مسييه M87

الكشف عن أول صورة لـ "ثقب أسود" في تاريخ علم الفلك (فيديو)

ربيع أوسبراهيم- فرانس 24

كشف علماء الفيزياء الفلكية الأربعاء أول صورة لثقب أسود في الفضاء. أكثر من مئتي عالم شاركوا في هذا الإنجاز غير المسبوق في تاريخ البشرية، الذي قد يساعد على فهم أفضل للكون. وعقدت الأربعاء ستة مؤتمرات صحفية متزامنة عبر العالم للكشف عن صورة هذا الثقب الموجود في قلب مجرة على بعد نحو 54 مليون سنة ضوئية عن الأرض.

هي خطوة كبرى للإنسانية لفهم أفضل للكون. علماء الفلك ينتظرون هذا الإعلان منذ سنتين تقريبا. يتعلق الأمر أيضا بإنجاز تقني وتكنولوجي عظيم... لأول مرة، تم التقاط صور لثقب أسود يقع في مركز مجرة M87 على بعد نحو 54 مليون سنة ضوئية عن الأرض. وتقدر كتلته بأكثر من 6,5 مليار كتلة شمسية.

وخلف هذه الصورة، أجوبة لأسئلة جوهرية ومفاتيح أسرار الكون.

معنى الثقب الأسود

الثقوب السوداء أجسام موجودة في الكون مثل النجوم والأجرام الأخرى. كان ألبرت أينشتاين قد تنبأ بها قبل أكثر من قرن من الزمن عبر نظريته النسبية العامة، والتي شرحت ظاهرة الجاذبية بمفهوم جديد. تأكد العلماء من وجود تلك الثقوب فعلا مع مرور السنوات.

وتمثل الثقوب السوداء أجساما هائلة الثقل تفوق كتلتها بكثير كتلة نجمنا الشمس. أضخم تلك الثقوب السوداء توجد في قلب المجرات. ففي وسط كل مجرة هناك ثقب أسود عظيم أو ثقب فائق الضخامة.

news://<iframe width="330" height="186" src="https://www.youtube.com/embed/hMsNd1W_lmE" frameborder="0" allow="accelerometer; autoplay; encrypted-media; gyroscope; picture-in-picture" allowfullscreen></iframe>

جاذبية الثقوب السوداء هائلة، لا يمكن تصورها. لا يمكن لأي شيء يمر من قربها الهرب والإفلات منها. إذ تلتهم الثقوب السوداء كل النجوم والكواكب وأي نوع من المادة أو الطاقة وتجرها إلى قلبها. حتى الضوء لا يمكنه الخروج من تلك الثقوب، ولهذا نصفها بالسوداء أو المظلمة. فهي عكس النجوم، لا تشع ولا ترسل أي ضوء.

ثقوب مظلمة يمكن رؤية ظلها..

لا يمكن رؤية قلب الثقوب السوداء. لكن، قد يظهر شكلها عبر ما يدور حولها. فعندما يقترب أي جسم منها يتم جذبه إلى دائرة تدور حول الثقوب السوداء بسرعة هائلة كما قد تفعل بالوعة مع الماء في مطبخك أو حمامك. ذلك ما يسمى بالقرص التراكمي الذي يزود الثقب الأسود بالمادة. وما إن تصل تلك المادة إلى ما يسمى بأفق الحدث، Event Horizon، وهي مسافة محددة من الثقب الأسود، يتم جر الجسم بقوة عظيمة، ويتفكك بشكل هائل قبل ابتلاعه بدون رجعة. ينتج عن تفكك المادة الهائل حول الثقب الأسود أشعة سينية (أشعة X) يمكن رصدها من على كوكبنا.

رصد تلك الأشعة السينية ليس بالأمر السهل. فلتصوير محيط أو ظل ثقب أسود عظيم، كان على الإنسان اختراع تيليسكوب أو مقراب يبلغ حجمه حجم الكرة الأرضية بأكملها، وهذا أمر مستحيل. وجد الباحثون حلا عبر خلق شبكة من التلسكوبات عبر الكرة الأرضية. تلك الشبكة تتكون من ثمانية تلسكوبات راديوية تتوزع عبر فرنسا وغرينلاند وأنتارتيكا وتشيلي والمكسيك والولايات المتحدة وهاواي وإسبانيا أطلق عليها اسم Event Horizon Telescope أو "مقراب أفق الحدث".

