يمكن القول إن منظر قرية حَيد الجزيل الواقعة غربي محافظة حضرموت شرق اليمن، يختزل الكثير من أسرار العمارة في بلد يبدو السِحر جزءاً من هوية جغرافيته وعمارته وتاريخ إنسانه.
هناك في وادي دوعن، أحد أهم أودية محافظة حضرموت، نبتت بيوتٌ طينية على سطح جرف صخري ضخم يقع على ربوة تتوسط ملتقى واديين في مشهدٍ يتداخل فيه موقع الصخرة الفريد وبهاء المعمار الطيني الجميل مع لون الوادي الخضير ولون الجبل الزاهي؛ فتتشكل لوحة مختلفة لقرية تشعر كأنها من عالم الأساطير.
إنها قريةٌ تتموضع على صخرة كبيرة يبلغ ارتفاعها 150 متراً، وتقعُ على ربوة تربضُ عند سفح جبل، وتطلُّ من ثلاث جهات على حقولٍ زراعية خضراء، ويلتقي قبالتها نهران (سيول خريفية صيفية) يأتياها من وادي عقرون ووادي مراه.
قد يكون تاريخ أقدم بيوت القرية، وفق تقديرات آثارية، لا يتجاوز خمسمئة سنة، وإن كان هذا غير محسوم بحثياً، إلا أن ثمة نقوش في مناطق جبلية قريبة منها تعود لعهود سحيقة؛ ما يؤكد عراقة الاستيطان البشري للمنطقة.
لكن خصوصية هذه القرية ليست في تاريخها، وإنما في كونها آية في موقعها الصخري وتحفة معمارها الطيني وفرادة اطلالتها الساحرة على وادٍ بهيج.
تتميز حضرموت بعمارة طينية تخصها ما زال الناس هناك يتوارثون تقاليدها منذ آلاف السنين؛ وهي عمارة لها خصوصية أكثر في وادي دوعن؛ ويمتاز هذا الوادي بالعسل ذائع الصيت، واشتغال معظم أبنائه بالتجارة في المهاجر وبالزراعة في الداخل؛ ولهذا يحفل الوادي بعددٍ كبير من أشجار النخيل ومساحة واسعة من الحقول الزراعية.
يلاحظ الزائر أن كثيرا من حواضر هذا الوادي تشيّد مبانيها على المرتفعات، كما هو الحال في مدينة الهجرين؛ وهي مرابع الشاعر الجاهلي امرئ القيس، أو على سفوح الجبال كما في قرية خيلة بُقشان؛ وذلك حماية لها من مخاطر السيول.
الوصول
يمكن الوصول لقرية حَيد الجزيل من مدينتي المكلا أو سيئون، وهما مركزا محافظة حضرموت. فمن سيئون؛ وهي مركز وادي حضرموت، الذي تنتمي إليه هذه القرية التابعة إدارياً لمديرية دوعن، ستنطلق رحلتك إليها عبر طريق اسفلتي يمر بعددٍ من المدن بما فيها القطن. خلال الرحلة التي تمتد لساعة تقريباً ستواصل السيارة التهام الطريق متجاوزة عددا من البلدات وصولاً إلى وادي دوعن الأيسر. وهناك ستشاهد عدداً من القُرى الحضرمية الطينية العمودية ذات الواجهات الملونة والمعروفة بالنمط المعماري الطيني الدوعني، كقرى الجحي ونمير وجبولة والدوفة والجديدة والمشفقة. وقبل مشاهدة قرية حَيد الجزيل ستمر الرحلة مقابل حصون بُقشان، بما فيها قرية خيلة آنفة الذكر، أو ما صارت تُعرف بخيلة بُقشان، وذلك لانتماء عددٍ من التجار المهاجرين في السعودية وبعض دول جنوب غرب آسيا من عائلة بُقشان إليها، ومنهم رجل أعمال يملك فيها قصراً كبيراً بنمط العمارة الطينية الدوعنية، كما أقام هذا الرجل، في أعلى الجبل من قريته، منتجعاً سياحيًا اسماه «حَيد الجزيل» وهو اسم القرية الأثرية التي يمكنك من أعلى قرية خيلة مشاهدتها هناك على مرمى بصرك كتاج تزدان به تلك الصخرة العملاقة التي تحيط بها أنهار المياه وحقول الزراعة. إنه مشهد غاية في الجمال!
