ترجمة: عربي بوست
كانت السماء ترسل رزازاً من المطر بينما يُوارى جثمان حاجي محمد داود نابي الثرى في مقابر Memorial Park Cemetery بمدينة كرايستشيرش في جنازة ضحايا نيوزيلندا.
كان نابي البالغ من العمر 71 عاماً هو الشخص الخامس الذي يُدفن يوم الخميس 21 مارس/آذار 2019.
وقبل ذلك بستة أيام كان أول مَن قُتِل عندما فتح باب مسجد النور في دينز أفنيو بمدينة كرايستشيرش ورحب بشخص غريب قائلاً: «مرحباً أخي».
الآن بقي فقط 28 مصاباً في المستشفى
أصبح هذا الغريب الآن قيد الاعتقال يواجه تهماً بقتل 50 شخصاً في هجومه على مسجد النور ومسجد آخر في منطقة لينوود أفينيو. إنه أسوء هجوم إرهابي في تاريخ البلاد.
وكان أصغر ضحية يبلغ من العمر ثلاث سنوات.
ومنذ الخميس الماضي 21 مارس/آذار تبقَّى 28 مصاباً من أصل 42 في المستشفى.
كان الدافع وراء الهجوم هو كراهية المسلمين، إلا أن هذا الهجوم شق نهراً من الحب والدعم غمر البلد الحزين.
ومنذ ذلك الحين حضر الآلاف من غير المسلمين إلى المسجد لأول مرة، وأدى طلاب المدارس رقصة «الهاكا» تكريماً للضحايا، وارتدت النساء غير المسلمات (بمن فيهن رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن) الحجاب، وتعهد مواطنو نيوزيلندا بتشكيل سلاسل بشرية حول المساجد في جميع أنحاء البلاد لحماية المصلين.
بعد ساعة من دفن داود قرروا حظر السلاح
النيوزيلنديون يبذلون جهدهم لمواساة أهالي الضحايا/ رويترز
وشجع هذا الهجوم رئيسة الوزراء جاسيندا أرديرن على اتخاذ إجراءات، فبعد ساعة من دفن داود، قررت أرديرن حظر بيع بنادق الهجوم من الطراز العسكري والبنادق نصف الآلية وبنادق الرش ذات خزانة الذخيرة القابلة للفك والتركيب وأيضاً مخازن الذخيرة ذات السعة الكبيرة، وهي الأسلحة الأساسية التي قالت الشرطة إنها استُخدمت في الهجوم.
ومساء يوم الخميس الماضي، حضر أكثر من 18 ألف شخص وقفة صامتة بالشموع تكريماً للضحايا في دنيدن، وهي ثاني أكبر مدن الجزيرة الجنوبية في نيوزيلندا بعد كرايستشيرش.
كان الشخص البالغ من العمر 28 عاماً المتهم في الهجمات يعيش في دنيدن على بُعد 360 كيلومتراً جنوبي البلاد. وذكرت المحكمة اسمه إلا أن أرديرن تعهدت بعدم ذكر اسمه مطلقاً.
لم يكن وحده مَن دُفن بل 26 شخصاً أيضاً
يوم الجمعة الماضي 22 مارس/آذار 2019، بعد أسبوع من المذبحة، بُثَّ أذان المسلمين على التلفزيون والإذاعة الرسميين في نيوزيلندا، وتلاه صمت لمدة دقيقتين. وخارج مسجد النور تجمَّع حشد ضخم لحضور صلاة الجمعة. وبعد ذلك أُقيمت جنازة جماعية لـ26 شخصاً من الضحايا المتبقين.
وقالت لول إبراهيم، التي كان شقيقها الأصغر موكاد (3 أعوام) من بين الضحايا، إنها كانت تعيش في أستراليا ولم تتَح لها الفرصة للقاء شقيقها، مضيفة: «ربما سأقابله يوماً ما في الجنة».
ومن منصة على بُعد 200 متر من المسجد، قال الإمام جمال فودة إن نيوزيلندا أثبتت أنها «غير قابلة للكسر»، داعياً لاتخاذ مزيد من الإجراءات لاستئصال الإسلاموفوبيا وخطاب الكراهية.
وقال فودة: «يوم الجمعة (15 مارس/آذار) وقفت في هذا المسجد ورأيت الكراهية والغضب في أعين الإرهابي. واليوم من نفس المكان أرى الحب والتعاطف في أعين آلاف النيوزيلنديين والبشر من جميع أنحاء العالم».
الجنازة التي لن ينساها أحد
وألقت أرديرن خطاباً مقتضباً وتلت أحاديث نبوية ثم قالت: «نيوزيلندا تشاطركم الأحزان، كلنا واحد».
وفي ختام الفعالية، وُجهت إلى الحضور رسالة مقتضبة باللغة الماورية: «الحب، الحب، الحب».
داخل البيوت في كرايستشيرش تدور نقاشات هادئة بين النيوزيلنديين حول ما إذا كانوا قد قللوا في الماضي من خطورة العنصرية وخطاب الكراهية، بينما كان عليهم أخذ تهديدات القومية البيضاء على محمل الجد. أما في أستراليا فأصبحت هذه القضية محور النقاشات السياسية الحزبية.
كان الناس يعيشون في كرايستشيرش مترقبين للزلزال القوي القادم، لكن القليل منهم –ومعهم السلطات- كانوا مستعدين لهذه الكارثة التي هي من صُنع الإنسان.
