كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف صباحا عندما كان عبد الله إسماعيل يجلس على مصطبة منزله في حي المغتربين بمدينة تعز. وعلى غير العادة، كان الرجل -الذي قلما فارقته الطمأنينة-قلقا لا يتوقف عن النظر إلى ساعته بشكل يوحي بأنه ينتظر شيئا بالغ الأهمية.
لليوم الخامس على التوالي، كان عبد الله ينتظر صهريج المياه التجارية لتغذية خزان منزله الذي نفد قبل أسبوع تقريبا، وهي الفترة التي أصبح يعتمد فيها على شراء أسطوانات المياه النقية المعالجة (20 لترا) بأسعار باهظة للاستخدام المنزلي.
قال عبد الله بغضب متحدثا عن بائع صهاريج المياه الذي تحول اليوم إلى "عملة نادرة" في مدينة تعز "تصور أن الرجل لم يعد يرد على اتصالاتي المتوالية، وقد كان في السابق يهرع إلينا بمجرد رسالة قصيرة".
وعلى بعد كيلومترات غربا، في حي "السلخانة" المجاور، كان عبد العزيز نبيل يُعرب عن امتنانه لجاره الطيب الذي أسعفه بخمسمئة لتر من المياه، فاضت عن احتياجه من مياه الصهريج التي حظي بها بعد أسبوع كامل من المتابعة المشفوعة بمجموعة وعود عرقوبية.
أزمة
قال عبد العزيز "للجزيرة نت" إنه دفع ألفي ريال يمني (5 دولارات تقريبا)، لقاء الخمسمئة لتر تلك التي أنقذت منزله من الجفاف، وإنه كان مستعدا للدفع أكثر للحصول على المزيد بعد أن فرغ خزان منزله منذ قرابة أسبوعين.
ويقول مبارك الصبري إن صهريج المياه من سعة ستة آلاف لتر، وصل سعره إلى عشرين ألف ريال (40 دولارا تقريبا).
بالنسبة لأبي هاني، مالك صهريج مياه متوسط الحجم (3000 لتر)، فقد رفض أن يأخذ أقل من خمسة آلاف ريال (10 دولارات تقريبا) لبيع نصف الصهريج، معللا ذلك بصعوبة حصوله على المياه.
ولجلب المياه، كان أبو هاني يتحرك بصهريجه مع شروق الشمس إلى منطقة الضباب (25-30 كيلومترا) في الريف الغربي للمدينة، ولشدة الزحام، لم يكن يحصل عليها إلا بعد الغروب، وأحيانا بعد منتصف الليل.
وكانت محافظة تعز واحدة من أكثر المحافظات التي تعاني من شح المياه على مدى العقدين الأخيرين، ومع الحرب تفاقمت الأزمة أكثر.
وبحسب إحصائية حديثة حصل عليها موقع "الجزيرة نت" من المؤسسة المحلية للمياه والصرف الصحي، كان احتياج السكان في مدينة تعز في الظروف الطبيعية يصل إلى 35 ألف متر مكعب في اليوم الواحد، بينما كانت المؤسسة تنتج ما بين 16 إلى 18 ألف متر مكعب في اليوم.
وبعد الحرب، تدنت الإنتاجية لتتراوح ما بين 2500-3000 متر مكعب في اليوم، أي بعجز يصل إلى 144% تقريبا.
أسباب الأزمة
ثمة اعتقاد شائع هنا أن سبب الأزمة الراهنة يعود إلى تأخر موسم الأمطار عن موعده المعتاد، حتى إن مكتب الأوقاف والإرشاد بتعز عزز هذا الاعتقاد من خلال الدعوة التي وجهها الخميس الماضي إلى الخطباء والدعاة بأداء "صلاة الاستسقاء".
لكن مدير مؤسسة المياه في تعز بدري الإبي لا يعتبر ذلك سوى أحد الأسباب، ولديه الكثير ليقوله في هذا الشأن.
ومن أبرز الأسباب التي ذكرها، اتهامه للحوثيين -الذين يحاصرون المدينة-بإيقاف ضخ المياه من الآبار الرئيسية الواقعة تحت سيطرتهم شرق المدينة، حيث يوجد حوض المياه الجوفية الرئيس، معتبرا ذلك إخلالا بالاتفاق المبرم مع منظمة اليونيسيف.
