في رقعة شاسعة ومفتوحة من سهول زامبيا، وقفت عربة جيب محملة بأطفال فقراء قدموا ليروا الأسود لأول مرة عن قرب. رأى الأطفال الأسود قبل أن ترى الأسود الأطفال.
نهضت هذه القطط الكبيرة من بين الحشائش الطويلة ذات الألوان الذهبية والخضراء، بعد أن أيقظتها الجلبة التي أحدثوها؛ فتثاءبت، وتمطت، وتنفست نسيم الهواء، ومدَّت بصرها نحو السهول النهرية الشاسعة التي تشكل مملكتها.
ومع بزوغ الشمس، تحوَّلت السماء من اللون الأسود إلى اللون الخوخي الهادئ، لكن اليوم الجديد كان قد بدأ فعلياً مع الحشرات الغامضة.
هزَّ الأسد الأضخم من أسدين يافعين رأسه الأشعث، وأطلق زئيراً يهز الأشجار، ليعلن عن استيقاظ هذا الحيوان اللاحم.
تردَّد صدى الزئير عبر البراري: لقد استيقظت الأدغال.
صاح الأطفال في إثارة منفلتة «شومبا، شومبا». نظر إلينا الـ «شومبا» -وهي كلمة تعني أسد في إحدى لغات البانتو التي يتحدثون بها هنا في مناطق وسط زامبيا- نظرة لا مبالاة تعبر عن مكانته الملكية في الأدغال.
قال نيوتن مورينغا، المرشد من نُزل Shumba Camp لصحيفة The Daily Telegraph: «الأسود تعتقد أننا ومركباتنا شيء واحد، لذا إذا بقينا ساكنين وهادئين سيكون كل شيء على ما يرام».
وهو أمر غير محتمل الحدوث مع الأطفال. صاح الأطفال مرة أخرى: «شومبا، شومبا!».
كانت أسنان الأسود الحادة ظاهرة كلياً من المقاعد الأمامية في سيارة الجيب التي كنا فيها، واهتزت الأرض تقريباً عندما زأرت الأسود.
لعل تلك اللحظة كانت هذه أكثر لحظة مثيرة في حياة الأطفال.
فنادق إفريقية تنظم رحلات للأغنياء ليختبروا البرية برفاهية
يعتبر نُزل Shumba Camp واحداً من 39 مكاناً حول إفريقيا تملكها شركة Wilderness Safaris، وجميعها تُسوّق من أجل الأغنياء الذين يريدون الانخراط في تجربة السياحة في إفريقيا، وفي الوقت ذاته حماية أنفسهم من مأساة الحياة البدائية، والتعرض لموت مفاجئ في الأدغال.
يستيقظ الضيوف في الفجر من أسرَّتهم ذات الطراز الكولونيالي والمغطاة بالمظلات، ليطيروا في مناطيد فوق أسراب مكتظة بالحيوانات، بينما يحتسون الشامبانيا في مكان مرتفع عن الأرض.
صمم هذا المكان النائي مصمم بارع -ويقع تحديداً في جزيرة ممتلئة بالأشجار في سهول بوسانغا- على طراز معاصر، لكنه لا يُغفِل اللمسة الاستوائية.
لكن رحلات السفاري لا تمثل القصة كلها.
وتستقبل الأطفال المحرومين للتوعية بضرورة حماية الحيوانات
تغلق شركة Wilderness Safaris نُزل Shumba Camp والأنزال الأخرى أمام النزلاء الذين يدفعون ثمن الإقامة، ويملأون أشباه الفنادق هذه بدلاً من هذا بالأطفال المحرومين القادمين من المجتمعات المحلية، ضمن مبادرة تديرها منظمة Children in the Wilderness، وهي منظمة خيرية تضطلع بمهمة جادة.
لا تختلف شركة Wilderness Safaris عن باقي الشركات التي تدير رحلات السفاري، التي زادت درجة الإحباط لديها بسبب فشل قادة إفريقيا في فرض حملة نظام للحد من عمليات الصيد غير المشروع، التي تهدد الأسود وحيوانات وحيد القرن والفيلة بالانقراض.
والآن، تقود الشركة جبهة هذه المساعي من خلال برنامج طموح يرمي إلى كسب قلوب وعقول الجيل القادم من أبناء القارة السمراء.
هذه الحيوانات ستصبح مصدر رزقهم عندما يكبرون
وتستهدف الشركة أن تربي لدى هؤلاء الأطفال فهماً، بأن بقاء الحياة البرية في إفريقيا يقع على عاتقهم، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بأرزاقهم.
