كان الأطباء في الفترة من القرن الثاني بعد الميلاد وحتى نهاية العصور الوسطى، يعتقدون أن وظائف أعضاء جسم القرود تشبه وظائف أعضاء جسم الإنسان. وهذا الاعتقاد الشائع كان مثار الخلاف بين أطباء التشريح في القرن الثاني بعد الميلاد وبين الطبيب الإغريقي كلوديوس غالينوس، الذي كان مرجعا لعلماء غرب أوروبا والدولة البيزنطية في كل ما له علاقة بالطب.
ورغم أن المقدسات والمحاذير الدينية والقانونية والثقافية حالت بين غالينوس وبين تشريح الجثث البشرية، إلا أن مؤلفاته وتجاربه التشريحية التي أجراها على القرود، ولا سيما قرد المكاك البربري والمكاك الريسوسي، كانت نبراسا أضاء الطريق أمام الأجيال اللاحقة لتطوير الطب وممارسته لنحو 1,400 عام.
ثم انطلقت ثورة علمية حطمت جميع القيود التي كانت تكبل المعرفة الإنسانية. وشهد القرن السادس عشر تحولات في مناهج البحث العلمي وأساليب الملاحظة، أفرزت علم التشريح البشري بصورته الحديثة الحقيقية ومهدت الطريق لممارسة الطب كما نعرفها اليوم.
لكن هذه الثورة العلمية ما كانت لتنطلق، لولا إسهامات مدينة بادوفا الإيطالية وجامعتها في المجال الطبي.
وتزخر مدينة بادوفا بإرث فني وديني وأدبي حافل، واشتهرت بأنها المدينة التي اختارها شكسبير لتدور فيها أحداث مسرحيته "ترويض النمرة"، وعكف فيها الفنان الإيطالي غيوتو، الملقّب برائد فناني عصر النهضة، على تزيين جدران وسقف كنيسة سكوفيني بلوحات جصية جدارية تصوّر مشاهد من قصص مستقاة من الكتاب المقدس بأدق التفاصيل. لكن أبرز ما يميز هذه المدينة الواقعة في شمالي إيطاليا هو أنها مهد الطب الحديث.
وظلت مدينة بادوفا، التي كانت يوما ما منطقة حكم ذاتي، مركزا لدراسة الطب وفروعه لقرون عدة. ولترسيخ هذا التراث، تأسست جامعة بادوفا في عام 1222. وكانت الجامعة نموذجا فريدا للتسامح الديني والبراعة منقطعة النظير في علم التشريح، حتى بعد أن تولى مقاليد الحكم فيها لوردات أسرة كرارا في القرن الرابع عشر.
وعندما استولت جمهورية البندقية على مدينة بادوفا في عام 1405، حافظ البندقيون على الجامعة لتصبح مركزا تعليميا للجمهورية، وكانت الجامعة تدار تحت شعار حرية التدريس والبحث العلمي.
يقول فابيو زامبيري، أستاذ مساعد لتاريخ الطب، بقسم القلب والصدر والأوعية الدموية في كلية الطب بجامعة بادوفا: "أدركت جمهورية البندقية آنذاك أن الجامعة ستتيح لها الفرصة لذيوع شهرتها ولفت الأنظار إلى إنجازات حكومتها، ولذلك عمدت البندقية إلى استقطاب أفضل الأطباء من جميع أنحاء أوروبا، الذين أغرتهم حرية البحث العلمي التي تعهدت الجامعة بكفلها لهم. وجذبت شهرة أساتذتها اللامعين صفوة الطلاب محليا وعالميا".
ومع الوقت، أصبحت جامعة بادوفا مركزا لما يصفه زامبيري "بالنهضة العلمية"، التي مثلت أحد أركان عصر النهضة.
وأحدثت هذه الثورة العلمية تحولا جذريا في طرق تحصيل المعارف. فبعد أن كانت الكتب النظرية مصدرا أساسيا لاستقاء المعلومات الدينية والعلمية في العصور الوسطى، أثمرت التحولات التي شهدها عصر النهضة منهجا علميا جديدا يقوم على الفحص العملي والتجارب العلمية.
ويقول زامبيري: "في هذه الجامعة، كان غاليليو يدرّس الرياضيات في عصر النهضة، ومنها نشر منهجه الكمي التجريبي الذي كان له بالغ الأثر على الطب. وكان ويليام هارفي، وهو أول من وصف الجهاز الدوري بالكامل في جسم الإنسان، طالبا في كلية الطب بجامعة بادوفا. واخترع سانتوريو سانتوريو، أحد أساتذة الجامعة، الترمومتر. وأسس جيوفاني باتيستا مورغاني، أحد أساتذة التشريح في الجامعة، علم الأمراض التشريحي في القرن الثامن عشر. وأجريت أول عملية زراعة قلب بشري في إيطاليا في مدينة بادوفا في عام 1985".
