ترسل ولاية ألاسكا سنويا لكل شخص يقيم على أراضيها شيكا بقيمة ألف دولار عبر البريد، فلماذا؟
ارتبط اقتصاد ألاسكا ارتباطا وثيقا بالموارد الطبيعية، بدءا من تجارة الفراء ومصائد الأسماك، ووصولا إلى تعدين الذهب والنفط. لكن الاعتماد على النفط كمصدر للدخل، وضع اقتصاد الولاية تحت رحمة تقلبات أسعار النفط العالمية، مما زاد من احتياجها لإنشاء شبكة أمان مالي.
وعندما اكتشف حقل خليج برودو النفطي، خصصت الولاية جزءا من إيرادات النفط لإنشاء صندوق للادخار العام. ومنذ عام 1982، يتلقى سكان الولاية سنويا حصصا من أرباح استثمارات ما بات يعرف بصندوق ألاسكا الدائم، وهو صندوق سيادي ممول من عوائد النفط.
وتتراوح حصص الأرباح الموزعة على السكان سنويا ما بين 331 دولار و2.072 دولار، أي ما معدله 1.000 دولار سنويا. لكن هل أثر توزيع حصص أرباح الصندوق الدائم على اقتصاد ولاية ألاسكا؟ وكيف؟
اكتشاف حقل غني بالنفظ
في عام 1867، اشترت الولايات المتحدة الأمريكية ولاية ألاسكا من روسيا نظير 7.2 مليون دولار. وكانت ولاية ألاسكا آنذاك مركزا لتجارة الفراء. لكن في 1896، اكتُشف الذهب بمحاذاة نهر كلوندايك.
وفي مطلع الستينيات، تنوعت روافد الاقتصاد، من مصائد الأسماك والنفط إلى الإنفاق العسكري على الدفاع. ولم تتعد ميزانية الولاية السنوية آنذاك 100 مليون دولار.
ولكن الأوضاع تبدلت تماما في عام 1968، عندما اكتشف حقل نفط شاسع تُقدر احتياطيات النفط فيه بنحو 13 مليار برميل، ويقع هذا الحقل في خليج برودو بمنطقة المنحدر الشمالي للولاية، على بعد أكثر من 1.000 كيلومتر عن مدينة أنكوريج، كبرى مدن ولاية آلاسكا.
ويقول كليف غرو، مسؤول سابق بالإدارة العامة للإيرادات بولاية ألاسكا ومن أشد المناصرين للصندوق الدائم: "قلما يُكتشف حقل نفطي في حجم حقل خليج برودو، وقد بات يعرف في مجال النفط باسم 'الفيل' و'العملاق الضخم'، مما يعكس مدى ندرته".
وسرعان ما أدر الحقل أرباحا وفيرة، إذ بلغت العوائد التي جنتها الولاية في عام 1969 من تأجير الأراضي المحيطة بالحقل لشركات النفط 900 مليون دولار.
في أعقاب اكتشاف حقل نفط خليج برودو وإنشاء خط أنابيب نقل النفط عبر ولاية ألاسكا، بات واضحا أن اقتصاد الولاية سيشهد تحولا نوعيا. لكن عندما أُنفقت عوائد الإيجارات بالكامل على البنية التحتية والخدمات، لم يلمس بعض السكان تحسنا كبيرا في الأوضاع الاقتصادية. كما أدرك جاي هاموند، حاكم الولاية المنتخب في عام 1974، أن إيرادات النفط ستنقطع لا محالة يوما ما.
ولذا مضت إدارته في إنشاء صندوق ألاسكا الدائم في عام 1976 لإدخار الأموال للأجيال القادمة من سكان ألاسكا. واتُفق على أن يوضع ربع ريع النفط بالولاية في صندوق الإدخار العام، الذي فاقت قيمته الآن 65 مليار دولار.
يقول هاموند في كتابه 'مقترح حاكم الولاية: كيف يصلح نموذج ولاية آلاسكا في توزيع عوائد النفط على السكان للتطبيق في العراق وغيرها من البلدان الغنية بالنفط': "أردت أن يشعر سكان ألاسكا بأن هذه الموارد ملك لهم، لتشجيعهم على دعم الأساليب المستدامة في تطويرها والنأي عن النماذج غير المستدامة".