ستشعر عند رؤية القرية من هناك كأن بيوتها الطينية انبثقن من باطن تلك الصخرة المتموضعة على ربوة، في حكايةٍ لعلها كافية لاختزال قدرة الإنسان اليمني هنا على تطويع الطبيعة لخدمته مستفيداً حتى من طبيعة التضاريس.
لقد صرنا قريبين منها … ها نحن نمر من قريتي تولبة وضري …وللوصول إليها سنتجاوز الوادي وصولاً إلى طريق ترابي نمشي خلاله صعوداً صوب القرية من جهة الجنوب الغربي، وعند الوصول إلى القرية من الخلف بمحاذاة الجبل سنجد مباني تنتمي للقرية لكنها مشيدة خلف الصخرة وجنوبها على سفح الجبل؛ ما يؤكد أن مساحة سطح الصخرة لم تكفِ لاستيعاب حالة توسع البناء هنا في فترة من الفترات الماضية من تاريخها، ما اضطر أهالي القرية للبناء خارجها في محيط الصخرة.
بيوت القرية
عند دخول القرية والوصول إلى الصخرة ستجد أن البيوت على سطحها شيدت في إطار شبه دائري بسبب وجود نتوء صخري وسط سطح الصخرة، وكأن البيوت هناك مقسمة بالإضافة إلى البيوت خارج محيط الصخرة إلى ثلاثة أجزاء: الجزء الشمالي الغربي، وفيه بيوت شبه متلاصقة في معظمها، وكثير منها صار خراباً أو آيل للسقوط، بل لم يعد كثيراً منها مسكوناً، أما البيوت في الجزء الجنوبي الغربي والشرقي من سطح الصخرة فهي متوسطة الحال في الغالب وترتفع طوابق بعضها إلى الثلاثة وبعضها أربعة، لتبقى بيوت الجزء الأمامي والخلفي لوسط الصخرة؛ وهي أجمل بيوت القرية من حيث المساحة والجمال والارتفاع والموقع وبالذات في الواجهة المطلة على الوادي من ناحية الشرق. ويلاحظ الزائر أن البيوت مشيّدة على حواف الصخرة في الغالب، وسيستغرب من كيفية تكيّف السكان هنا مع المكان متجاوزين مخاطره.
لكن بعيداً عن تلك المخاطر؛ فإن وقوفك بالقرب من تلك البيوت الأمامية المطلة على الوادي، سيمنح عينيك وقتا للاغتسال بمنظر إطلالة القرية على الوادي، وحينها ستكتشف أهمية المكان وسحر المنظر؛ إنه منظر تمازجَ فيه الماء والشجر والطين تحت عنواني النخيل والعسل… بل ما زالت رائحة الطبيعة هنا كما كانت عليه قبل مئات السنين؛ وهذا قلما تشعر به في أي مكان آخر في العالم، لدرجة قد ينتابك شعور أنك في حُلم أو تشاهد فيلماً خيالياً؛ فهكذا أماكن طالما تشتغل عليها السينما الخيالية الأسطورية.
نحن في حضرة قرية مائزة بكل شيء، إن المنظر الذي تطلُّ منه على الوادي والأنهار الخريفية لا يمكن أن تجده في أي مكان آخر تحيط به قسوة الجبال من كل مكان، فيما تجده يزخر ببهجة مختلفة كهذه؛ فقسوة الحجر تماهت في جمال الوادي حتى أصبحت جزءاً من لوحته الفنية الفريدة.
كأن الجبل والشجر والطين يتحدثان هنا لغة مختلفة اسمها حَيد الجزيل؛ لغة تختزلها صورة؛ صورة يمكنها أن تقول ما تعجز عنه الكلمات وصفاً وتعبيراً عن مدى الدهشة التي تمتلأ بها روحك وأنت تقف مطلاً هناك على تلك الحقول المنبسطة حيث تتخللها مجاري المياه وأشجار النخيل ومناحل العسل!
