كانت فيضانات إيران هذا العام مختلفة عن كل الكوارث السابقة التي مرَّت بها البلاد.
إذ كان الإيرانيون يستعدون لقضاء عطلة عيد النوروز (رأس السنة بالتقويم الإيراني)، في يوم 21 مارس/آذار، تلك العطلة التي تستمر لمدة أسبوعين، بدأت الأمطار في الهطول، فاعتقد الناس أنها بداية مبشرة لعام جديد، بدلاً من العام الماضي الذي عانوا فيه من الجفاف.
لكن الأمور سرعان ما تطوَّرت، وأصبحت الأمطار غزيرة ولا تتوقف، وبدأ المسافرون على الطرق السريعة لقضاء عطلاتهم في الذعر، وخرجت الأمور عن السيطرة تماماً.
أين منزلي؟ يبدو أنه الموجود هناك في المنتصف
ويظهر في أحد الفيديوهات حجم الفيضانات في محافظة لورستان، أكثر المحافظات الإيرانية تضرراً.
ويقف طفل صغير يسأل والدته عن منزلهم الذي أخذته الفيضانات مع باقي المنازل في المدينة، فتجيبه الأم «لا أعلم، ربما هو الذي في المنتصف».
في يوم 26 مارس/آذار، أعلن المسؤولون الإيرانيون أن الأمطار الغزيرة التي تصل إلى حد السيول ضربت محافظتي غلستان، ومازندران التي تقع بالقرب من بحر قزوين، واللتين تعتبران مقصداً سياحياً لمعظم الإيرانيين الذين يأتون إليها لقضاء عطلة عيد النوروز بهما، مما يعني أن الأمور وصلت إلى مراحل متقدمة من الخطورة، كما تم الإعلان عن تضرر حوالي 1000 منزل بالقرب من الأنهار في تلك المحافظة.
أين روحاني؟ فيضانات إيران تفجر نوبة غضب تجاه الرئيس الغائب
عندما بدأت الفيضانات تغمر مدينة آق قلا، في محافظة غلستان، كان المحافظ وقتها خارج إيران يقضي عطلته السنوية، فلجأ السكان إلى نشر صور الفيضانات على مواقع التواصل الاجتماعي، لطلب المساعدة من الحكومة والجهات المختصة، لكن ظلَّت الأمور كما هي ولم يتحرك أحد لنجدتهم.
بعد ثلاثة أيام سافر النائب الأول للرئيس روحاني «إسحاق جهانغيري» إلى المدينة لتفقد الأمور بنفسه، ولم يجد حتى المحافظ في استقباله، وقام بإقالته على الفور.
وزادت الأحاديث بين الإيرانيين على مكان روحاني وقتها، وأين هو من كل ما حدث للبلاد، لماذا لم يقم بزيارة الأماكن المتضررة من الفيضانات، وانتشرت الأخبار بأنه يقضي عطلته السنوية في جزيرة قشم الجنوبية.
انتابت الإيرانيين نوبة غضب من تجاهل روحاني لهم، دشَّنوا هاشتاغ «أين روحاني» باللغة الفارسية على مواقع التواصل الاجتماعي، وطالبه البعض بتقديم استقالته.
والحكومة فوجئت بكمية المياه
ويبدو أن غضب الإيرانيين ليس فقط من روحاني، بل من الحكومة بأكملها، فيقول رضا، أحد سكان محافظة شيراز المتضررة من الفيضانات لـ «عربي بوست»، «عندما ضربت الفيضانات محافظة غلستان، كان يجب على الحكومة وهيئة الأرصاد الجوية توقع الأماكن التالية التي سوف تغمرها الفيضانات، وتنبيه المواطنين، ولكن لم يفعل أحد أي شيء لنا، وتركونا نواجه الفيضانات بأنفسنا».
في نفس الوقت صرَّح رئيس منظمة إدارة الأزمات بأن فريقه تفاجأ بكمية الفيضانات التي ضربت البلاد، مما أثار غضب الناس أكثر.
وبعد الانتقادات التي انتشرت بسبب غياب روحاني، أعلن التلفزيون الحكومي أن الرئيس قد عاد من عطلته، وهو موجود الآن في العاصمة طهران لمراقبة فرق الإغاثة، لم يكتفِ روحاني بالعودة فقط، ولكن انتقد كل من انتقده سابقاً، ووعد بإيجاد حلول سريعة لتلك الكارثة.