توزيع أرباح الصندوق الدائم
وبعد مرور ست سنوات، طُبق برنامج "حصص أرباح الصندوق الدائم"، الذي يُوزع بمقتضاه جزء من أرباح الصندوق الدائم على السكان المقيمين في ألاسكا منذ ما لا يقل عن عام.
ويرى مؤيدو البرنامج أنه يحفز سكان الولاية على منع هيمنة أصحاب المصالح الخاصة على الصندوق، ويقدم مزايا للجميع على السواء، وأنه بمثابة شبكة أمان اجتماعي لحماية محدودي الدخل من سكان الولاية.
ويصف غرو الصندوق بأنه : "أكثر فعالية من جميع الأنظمة البديلة من حيث التكلفة والمردود".
ويقول هاموند إن منح المواطنين حصة من عوائد الموارد بالولاية ليحددوا بأنفسهم أوجه الإنفاق التي يرون، "وليس كما ترى الحكومة، أنها تخدم المصلحة العليا للسكان"، كان أفضل طريقة لإدارة عوائد النفط بالولاية لصالح سكانها.
رؤى مبكرة
في عام 1982، تلقى كل شخص في ألاسكا يستوفي الشروط اللازمة للحصول على حصة من أرباح الصندوق، 1000 دولار (ما يعادل 2.670 دولار في الوقت الحالي)، ومنذ ذلك الحين، أصبحت حصص الأرباح تحتسب سنويا على أساس متوسط دخل الصندوق الدائم الخاضع للضريبة على مدى السنوات الخمس السابقة.
وفي عام 1984، أعد معهد الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية التابع لجامعة ألاسكا تقريرا عن مشاعر سكان ألاسكا حيال الصندوق الدائم، وخلص التقرير إلى أن 60 في المئة من سكان ألاسكا يستحسنون الفكرة، بينما 29 في المئة منهم لديهم مشاعر مختلطة، و10 في المئة منهم يستهجنونها.
وذكر التقرير أن سكان ألاسكا أنفقوا نحو 45 في المئة من حصص الأرباح الموزعة عليهم على الاحتياجات الأساسية من طعام وتدفئة وملبس وإيجار، وادخروا 20 في المئة منها، وأنفقوا 20 في المئة على الضرائب الفيدرالية، وخمسة في المئة لتسديد جزء من الديون، و10 في المئة على منتجات الرفاهية مثل رحلات الطيران.
وانتهى التقرير إلى أن: "برنامج حصص أرباح الصندوق الدائم بات واحدا من أهم أسباب نمو مصادر الدخل الشخصي القابل للانفاق (بعد اختصام الضرائب) منذ بداية الانتعاش الاقتصادي في عام 1980"
شبكة أمان اجتماعي
وذكرت دراسة أجراها معهد الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية في عام 2016، أن برنامج حصص أرباح الصندوق الدائم أسهم في تخفيف حدة الفقر في ولاية ألاسكا، ولا سيما بين سكان ألاسكا الأصليين، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن معدلات الفقر بين السكان الأصليين أعلى منها بين السكان غير الأصليين بولاية ألاسكا بمرتين ونصف.
كما يساعد البرنامج في انتشال ما يتراوح بين 15.000 و25.000 مواطن في ألاسكا من الفقر المدقع سنويا.
تقول بيكي باركر، المديرة التنفيذية لمركز أنكوريدج لأنشطة المسنين: "صادفت الكثير من المسنين الذين لم يخططوا للمستقبل، أو من يعانون من مشاكل صحية رغم أنهم تحسبوا للمستقبل، وأرى أن المستفيدين من برنامج حصص أرباح الصندوق في حاجة ماسة للمال. إذ يحتاج بعضهم للمال ليسد رمقه، فإذا توفر لديه المال سيشتري منتجات البقالة أو الوقود لسيارته أو ربما يسدد الإيجار الشهري".
وتُوزع حصص أرباح الصندوق الدائم في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، إذ تُضخ أموال في اقتصاد الولاية تسهم في إنعاشه حتى نوفمبر/ تشرين الثاني.
ويقول مايك غوردن، المالك السابق لحانة "تشيلكوت تشارليز" التاريخية بمدينة أنكوريدج: "هذه الأموال تعطينا دفعة تدوم لستة أسابيع أو شهر".
وبالرغم من صعوبة احتساب التأثير الإجمالي للبرنامج، فإنه في عام 2018، وزعت حصص أرباح الصندوق التي فاقت المليار دولار، على 90 في المئة من سكان ألاسكا البالغ عددهم 740 ألف مواطن.