الاسم
بالنسبة لاسم القرية فتُطلق كلمة «حَيد» بفتح الحاء في اليمن، على المناطق الواقعة في مهاوي الجبال، وغالباً ما تكون في قمة جبلٍ مقطوعٍ من ثلاث جهات. وجِهَةٌ واحده فقط هي الطريق إليه، أما كلمة «الجزيل» فهي من جزل أي قوي، والجزيل ما عظم من الشيء «وربما أن اختيار هذه التسمية قد جاء من اطمئنان أهل القرية لمأمونية الموقع بارتفاعه عن المساقط الجبلية لسيول مياه الأمطار وكذا مجاريها في الوادي، وربما، أيضاً، أكثر أماناً في حال الصراعات والاعتداءات. من هذه الاعتبارات، ربما، أنطلق أهل هذه القرية في تشييد بيوتهم على سطح هذا المرتفع الصخري في أطراف وادي دوعن الأيسر».
ويعتمد سكان القرية على العيون في الحصول على مياه الشرب كما يعتمدون على الزراعة في الحصول على حاجاتهم من الغذاء بالإضافة إلى ما يتوفر لديهم من مالٍ من خلال تجارة العسل وأعمال أخرى أو تحويلات المهاجرين والمغتربين.
يتجاوز عدد بيوت هذه القرية العشرين بيتاً بات بعضها الآن خالٍ وشبه مندثر؛ فبعدما كانت تسكنها بضع عائلات ذات أنساب متقاربة، لم يعد يسكنها حاليا سوى عدد قليل من السكان تقول بعض المصادر أنهم لم يعدوا نصف ما كانوا عليه قبل عشرين عاما، مَن تبقى منهم ينتمي معظمهم لعائلة واحدة، فيما غادر القرية بعض سكانها بحثاً عن حياة أفضل في مناطق ومدن أخرى وفق مصادر هناك تؤكد أن معظم السكان، حالياً، ينتمون إلى عائلة العمودي.
العمارة الطينية
كما سبقت الإشارة تعتمد بيوت القرية نمط العمار الطينية؛ وهو نمط ينتشر في معظم مناطق وادي حضرموت (يكاد يكون أكبر أودية اليمن) ويزداد تميزاً في وادي دوعن الذي يبرز جزءاً لا يتجزأ من عمارة وادي حضرموت الكبير. فالعمارة الطينية، هنا «هي نتاج جمال وفن وحضارة المنطقة».
تعتمد هذه العمارة على موادٍ طبيعية من خامات البيئة المحلية متمثلة في الحجارة والطين والتبن وأخشاب نباتية.
وتُشيّد المنازل وفق تقاليد متوارثة تنضح بالحكمة في الاستخدام والوظيفة؛ الأمر الذي بقيتْ معه العمارة الطينية في حضرموت من أهم ملامح الحضارة هناك. وتتميز العمارة الطينية هذه؛ في قدرتها على امتصاص حرارة الشمس صيفاً ومنح التدفئة من البرد شتاء علاوة على قدرتها على مواجهة العواصف والأمطار الموسمية متى ما استمرت صيانتها سنوياً.
تبدأ العمارة الطينية بأساسات حجرية، فيما تشيّد جدران البيت من قوالب طينية يتم قولبتها من عجين طينية، وتتكون العجينة من طين يعرفه البناؤون جيداً، حيث يتم تكويم الطين وريه بالماء في مساحات خاصة في الحقول، ومن تلك العجينة الطينية التي تُخلط بالحشائش (التبن) يتم عمل القوالب التي يختلف شكلها وحجمها باختلاف حجم ومساحة البناء، وتُترك تلك القوالب لعدة أيام حتى تجف تحت حرارة الشمس، ويتم بناء الطوابق الأولى بقوالب كبيرة تظل تصغر كلما ارتفعت طوابق البناء، وتفصل الطوابق عن بعضها بسقوف تعتمد أخشابا نباتية طبيعية.
السكان
مدير فرع الهيئة اليمنيّة للآثار في وادي حضرموت عبد الرحمن السقاف أوضح لـ»القدس العربي» أن سكان هذه القرية غالبًا متقاربون في النسب، مشيرًا إلى أن بعض السكان ما زال في القرية حتى اليوم ويعيشون فيها ويمارسون حياتهم الاعتيادية مثل بقية سكان القرى في وادي دوعن، وإن كان عددهم صار قليلاً.
كما أشار إلى أن مشكلة مغادرة بعض السكان لمنازلهم ليست مشكلة خاصة بهذه القرية بل بكل قرى وادي دوعن؛ لأن معظم الناس هناك مهاجرون في الخارج، فيما مَن يبقى منهم هو مَن يتولى الزراعة ورعاية المنازل، على حد قوله.
تقرير: احمد الاغبري