فإذا اختفت الحيوانات الكبيرة، سوف يختفي معها الزوار الذين يشكلون مصدر تمويل اقتصادهم المحلي، وسوف يخسرون معها الوظائف، والطرق، وبقية البنى التحتية التي يمكنها أن تزدهر في النهاية عن طريق السياحة البرية التي تدار بصورة جيدة.
لم يسبق لغالبية هؤلاء الأطفال أن رأوا حيوانات في البرية.
وحتى هؤلاء الذين شاهدوها من قبل يعانون من الصدمة من تجاربهم السابقة، نتيجة للصراعات العنيفة التي شاهدوها بين الإنسان والحيوانات مثل الفيلة التي أغارت على المحاصيل فأطلق القرويون النار عليها.
لذا، ألهمت هذه الأمور أن يخرج إلى النور هذا البرنامج التعليمي، الذي يستغل أماكن الإقامة والمرافق الموجودة بالفعل.
ومنذ عام 2001، تنظم شركة Wilderness Safaris صفوفاً تعليمية في مئات المدارس المحيطة بفنادقها حول حماية البيئة؛ وهذه المجموعة الحاضرة اليوم، والتي تشعر بالإثارة من التجربة، هم التلاميذ الأكثر تقبلاً وتجاوباً مع هذا البرامج، فيجري انتقاؤهم من أجل خوض تجربة العمر هذه.
حتى النمل يحتاج للحماية والمعاملة اللطيفة
ولكن هل يستوعب هؤلاء الرسالة؟ خلال الرحلة عبر هذا المحيط الزامبي الشاسع من الحشائش البكر الرائعة، توجه الأطفال بحثاً عن حيوان وحيد القرن، قبل أن ينحدروا نحو مسار موحل في منتزه كافو الوطني، مخلّفين وراءنا زوبعة من الطين.
لاحظ نيوتن أمامه جيشاً من النمل الأسود يعبر المسار في طابور فردي منضبط.
أبطأ نيوتن سرعة السيارة، لأنه لم يكن راغباً في سحقه تحت عجلاتها.
استطاع الأطفال مشاهدة النمل حينها، وبدأوا في ترديد نشيدهم.
غنَّى الأطفال قائلين: «كيتاوا بنجاما» (أي: اللطف تجاه الحيوانات). انتظرنا حتى عبر النمل بأمان ثم مضينا في طريقنا.
هؤلاء الأطفال يعيشون بلا ماء أو كهرباء
كان هناك 24 طفلاً في نُزل Shumba Camp، وتراوحت أعمارهم بين 11 و13 عاماً، وكان نصفهم من الصبية والنصف الآخر من الفتيات.
جاء هؤلاء من مدرستين ابتدائيتين في قريتي كاماكاتشي وجيفومفا، اللتين تبعدان 150 ميلاً جنوباً.
كان الظلام لا يزال مُخيماً على المكان عندما غادروا منازلهم البدائية، حيث ينامون على الأرض الممزوجة بروث الأبقار مع بقية أشقائهم الذين يصل عددهم إلى 15 شقيقاً.
يسير بعضهم 6 أميال عاري القدمين ليصل إلى المدرسة. ولا تحتوي منازلهم على كهرباء ولا مصدر مياه دائم، بل مجرد بئر تقف العائلات أمامه طوابير ومعها دلائها.
تغسل النساء الملابس في أحد روافد نهر زمبيزي، حيث يَتَّمَت التماسيح المختبئة في المياه الضحلة كثيراً من الأطفال.
وتتكون وجبات الطعام من ثريد الذرة، وعندما يمرض أحد الأشخاص يحين دور طبيب القبيلة ليقدم الأمل عن طريق وصفاته الصالحة لجميع الأمراض (مُمثلة في التوت المسلوق واستحضار الأرواح).
يبعد أقرب مركز طبي 80 ميلاً عن المكان، وتكلف الزيارة أموالاً لا يملكها هؤلاء الناس.
لا يعرف معظمهم طعم البيض والدجاج
يضرب صموئيل سياماس نغنا مثالاً على هذا الحال. إذ تعيش أسرته على دخل أسبوعي أقل من 32.6 دولار، يحصلون عليها من بيع الدجاج مقابل 2.62 دولار للدجاجة الواحدة في السوق.
لم يأكل صموئيل البيض على الإطلاق قبل أن يأتي إلى نُزل Shumba Camp، لأن البيض الذي اعتاد أن يراه يجب أن يفقس كي يباع الدجاج.
طلب صموئيل بتوترٍ مع أول تذوق للبيض وهو يمسك بالطبق مثل أوليفر تويست: «هل يمكنني أن أحصل على المزيد؟» استحثه جيمس موانغا، أحد المعلمين في النزل قائلاً: «تناول طعامك. كلما تأكل أكثر ترى أكثر».