ويقول ماثيو بيرمان، أستاذ الاقتصاد بمركز الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية، إن اقتصاد الولاية يحظى بالنصيب الأقل من أرباح الصندوق، إذ ينفق نحو خمسها على ضرائب الدخل الفيدرالية، ويستخدمها البعض لتسديد الديون أو يدخرونها.
ولكن التأثير الملموس لهذا البرنامج هو أنه بات يمثل جزءا مهما من الدخل السنوي لبعض الأسر الأكثر فقرا.
ويقول ماركوس هارتلي، رئيس مؤسسة "نورثيرن إيكونوميكس" بولاية ألاسكا: "إن الأسرة الفقيرة المكونة من أربعة أفراد التي يقل دخلها السنوي عن 30.000 دولار ستتلقى حصة قدرها 6.000 دولار من أرباح الصندوق، وهذا يمثل من 20 إلى 25 في المئة من دخلها السنوي".
ماذا عن رأي المعارضين؟
يرى معارضو برنامج حصص أرباح الصندوق الدائم أنه لا يصب في مصلحة اقتصاد الولاية.
ويقول هارتلي: "إذا أنفقت هذه المبالغ على الرواتب والأجور للموظفين، مثل موظفو القطاع العام، سيكون تأثيرها أفضل بمراحل على الاقتصاد ككل". لأنك بذلك ستخلق فرص عمل جديدة لمواطنين ينفقون المال داخل الولاية.
ويرى آخرون أن تأييد أغلب سكان ألاسكا لبرنامج توزيع الأرباح، قد يقلل من فرص السياسيين الذين يرغبون في تغييره في الفوز بالانتخابات.
ويقول وولفورث، كاتب ومؤرخ من ولاية ألاسكا، إن ولاية ألاسكا، التي لا تفرض ضريبة على الدخل، لا تنفق على المجالات التي تدفع عجلة النمو والتنمية الاجتماعية والاقتصادية، مثل التعليم.
ويقول وولفورث: "بسبب هذا البرنامج، لن يجرؤ الساسة على إخضاع سلع وخدمات جديدة للضرائب. وقد أدى تعدد أوجه صرف عائدات النفط وتنوعها إلى تخفيض نصيب كل طالب من الإنفاق الحكومي على التعليم. وفي الوقت نفسه، كلما زادت قيمة حصص الأرباح الموزعة على السكان، زادت رغبة الناس في المجيء إلى الولاية".
ماذا سيحدث مستقبلا؟
يعتمد سكان آلاسكا الآن على حصص أرباح الصندوق الدائم التي توزع عليهم سنويا، ولكن في عام 2016، خفّض بيل ووكر، حاكم الولاية آنذاك، حصص الأرباح بمقدار النصف، لسد عجز الموازنة الذي بلغ ملايين الدولارات إثر انخفاض أسعار النفط.
ويقول روجر ماركس، خبير اقتصادي في مجال النفط بولاية ألاسكا: "مولت الحكومة عجز الموازنة من حساب احتياطي إيرادات الصندوق الدائم، الذي تُصرف منه أيضا حصص أرباح الصندوق، وهذا يعني أن الحكومة اضطرت لتخفيض حجم حصص الأرباح لتمويل نفقات الخدمات العامة".
وبينما أيد بعض سكان آلاسكا موقف ووكر، فقد عارضه الكثيرون. وفي عام 2018، وعد المرشحان لمنصب حاكم الولاية بعدم المساس بحصص أرباح الصندوق الدائم. وتعهد مايك دانليفي، الفائز في الانتخابات، بالحيلولة دون تخفيضها مرة أخرى، وبأن تُصرف الأموال التي لم يُبت فيها منذ عام 2016، للسكان، مؤيدا خفض الإنفاق الحكومي وزيادة إنتاج النفط في المقابل.
إلا أن انخفاض أسعار النفط أدى إلى دخول البلاد مرحلة ركود اقتصادي دامت ثلاث سنوات. وبالرغم من تعافي الأسعار، فإن إنتاج ألاسكا من النفط تهاوى منذ أن وصل ذروته في عام 1988.
ومن المتوقع أن يستمر الجدل الدائر حول برنامج توزيع حصص أرباح الصندوق الدائم، وكيفية تحقيق الاستفادة المثلى منه، إلى ما لا نهاية.