وبعد مسيرة 15 دقيقة من محطة قطار بادوفا، وصلت إلى "قصر بو" أو "بلازو ديل بو" في قلب المدينة، وهو المقر التاريخي لجامعة بادوفا، وفي أروقة "بلازو ديل بو" وُضع الأسلوب المنهجي لدراسة الطب الذي أسهم في تطويره ليصبح علما حديثا.
وقد شعرت أن أصداء المحاضرات عن طلاء المعادن بالزنك والاكتشافات العلمية والطبية غير المسبوقة تتردد في كل مكان في الجامعة.
ودخلت إلى باحة الجامعة المزدانة جدرانها وسقفها بالشارات الملونة التي كان يحملها الطلاب السابقون، وتأملت المكان لبرهة، ففي هذا المكان، في القرن السادس عشر، كان أندرياس فيزاليوس يجري عمليات تشريح الجثث البشرية في قاعة التشريح المؤقتة أمام جمهور قوامه 500 شخص أو يزيد.
وُلد فيزاليوس في بروكسل، وقدم إلى بادوفا في سبتمبر/أيلول عام 1537، وحصل على شهادة الدكتوراة في الطب في ديسمبر/ كانون الثاني من العام نفسه. وسرعان ما شغل منصب رئيس قسم التشريح والجراحة بالجامعة حتى مطلع الأربعينيات من القرن السادس عشر.
وفي أثناء مقامه في إيطاليا، ألف كتابه الثوري "بنية جسم الإنسان" الذي يقع في سبعة مجلدات، ونُشر في عام 1543. وعرضت المجلدات السبعة وظائف أعضاء الجسم البشري بشرح مفصل غير مسبوق، مصحوبا برسومات إيضاحية في غاية الدقة نفذها فنانون من ورشة الرسام الإيطالي تيتيان بمدينة البندقية تحت إشراف فيزاليوس بنفسه.
وفي النصف الأول من القرن الثالث قبل الميلاد، دأب الطبيبان الإغريقيان هيروفيليس وإيراسيستراتوس على إجراء عمليات تشريح لجثث بشرية في المدرسة الإغريقية للطب في مدينة الإسكندرية. لكن مؤلفاتهما عن نتائج الأبحاث فُقدت في خضم الحريق الذي التهم مكتبة الإسكندرية التي كانت تعد أهم مركز علمي وثقافي في العالم القديم.
لكن تشريح الجثث البشرية فيما بعد لاقى معارضة شديدة في اليونان وروما، وشيئا فشئيا أصبح من المحظورات الثقافية في القرن الثاني بعد الميلاد، ولم يجد غالينوس بدا من تشريح الحيوانات لكي يفهم الجسم البشري. وبالطبع لم تخل نتائج أبحاثة من أخطاء، لكن لم يكن ثمة وسيلة مقبولة لتفنيدها، ولهذا ظلت افتراضات غالينوس مصدرا أساسيا للمعرفة الطبية لأكثر من 1,400 عام.
وفي منتصف العصور الوسطى أخذت رياح التغيير تطيح بالمحظورات في مجال التشريح، وبحلول القرن الرابع عشر، أصبح تشريح الجسم البشري وسيلة تعليمية قيّمة يمارسها المعلمون أمام طلاب كلية الطب، وإن كان لم يُسمح إلا لقلة من الناس ببمارسته. إذ كان يجري عملية التشريح عادة طبيب جراح، ويقتصر دور أطباء التشريح على توجيه الجراح بقراءة نصوص غالينوس وتنفيذ تعلمياته بالحرف الواحد. ولم يشكك الناس في مصداقية المعلومات المتاحة عن الجسم البشري إلا بعد قدوم فيزاليوس.
ويقول زامبيري: "جاء فيزاليوس ليحدث ثورة في عالم تدريس التشريح. إذ كان فيزاليوس يؤديه بنفسه ويشرح للطلاب أثناء تشريح الجثة. وبذلك جعل من الجسم البشرية كتابا طبيعيا تنبني عليه أبحاث علم التشريح. كما قوّض أسس منهج التشريح القديم، بعد أن أثبت أن غالينوس لم يشرّح جثث بشرية وأن تركيب جسم الحيوانات التي كان يشرّحها يختلف عن تركيب جسم الإنسان".
وقد أثارت مجلداته السبعة ضجة في أوساط الأطباء في القرن السادس عشر، ودحض كبار أساتذة الطب وممارسيه في غرب أوروبا الأوفياء لغالينوس مزاعم فيزاليوس وأطروحاته بشدة. وحينها شعر فيزاليوس أنه منبوذ ومكروه، ما حدا به إلى ترك مجال التدريس برمته. لكن التقدم في العلوم الطبية بجامعة بادوفا لم يتوقف بمغادرة فيزاليوس. إذ حمل من بعده شعلة البحث العلمي أطباء من قسم التشريح وغيره من الأقسام- مثل غابرييل فالوبيو- أول من وصف أنابيب فالوب، وبارتولوميو يوستاشي- أول من درس بدقة تشريح الأسنان- وسلموها للأجيال اللاحقة من بعدهم.