في المقابل فإن الحرس الثوري خطف الأضواء
في نهاية شهر مارس/آذار 2019، أفاد التلفزيون الحكومي بأن هناك مدناً وقرى في محافظة لورستان غرقت بالكامل، وانقطعت وسائل الاتصال بها تماماً، وتعذَّر وصول عمال الإغاثة إليها.
حينها أمر المرشد الأعلى للبلاد علي خامنئي المؤسسة العسكرية بضرورة التواجد في تلك المناطق، ومساعدة الناس المنكوبة والمتضررة.
وعلى الفور استجاب الحرس الثوري الإيراني وذهب قائد الحرس محمد جعفري بنفسه إلى تلك المناطق، وانتشرت مقاطع فيديو له وهو يجوب الشوارع وسط مياه الفيضانات.
اعتقد البعض أن سرعة استجابة الحرس الثوري لأوامر المرشد، والذهاب إلى المناطق المتضررة ما هي إلا دعاية له، وتنافس مع روحاني الذي ظلَّ إلى وقت قريب في مكتبه في العاصمة، ولم يتكبَّد عناء الذهاب إلى تلك المحافظات، حسب وصف منتقديه.
ثم فجر خط سكة حديدية دون علم الرئيس
منذ إعادة انتخابه للمرة الثانية في عام 2017 بدأ الصراع بين روحاني والمؤسسة العسكرية يتأرجح، ولكن ظهر بقوة بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في مايو/أيار 2018.
بعد فترة من الوقت ومحاولات من الرئيس روحاني لتوحيد الجبهات الداخلية لحل أزمة الاتفاق النووي، رأى بعض السياسيين المحسوبين على التيار المحافظ والبعض الآخر من المؤسسة العسكرية أنه يجب التوحد قليلاً للعبور من تلك الأزمة الطاحنة.
ولكن جاءت الفيضانات لتعيد الصراع إلى السطح من جديد، عندما قام قائد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد علي جعفري بزيارة المحافظات المنكوبة جراء الفيضانات، وجد أن السبب في تفاقم الأمور، خاصة في محافظة غلستان، هو أن خط السكك الحديدية في المدينة منع مياه الفيضان من السير، وجعلها تصطدم بالمنازل.
فأمر على الفور بتفجير مسار القطارات للسماح لمياه الفيضان بالعبور بعيداً عن المنازل والمناطق السكنية، وقال قائد الحرس الثوري السابق محسن رضائي إن أمر تفجير السكك الحديدية يعتبر بمثابة انفجار الأمل، لكنه سيسمح للفيضان بالصب في بحر قزوين، ويجنب البلاد تكبّد الخسائر.
وبالفعل قام الحرس الثوري بتفجير مسارات القطارات، وتم تصوير تلك العملية ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي.
لكن يبدو أن الأمر لم يلق استحساناً من الرئيس روحاني، الذي وصف أمر التفجير بأنه لا فائدة منه، قائلاً: «لقد قمت بالتحليق فوق المنطقة، ومن طائرتي لم أر أي فائدة أو جدوى من تفجير السكك الحديدية».
وأضاف روحاني أن التفجير لم يُحدث فرقاً في أمر الفيضانات، بل إنه سيكلفنا المزيد من الخسائر.
واتهم الجنرال جعفري روحاني بأنه لا يعلم شيئاً، وفي مقطع مصور له انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي الناطقة بالفارسية قال «إن إدارة روحاني فشلت في تقديم المساعدات للناس مثلما فعل الحرس الثوري».
وقال إن الحرس الثوري سيواصل جهوده لإغاثة ومساعدة المتضررين على عكس الحكومة الضعيفة.
وبعيداً عن الصراع على أمر التفجيرات بين روحاني والحرس الثوري، هل ما حدث كان مجدياً فعلاً؟
يجيب عالم البيئة ناصر كريمي على تساؤل «عربي بوست»، ويقول: «من الأساس كان تخطيط مسارات القطارات في تلك المنطقة لا يسمح بمرور مياه الفيضانات، ولم يخطط لهذا الأمر».
وأضاف: «لكن التفجير لم يساعد تماماً في التحايل على الفيضانات، لكن في نفس الوقت كان مفيداً إلى حد ما».
الجدير بالذكر أن خطوط السكك الحديدية التي تم تفجيرها، قد بُنيت بواسطة الشركات التابعة للحرس الثوري الإيراني في عام 2013.