وأشار الإبي في حديثه إلى الاتفاق المعمول به منذ عامين بين منظمة اليونيسيف والمسؤولين الحوثيين، والذي تقوم المنظمة الدولية بموجبه بدعم ميزانية مؤسسة المياه الرئيسية بصنعاء في مقابل استمرارية مؤسساتها المحلية في المحافظات بتزويد السكان بالمياه اللازمة دون توقف ودون استخدامها سلاح ضغط في الحرب الدائرة.
وعلم موقع الجزيرة نت من مصادر خاصة أن مقدار الدعم الذي تقدمه اليونيسيف لمؤسسة المياه الرئيسية يصل إلى 144 مليون دولار سنويا لتشغيل المؤسسة.
ويسيطر الحوثيون على الجهتين الشرقية والشمالية من محافظة تعز، وهما المصدران الرئيسان اللذان تعتمد عليهما المدينة من المياه.
وتضم مناطق سيطرة الحوثيين أربعين بئرا رئيسة كبيرة، بينما لا يوجد في المدينة -الواقعة تحت إدارة الحكومة الشرعية-سوى عشرين بئرا ارتوازية. وهي -بحسب الإبي-تعد آبارا صغيرة تستخدم لحالات "الطوارئ"، فضلا عن أن عددا منها معطل وأخرى بحاجة إلى صيانة أو إعادة تأهيل.
ويتهم مدير مؤسسة المياه الحوثيين بالتلاعب بكمية المياه التي يضخونها للمدينة طوال الفترة الماضية من الحرب، حيث لا تصل منها سوى كميات قليلة جدا، تتراوح ما بين 70 إلى 90 مترا مكعبا في اليوم.
وبحسب الإبي، أدى ذلك إلى حدوث عجز كبير في كمية المياه المطلوبة، وهو ما اضطر مؤسسة المياه في المدينة إلى تكثيف العمل على الآبار الإسعافية الداخلية لتغطية العجز الحاصل على مدى الفترة الماضية، الأمر الذي عمل على استنزافها بشدة، حيث انخفضت مناسيب المياه فيها إلى درجات قياسية غير مسبوقة، وتدنت إنتاجيتها بشكل كبير جدا، وبعضها تعرض لأعطال نتيجة الإنهاك.
ومؤخرا، أوقف الحوثيون الضخ بشكل كلي منذ شهر تقريبا، الأمر الذي تسبب في تراكم العجز المائي، وبالتالي تفاقم الأزمة بشكل حاد.
وإلى جانب ما سبق، يضيف المدير سببا رئيسا آخر، وهو زيادة رقعة زراعة القات في الريف الغربي لتعز، خصوصا المناطق القريبة من منطقة الضباب الغنية بالمياه الجوفية. وتسبب ذلك بسحب مزارعي القات كميات كبيرة من مياه المنطقة التي شكلت طوال الفترة الماضية موردا رئيسا لسكان المدينة.
حلول
وأكد مدير مؤسسة مياه تعز للجزيرة نت أن السلطة المحلية أقرت خطة إسعافية عاجلة تشمل عددا من الإجراءات المهمة للتخفيف من تفاقم الأزمة، على رأسها التواصل مع منظمة اليونيسيف لحل مشكلة تلاعب الحوثيين بعملية ضخ المياه إلى المدينة.
كما تشمل الخطة تخصيص مبالغ مناسبة لتأهيل الآبار الداخلية المتوقفة؛ وتفعيل الآبار الخاصة التابعة لمواطنين عجزوا عن تشغيلها، على أن تتحمل المؤسسة كلفة تشغيلها وإدارتها.
ومن ضمن الإجراءات المتخذة العمل على استعادة آبار داخل المدينة لا تزال واقعة تحت سيطرة بعض الأفراد والجماعات، وقد تم تشكيل لجان نزول ميدانية لإقناعهم بتسليم إدارتها للمؤسسة.
وإلى جانب ذلك، هناك اتفاق على أهمية ضبط أسعار بيع صهاريج المياه التجارية، لأن عدم الضبط فاقم الأزمة بين المواطنين، رغم أن سعر الديزل ظل ثابتا ولم يرتفع حتى الآن.
وعلى المستوى العملي، أكد مدير عام المؤسسة على أن هناك توجيهات وبلاغات للنقاط العسكرية خارج المدينة بالقبض على كل شاحنة مياه تجارية تنقل المياه خارج المدينة إلى الريف لبيعها إلى مزارعي القات.