واليوم، تزين صور هؤلاء النوابغ من رواد الطب الحديث قاعة الطب بقصر بالازو ديل بو.
وبعد خمسين عاما من توقف فيزاليوس عن إجراء عمليات التشريح في قاعة مؤقتة بباحة الجامعة، أنشئ أول مبنى دائم مصمم خصيصا لتنفيذ عمليات التشريح أمام الجمهور داخل "بالازو ديل بو" في الفترة ما بين 1594 و1595 بجوار قاعة الطب.
وقادنا المرشد إلى "المطبخ"، وهو غرفة مطلية جدرانها بألوان قاتمة كانت تُحضر فيها الجثث للتشريح. ودخلنا إلى مسرح التشريح عبر نفس الباب الذي كانت تمر من خلاله الجثث وترص بعضها فوق بعض أسفل مائدة التشريح.
وفي ضوء القاعة الخافت، رأيت درجات المدرج الضيقة، حيث كان يجتمع أكثر من 250 طالب طب وغيرهم من المتفرجين لمشاهدة التشريح. وكانت درجات المدرج الستة خالية من المقاعد ولا يوجد مكان لتدوين الملاحظة، وفوق ذلك لا توجد نوافذ.
وصُمم المدرج على شكل حلقي يتسع تدريجيا عند القمة، وأحيطت الدرجات المصنوعة من الخشب المحفور بسياج مرتفع بما يكفي ليحول دون سقوط المتفرجين، في حال أغمي عليهم من قسوة مشهد التشريح. وكان يحضر عمليات التشريح التي تجرى على ضوء الشموع طلاب وأساتذة وأشراف ووجهاء المجتمع ونخبته وحتى النبيلات. وفي الدرجة العلوية كان يقف جوقة من عازفي الكمان لتخفيف وقع المشاهد على النفوس، حتى يصبح الجو أقل إثارة للغثيان.
ويستغرق تشريح كل جثة عدة أيام في فصل الشتاء، وتجرى عمليات التشريح عادة في موسم عيد الفصح، حيث تقام المهرجانات والاحتفالات، ويكون الناس في هذه الفترة أكثر تسامحا وتساهلا في تطبيق القواعد والضوابط الاجتماعية، وقد يغضوا الطرف عن إجراء عمليات تشريح الجثث رغم أنها تتعارض مع الكثير من المقدسات والثوابت الدينية والاجتماعية.
وانتابت المجموعة التي كانت ترافقني مشاعر مختلطة أثناء استماعنا لوصف المرشد للعمليات التي كانت تُجرى حيث نقف، فبعض أفراد المجموعة ضيّق عينيه من فرط الاشمئزاز، وبدا أنه فقد اهتمامه بالحديث. في حين أن أحد الجراحين الذي جاء خصيصا من كندا لزيارة محراب الطب، كان مستمتعا للغاية بالحديث عن أول مسرح تشريحي دائم في العالم وكان متشوقا لمعرفة المزيد.
وبعد إنتهاء جولتي في جامعة بادوفا، عدت أدراجي إلى المدينة، التي تعج بمعالم أثرية تبرز تأثير مدينة بادوفا على الطب الحديث. إذ زرت متحف تاريخ الطب الذي يضم مئات الآثار إلى جانب شاشات عرض تفاعلية تسرد تفاصيل تطور فهمنا للجسم البشري. ثم تجولت في الأروقة المعمّدة والمسقوفة بالمدينة التي قادتني من كنيسة سانت أنطونيو إلى حديقة النباتات الطبية الملحقة بالجامعة.
وأقيمت حديقة النباتات في عام 1545 وأدرجتها منظمة اليونيسكو ضمن قائمة التراث العالمي، وكان طلبة كلية الطب يعتمدون عليها في دراستهم لعلم النبات، ولا سيما عند اختبار قدرات بعض النباتات على العلاج والمداواة. ودخلت أنواع عديدة من النباتات إيطاليا عبر هذه الحديقة، مثل زهرة دوار الشمس والبطاطس والسمسم وزهور الياسمين والبنفسج.
ويقول زامبيري إن الأوروبيين لم يعرفوا القهوة إلا من خلال هذه الحديقة أيضا، ويضيف: "لم يرد ذكر القهوة في أوروبا إلا في كتاب "عن الطب المصري"، الذي ألفه بروسبيرو ألبيني في القرن السادس عشر، وكان يشغل منصب مدير الحديقة".
وبعدما غادرت حديقة النباتات، استرجعت عبارة قرأتها في كتاب "أصول العلم الحديث من عام 1300 إلى 1800" الذي ألفه هيربرت باترفيلد، أستاذ التاريخ ونائب رئيس جامعة كامبردج، في عام 1959، إذ قال: "لو جاز لنا أن نمنح مكانا لقب "مُنطلق الثورة العلمية"، فليس هناك على وجه الأرض مكانا أحق بهذا اللقب من مدينة بادوفا".