ومشهد قائد عسكري ملطخ بالطين يفاقم السجال
لم ينته الصراع عند هذا الحد، بل وصل الأمر بالمؤسسة العسكرية إلى إقناع المواطنين الغارقين في الفيضانات بأن الحكومة لا تفعل أي شيء، ولا يوجد منقذ لهم سوى الجيش والحرس الثوري.
وانتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع مصور تمت إزالته فيما بعد، يظهر فيه قائد قوة المشاة في القوات المسلحة الإيرانية الجنرال محمد باكبور، وقد اتسخت ملابسه كاملة بالطين، في بلدة بلدختر (واحدة من أكثر المدن تضرراً)، وهو يتحدث إلى رئيس الأركان العامة في القوات المسلحة الإيرانية، الجنرال محمد حسين باقري عبر الهاتف.
لكن الذي أثار الجدل في تلك المكالمة أن الجنرال باكبور كان ينتقد علانية روحاني وإدارته، وكان يبلغ الجنرال باقري أن الناس من حوله غاضبون للغاية وفي حالة تمرد، وإذا فكَّر أي مسؤول حكومي في زيارة البلدة سيصبّ الناس كامل غضبهم عليه.
وفي نفس الوقت زعم الجنرال باكبور في المحادثة أن قادة الحرس الثوري والجيش هم فقط المرحب بهم هنا.
وأثار الأمر استهجان إدارة روحاني، وأعلن وقتها رئيس المنظمة الوطنية لإدارة الكوارث أنه زار بالفعل المناطق المنكوبة ولم يتعرض له الناس.
وفي نفس الوقت قال مجتبى الخالدي، المتحدث باسم هيئة الطوارئ الإيرانية التابعة للحكومة لـ «عربي بوست»، إن فريقه بالكامل زار بلدة بلدختر التي كان يتحدث منها الجنرال باكبور، ومكث الفريق هناك لمدة ثلاثة أيام.
لكن في حقيقة الأمر هذا الصراع المحتدم بين المؤسسة العسكرية وروحاني ما هو إلا جزء من صورة أكبر.
ففي الأيام الأخيرة انتشر الحديث عن رغبة البعض في تحويل النظام الرئاسي في البلاد إلى نظام برلماني.
كان أول من قام بإحياء تلك الفكرة بعد أن طرحها المرشد الأعلى علي خامنئي في عام 2012، هما قادة الحرس الثوري والجيش الإيراني.
خسائر فادحة.. 28 من أصل 31 محافظة
وبعيداً عن الصراع السياسي بين المؤسسات الحاكمة في إيران، إلى الآن لم تصدر الحكومة أي تقارير رسمية بحجم الخسائر التي تكبَّدتها البلاد جراء الفيضانات المستمرة لأكثر من أسبوعين على التوالي، ولكن من حين لآخر يصرح المسؤولون الحكوميون ببعض الأرقام التي تكشف فداحة الوضع
في البداية، تم الإعلان عن أن الفيضانات ضربت 28 محافظة من أصل 31 محافظة في إيران، وأكثر تلك المحافظات تضرراً هي المحافظات الزراعية.
مصدر مسؤول داخل وزارة الزارعة فضَّل عدم الكشف عن هويته، قال لـ «عربي بوست»، إن الخسائر في القطاع الزراعي تقدر بحوالي 200 مليون دولار، ففي محافظة كرمان فقط جرفت الفيضانات حوالي 1600 كيلومتر من الأراضي الزراعية.
يقول الصحفي الإيراني أمير سلطاني لـ «عربي بوست»، إن الخسائر الأكبر كانت في محافظة خوزستان الغنية بالنفط، فقد تضرَّرت البنية التحتية الصناعية بشكل كبير، وبحسب محافظ خوزستان فإن خسائر المحافظة تقدر بحوالي 4 تريليونات ريال، أي ما يعادل 30 مليون دولار.
إنها أشد وطأة من العقوبات الأمريكية
سيما، مواطنة إيرانية، من حسن حظها أنها تعيش في العاصمة طهران، التي لم تصلها إلى الآن الفيضانات، ولكنها أيضاً تضرَّرت بسببها، فتقول لـ «عربي بوست»: «ارتفعت أسعار الخضراوات والفاكهة بشكل جنوني، ففي الأمس ذهبت لشراء بعض السلع مثل البطاطس والبصل وأنفقت ما يعادل 75 دولاراً».