<iframe width="330" height="186" src="https://www.youtube.com/embed/Pebeogdeui0" frameborder="0" allow="accelerometer; autoplay; encrypted-media; gyroscope; picture-in-picture" allowfullscreen></iframe>

راقبت التلسكوبات الثمانية عام 2017 الثقب الأسود في مجرة M87 في وقت متزامن وبشكل شديد الدقة بفضل ساعة ذرية. خلال العامين الماضيين، تم تحليل الكم الكبير من المعلومات التي تم استقاءها بمساعدة برامج كمبيوتر خوارزمية للتأكد من صحتها وإزالة كل الشوائب التي قد تشوش على مصدر الأشعة التي تحيط بالثقوب السوداء. وساعدت الحواسيب على إعادة تشكيل الصورة الحقيقية للثقبين الأسودين.

بعد عامين من العمل المضني، توصل إذن الباحثون إلى هذه الصورة الحقيقية اللتي تظهر شكل الثقب الأسود في قلب مجرةM87.

نظرية أينشتاين على المحك…

الصورة التي تم استقاءها تمثل أهمية كبرى. فبشكل عام، الإنسان كائن يثق بما تراه عيناه. اليوم، يمكن لكل البشر أن يقولوا إن لدينا صورة حقيقية لثقب أسود.

أما من الجانب العلمي، الصورة قد تمثل ثورة في المفاهيم. فقبل التقاط هاتين الصورتين الحقيقيتين، تصور العلماء شكل الثقوب السوداء ونسجوا تخيلا لما يمكن أن تبدو عليه. مثال على ذلك تم استعماله في الفيلم الأمريكي الشهير Interstellar الذي تطرق لتصرف المادة عن وصولها للثقوب السوداء.

هذا التصور لم يأت من عدم، بل انطلق من حسابات رياضية تستند على نظرية النسبية العامة لأينشتاين بشأن ظاهرة الجاذبية. هذه النظرية تشرح بشكل جيد كل ما يحدث من حولنا من جاذبية وبالتالي حركة النجوم والكواكب في الكون. لكن الباحثين كانوا ينتظرون إعلان اليوم للجواب على السؤال التالي: هل نظرية أينشتاين تعمل حقا عندما يتعلق الأمر بالثقوب السوداء؟

كان ذلك بمثابة الامتحان الأصعب لنظرية النسبية العامة لأينشتاين. ففي الثقوب السوداء، قوة الجاذبية تبلغ درجات هائلة، تمثل حدا أقصى يمكن ألا تكون فيه نظرية أينشتاين صالحة. لم يكن لدى العلماء إمكانية المقارنة بين ما هو نظري وما هو فعلي في الثقوب السوداء قبل التقاطهم للصور التي نشرت اليوم. والجواب على السؤال كان نعم، بحسب العلماء. إذ تؤكد الصورة الحسابات النظرية. يمكن لأينشتاين أن يرقد مرتاحا في قبره..

هذا الإنجاز يفتح أيضا نافذة على أحد أهم الألغاز التي تحير العلماء منذ عقود من الزمن. ألا وهي العلاقة بين النظريتين اللتين تنظمان الكون. نتحدث هنا عن نظرية النسبية العامة التي تنظم الفضاء اللامتناهي في الكبر. ونظرية ميكانيكا الكم التي تشرح عمل المادة اللامتناهية الصغر، أي عمل الذرة ومكوناتها.

لحد الآن، وعلى الرغم من العمل الدؤوب للعلماء، لم يتمكن الإنسان من إيجاد علاقة بين النظريتين غير المنسجمتين. باكتشاف صورة لمحيط الثقوب السوداء وبفهمنا لحدود صلاحية نظرية النسبية العامة، يمكن للعلماء أن يكتشفوا هذه الحلقة المفقودة التي قد تجمع نظرية أينشتاين بنظرية ميكانيكا الكم.

الباحثون يعدون بمزيد من الإعلانات في الأسابيع والأشهر المقبلة. لكن الإنسان لا يزال بعيدا عن فهم ما يحدث للمادة عندما تدخل الثقوب السوداء. ما مصيرها وإلى أين تذهب؟ لا أحد لحد الآن لديه جواب علمي شاف.