كبير من المهاجرين الأتراك إلى بعض دول الاتحاد، مثل ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة وغيرها، للبحث عن فرص عمل في هذه الدول. ونظراً لأن العمالة التركية تعدّ من العمالة غير المكلفة كثيراً فسوف يساعد هذا على تدني الأجور في هذه الدول، وزيادة معدلات البطالة. بالإضافة إلى توقع انتشار السلع التركية الرخيصة في دول الاتحاد، مما يؤثر على أسعار الصناعة المحلية في هذه الدول، فضلاً عن تأثيره على مستوى الجودة.
إلى ذلك، يتحجّج الأوروبيون بأن تركيا، وخصيصاً بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في عام 2016، تدهورت فيها حالة حقوق الإنسان، إذ أعربت دول أوروبية عن قلقها إزاء ما سمَّته «تدهور سيادة القانون وحقوق الإنسان وحرية الإعلام ومكافحة الفساد». كما دان نواب أوروبيون تصريحات الرئيس التركي بالدعوة لإعادة فرض عقوبة الإعدام على الانقلابيين، وهو ما يعد بالنسبة للأوروبيين «مخالفاً لمعايير الانضمام إلى الاتحاد».
وبعد انقطاع دام لحوالي العامين بعد أزمة الانقلاب الفاشل، عادت جولات الحوار التركي- الأوروبي في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ استقبلت أنقرة مسؤولة السياسة الأمنية والخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني، برفقة مفوض سياسة الجوار وشؤون التوسع يوهانس هان. وعلَّقت أنقرة بهذه العودة آمالاً جديدة حول تجاوز العقبات والأزمات مع الأوروبيين أمام عضوية تركيا الأوروبيّة.
لكن خلال هذا الأسبوع، أقرَّت لجنة العلاقات الخارجية بالبرلمان الأوروبي مناقشة مسودة التقرير السنوي المتعلق بمدى «تحقيق تركيا المعايير الأوروبية في مختلف مجالات الحياة»، والتي نصت على تعليق انضمام تركيا للاتحاد.
لكن تركيا بالمقابل رفضت ما تضمَّنته مسودة التقرير الذي يطالب بتعليق رسمي لمحادثات انضمام تركيا للاتحاد. واعتبرت أنقرة أن ما ورد يعتبر بمثابة «توصية»، وليس ملزماً قانونياً بتعليق رسمي لمحادثات انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، رافضة ذلك باعتباره «أمراً لا يمكن قبوله بأي حال من الأحوال».
هل ما زالت تركيا تريد الانضمام للاتحاد الأوروبي؟
خلال العامين الأخيرين، وفي أكثر من محفل، كرَّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القول بأن بلاده لن تستمر في طلب الانضمام للاتحاد الأوروبي، وهي لم تعد بحاجة له.
ففي لقاء جرى بين أردوغان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بباريس، العام الماضي، أشار أردوغان أن تركيا «تعبت» من الانتظار للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لافتاً في الوقت نفسه إلى أن الاتحاد لم يفِ بوعوده بشأن تقديم المساعدات للاجئين السوريين المقيمين في بلاده.
ليس هذا فحسب، فقد هدّد أردوغان في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بإجراء استفتاء شعبي على مشروع الانضمام للاتحاد الأوروبي. مشيراً إلى أن تركيا لديها الكثير لتضيفه إلى الاتحاد الأوروبي إذا ما انضمت إليه، ولا يمكن لها أن تبقى في حالة انتظار دائم.
ولكن، وبالرغم من هذه التصريحات الغاضبة، تستمر أنقرة على الدوام بتمسكها بفكرة الانضمام للاتحاد الأوروبي، وتسعى على الدوام للإعلان عن إصلاحات سياسية واقتصادية وقضائية لديها، تتماشى مع شروط الاتحاد الأوروبي، مشددة على أن عضوية الاتحاد الأوروبي تظل أحد أولويات أهدافها الاستراتيجية رغم توقف محادثات الانضمام وتعثرها أكثر من مرة.
هل تكون «الشراكة» مع الأوروبيين بديلاً للانضمام؟
يقترح بعض المسؤولين بالاتحاد الأوروبي استبدال فكرة انضمام تركيا للاتحاد بعقد شراكة معها، إذ قال يوهانس هان مفوض العلاقات مع دول الجوار والتوسعة بالاتحاد الأوروبي، في تصريح صحفي له، في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إن تعليق المفاوضات الدائرة منذ عام 2005 بين أنقرة وبروكسل، أعاق الطريق أمام «شراكة واقعية بديلة بين الجانبين»، مقترحاً استبدال العضوية الكاملة للاتحاد الأوروبي بتوسيع اتفاقية الاتحاد الجمركي بين أوروبا وتركيا، لتشمل مجالات الطاقة والهجرة وإعادة إعمار سوريا، وكانت الدول الأوروبية قد جمَّدت هذه الاتفاقية في يونيو/حزيران الماضي.
ويرى هان -المنتمي لحزب الشعب اليميني المحافظ الحاكم بالنمسا- أن الصراحة على المدى البعيد تفرض على تركيا والاتحاد الأوروبي التخلي عن مفاوضات العضوية، والبحث عن شكل جديد لعلاقتهما مثل فكرة «الشراكة»، تخدم الجانبين ولا تضيع الوقت والفرص عليهما.
إلى ذلك، يرى محللون غربيون أن عدم وجود إمكانية لعضوية كاملة لتركيا بالاتحاد الأوروبي يقابله في الوقت نفسه عدم رغبة الطرفين في استبعاد أي منهما للآخر، لأن التبعات السياسية لهذا الأمر لا يمكن توقعها.
وبالتالي فإن حاجة تركيا وأوروبا المتبادلة لبعضهما أمنياً واقتصادياً، فضلاً عن روابط اجتماعية تتعلق بوجود خمسة ملايين من أصول تركية بالدول الأوروبية -بما في ذلك الأقلّيتان التركيتان باليونان وبلغاريا- يجعلهما يفضلان الحفاظ على وضع علاقتهما الراهن، ما لم تدعُ ألمانيا إلى إغلاق ملف العضوية الأوروبية الكاملة، لكن ربما سيكون لذلك تداعيات لا يمكن للجانبين تحملها، وهو ما تخشاه أوروبا وتحاول المماطلة بدلاً من ذلك على الدوام.