ويقول سلطاني لا بد من إعادة إعمار المناطق المنكوبة على الفور، خاصة المناطق الريفية منها، «لقد فعلت الفيضانات ما لم تفعله العقوبات، فالأسعار ترتفع كل ساعة».
لكن هناك من يتوقع أن الحكومة غير قادرة على دفع كل تلك التعويضات، فبحسب سلطاني فإن الميزانية المخصصة لمواجهة الأزمات تقدر بحوالي 130 مليار ريال، أي ما يعادل مليون دولار أمريكي فقط، وهو مبلغ ضئيل للغاية أمام الخسائر.
أما بالنسبة إلى الخسائر في الأرواح، فقد أعلن التلفزيون الحكومي أنه إلى الآن تم تسجيل 58 حالة وفاة وإصابة 640 شخصاً فقط.
وأعلن المسؤولون في منظمات الإغاثة أن الفيضانات تسببت في قطع الاتصال ببعض المدن، وعدم قدرة عمال الإغاثة على الوصول إلى تلك المناطق، مما تسبب في غرقها بالكامل.
إجلاء قسري ونزوح إلى المخيمات
وأعلنت هيئة الأرصاد الجوية الإيرانية أمس، أنه من المتوقع أن تضرب الفيضانات محافظات أخرى في إيران، مما جعل الجيش الإيراني يتحرك على الفور لإجلاء تلك المحافظات.
ولقد قاوم بعض السكان عمليات الإجلاء، في حين اضطر البعض الآخر إلى النزوح إلى المخيمات.
وقام الإيرانيون في المحافظات الأقل تضرراً بفتح أبواب منازلهم أمام النازحين، وتدشين حملات إنسانية لمساعدتهم، وتقديم الطعام والملابس لهم، مما دفع المرشد الأعلى للثناء على تلك المبادرات.
لا تصلنا أي مساعدات والعقوبات هي السبب
في عامي 2000 و2003 ضرب إيران زلزال مدمر، وحينها تلقَّت إيران المساعدات الدولية من كل الجهات والمنظمات، بالرغم من أنها كانت تحت طائلة العقوبات الأمريكية والأوروبية.
وبالرغم من أن حجم الأضرار الناجمة عن الفيضانات الحالية أكبر بكثير من أي كارثة مضت، إلا أن إيران لم تستطع الحصول على أي مساعدات دولية.
وكتب وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في تغريدة على موقع تويتر «إن ترامب ينتهك قرار مجلس الأمن رقم 2231، ويعوق المساعدات الدولية لإيران»، ووصف ظريف الأمر بأنه ليس حرباً اقتصادية، بل إرهاباً اقتصادياً.
وفي الوقت نفسه قال رئيس الهلال الأحمر الإيراني علي أصغر بيوندي، إن العقوبات الأمريكية تمنع الاتحاد الدولي للصليب الأحمر والهلال الأحمر من إرسال المساعدات المالية إلى إيران، بسبب العقوبات المفروضة على النظام المصرفي الإيراني.
ودولة واحدة فقط ساعدت إيران، بينما امتنع الصليب الأحمر
ويقول رضا حسيني، أحد المسؤولين في منظمة الهلال الأحمر الإيراني لـ «عربي بوست»: «كان لا بد أن يُعفى الهلال الأحمر ومنظمات الإغاثة الإيرانية من العقوبات الأمريكية، وقد خاطبنا الاتحاد الدولي للصليب والهلال الأحمر للعمل على حل تلك الأزمة، ولكننا إلى الآن لم نتلق أي حل».
ويضيف حسيني أنه حتى إذا أراد الإيرانيون المقيمون في الخارج التبرع لا يمكنهم ذلك بسبب العقوبات.
وعندما اتهم ظريف الولايات المتحدة بإعاقة جهود الإغاثة، خرج وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ونفى هذا الاتهام، قائلاً: «الولايات المتحدة مستعدة لتقديم المساعدات لإيران».
لكنه استدرك قائلاً: «إن سوء الإدارة الإيرانية هو السبب في تلك الكوارث».
يذكر أنه في عام 2003 عندما ضرب إيران زلزال مدمر بقوة 7 درجات على مقياس ريختر، أرسلت الولايات المتحدة فرقاً ومروحيات إنقاذ، وأقامت مستشفى ميدانياً لعلاج المصابين.
ولكن إلى الآن لم تتلق إيران أي مساعدات دولية سوى من تركيا، التي قدمت قوافل مساعدات إنسانية للمتضررين.