«لماذا لم يسأل الرجل الغاضب لماذا يصلون؟»
الحزن يخيم على المدينة/ رويترز
حتى يوم 15 مارس/آذار 2019 استبعد الكثيرون فكرة شن اليمين هجوماً إرهابياً في نيوزيلندا باستثناء هؤلاء الذين تعرضوا مباشرة لمشاعر معادية للمسلمين، حتى إن الأجهزة الأمنية تجاهلت الإشارات التحذيرية.
وقالت راشيل ماكورميك، وهي سيدة من كرايستشيرش: «أتمنى ألا يعتقد أي شخص أن وغداً حقيراً قد يؤثر في بلدنا وكيف نفكر في أنفسنا». وذهبت راشيل إلى النصب التذكاري الجماعي خارج الحدائق النباتية في منطقة روليستون أفينيو مصطحبة اثنين من أطفالها، وهي تضع الورود ورسالة كتبها ابنها البالغ من العمر 5 سنوات.
وكُتب في الرسالة: «لماذا لم يسأل الرجل الغاضب لماذا يُصلّون؟».
وأضافت ماكورميك أن الهجوم أشعل «الكثير من النقاشات عن عنصرية المجتمع النيوزيلندي» وعن الفخر بطريقة المواساة من جانب أرديرن كزعيمة وعن حظر الأسلحة، رغم أن الأمر الأخير يحظى «بتأييد تام بنسبة 100%».
وقال أندرو تيرنر، نائب رئيس بلدية كرايستشيرش، إن عائلته لا تزال «في حالة صدمة» ولكن هناك «بعض الأسئلة تحتاج لإجابة» حول العنصرية والتعصب في نيوزيلندا.
وتابع تيرنر: «أتمنى ألا يترك هذا الأمر لدينا إلا الإيجابيات التي تؤدي إلى فهم أشمل لمختلف الديانات ومختلف المجتمعات ومستوى أعلى من الوعي الثقافي والحاجة المطلقة لقبول الاختلاف في مجتمعنا الأوسع، والحاجة أيضاً لأن يكون مجتمعنا ملاذاً للترحيب بالمهاجرين واللاجئين الذي أتوا إلى البلاد مؤخراً».
وقال كيران فوكس من مؤسسة الصحة النفسية البريطانية، إن هذا الهجوم يُظهر ضرورة دمج المجتمعات المهاجرة واللاجئين الجدد في الدوائر المجتمعية التي تشكلت لمواجهة الزلزال الأخير. وأرجع فوكس قدرة المدينة على الصمود إلى تلك الدوائر، ما يعني أنه عندما تحل كارثة بكرايستشيرش، فإن سكانها البالغ عددهم 374 ألف نسمة «يعرفون كيف يكونون مجتمعاً واحداً».
اختاروا الورود والحجاب للتعبير عن تضامنهم
الورود ملأت المنطقة، والكل وضع رسالة تعبر عن مشاعره/ رويترز
تجلى هذا في عدد الورود التي زادت بشكل مطرد في روليستون أفينيو بعد ظُهر يوم الهجوم؛ لتغطي أكثر من 100 متر من السياج، وامتلأ الشارع برسائل التضامن والتعزية التي كُتب بعضها باللغة الماورية، مثل «كونوا أقوياء».
وقد كُتبت هذه العبارة على حزمة من أغصان الزيتون وبالطباشير على الرصيف، وعلى الزينة الورقية التي صنعها طلاب المدارس الابتدائية، وعلى النسخ المتماثلة للعَلم النيوزيلندي.
بعد كل بضعة أمتار وُضعت صورة لأحد الضحايا بين أكوام من الزهور ودُمى الدببة. وعند مكان آخر توجد مجموعة من كرات لعبتَي كرة القدم وكرة القدم الخماسية، وتأبين لعطا عليان (33 عاماً)، الذي كان حارس مرمى المنتخب الوطني لكرة القدم الخماسية للرجال، وأيضاً طارق عمر (24 عاماً) وصياد ملن (14 عاماً) لاعبي نادي مايتلاند لكرة القدم.
تُركت رسالة لعمرتقول: «عندما كنت تدربني كنت أشعر أنني مرحب بي في الفريق، لقد تحدثتُ إليك يوم الثلاثاء الماضي، ولكن يبدو أنها كانت المرة الأخيرة».
وجاء محمد إسحاق وابنته شاهين (15 عاماً) إلى كرايستشيرش قادمين من مدينة أوكلاند يوم السبت 16 مارس/آذار بعد علمهما بمقتل ابن عمهما في الهجوم الإرهابي، وشيعا جنازته يوم الأربعاء 20 مارس/آذار.
وقال إسحاق: «كان هنا لمدة أسبوع، وكان من المفترض أن يأتي إلى أوكلاند السبت الماضي في زيارة، لكن لم يحدث ذلك».
ووجَّه الشكر للمجتمع النيوزيلندي ككل على دعمه قائلاً: «إن الأمة بأكملها تؤازرنا، والدولة بأكملها تساندنا، وهو ما توقعناه من الشعب النيوزيلندي».
وقالت شاهين إن حجم دعم المجتمع عقب الهجوم بعث فيها الأمل.
وتابعت: «أصبح الناس ينظرون للمسلمين بطريقة مختلفة الآن ونقدّر ذلك فعلياً. والآن أصبحنا نشعر أننا جزء من هذا المجتمع بالفعل».