فسر بهدوء المغزى وراء العبارة: «لا يمكنك أن تُعلِّم طفلاً جائعاً، والتعليم هو سلاحنا الوحيد من أجل التغيير. إننا نحافظ على ما نحب، لذا نعلم هؤلاء الأطفال أن يحبوا الطبيعة».
حتى النوم على سرير رفاهية لا سابق لها
ثمة كثير من الأشياء التي يجربها هؤلاء الأطفال لأول مرة.
وكان استخدام الملاعق والسكاكين الفضية واحداً من هذه الأشياء -لأنهم يأكلون عادة بأصابعهم- ولكن كانت هناك أيضاً بهجة النوم على سرير لطيف، واستخدام الأغطية الوثيرة، وتجربة الطعام الرائع، واستخدام المراحيض النظيفة؛ وهي أشياء اتسعت عيونهم بالبهجة وامتلأت أفواههم بالضحك عند مشاهدتها.
استحوذت إحدى المعجزات على أحد الصبية، لدرجة أنهم اضطروا لإيقافه بهدوء عن فتح صنابير المياه مراراً وتكراراً.
ثم حان وقت تجربة أماكن الإقامة: 7 أكواخ مصنوعة من القماش بين نخيل التمر، مع شرفات خاصة، وأرضيات خشبية مصحوبة بأحواض نحاسية لامعة، إضافة إلى أماكن استحمام داخلية وخارجية.
لم ير الأطفال مثل هذه الرفاهية من قبل، ما يصير تساؤلاً في الذهن عن المشاعر المعقدة التي أثارها عالمٌ يختلف اختلافاً جذرياً عن عالمهم.
وقد مُنحوا أيضاً فور وصولهم زياً موحداً أنيقاً يتكون من قميص برتقالي فاتح، ورباط رأس ملون، وقبعة عريضة الحواف، إضافة إلى قلم رصاص ومفكرة ليكتبوا فيها عن الحيوانات التي شاهدوها.
والهدف هو أن يروا بأعينهم طرق الحياة الأخرى
كان هناك دروس حول تعريف الحياة البرية، ودورة الحياة، واختيار المسار المهني، والعمل في فريق، حيث كان أحد الصفوف حول لعبة تنتهي بفوز أحد المتنافسين، وقد مارسها الأطفال بأسلوب ذي إسقاط تراجيدي على حياتهم الخاصة.
وُضعت 4 ورقات A4 على الأرض، وكان على الأطفال أن يتخيلوا أنها زنابق ماء تقدم لهم ممراً آمناً عبر النهر الذي تنتشر فيه التماسيح.
كان على الفريق أن يجد طريقة ليساعد كل عضو فيه العضوَ الآخر من دون أن «يُلتهم»، حسبما أوضحت اللعبة إيضاحاً نابضاً بطبيعة حياة المكان.
وفي ورشة عمل تحديد المسار المهني، دُعي الصبية والفتيات -الذين لم يروا تقريباً من قبل سيارات في هذه المناطق النائية- ليجلسوا خلف مقود إحدى السيارت، ويشغلوا المحرك، ويزيدوا السرعة من خلال الضغط بأقدامهم على دواسة البنزين؛ وهو شيء فعلوه باندهاش وبهجة.
كان النزل يهتز كل يوم بأغانيهم وقرع طبول الرقص القبلي.
قال شوفاني تانيفينيا، وهو معلم آخر: «نريد أن يحظى الأطفال بالمرح. ولكن أن يدركوا أيضاً أن هناك طريقة أخرى للحياة. نريد منحهم رؤية لماهية الممكن».
والمنظمات البيئية تعمل على تغيير المستقبل طفلاً تلو الآخر
على مدى حياتها البالغة 17 عاماً، أثرت منظمة Children in the Wilderness في حياة عشرة آلاف طفل، وساعدت في تحمل مصروفات الدراسة الابتدائية والتعليم الجامعي. كما مولت أكثر من 10 برامج دكتوراه.
وكثير من خريجي برامج Children in the Wilderness وجدوا أيضاً وظائف في النزل، تتنوع بين مرشدين سياحيين، وطهاة، ومديرين، وعمال.
وتستثمر شركة Wilderness Safaris في المجمل 2.61 مليون دولار في مشروعات تتنوع بين حفر الآبار من أجل المدارس وتقديم وجبات من الذرة والفاصوليا خلال أوقات الراحة، وهي بالنسبة لبعض الأطفال الوجبة الوحيدة التي يتناولونها.