لكن هؤلاء النسوة كنَّ أولئك اللائي يعملن لمدة 14 ساعة يومياً في إيست إند بلندن، واللائي كنَّ معرضات للأبخرة الفوسفورية المميتة يومياً.
وكان عملهن مع الفسفور الأبيض -الذي كان يُضاف إلى أطراف أعواد الثقاب حتى يصبح بالإمكان إشعالها «عند الاحتكاك بأي سطح»- شديد السمية، ويسبب المرض المدمر المعروف باسم «غرغرينا الفك«.
وهو لقب أطلقه العاملون في صناعة أعواد الثقاب على هذا المرض البغيض المعروف بـ «النخر الفسفوري للفك»؛ إذ إنه حرفياً يتسبب في تعفُّن عظام الفكِّ.
وسرعان ما بدأ الأطباء في علاج هؤلاء النسوة من هذا المرض، الذي ينتشر غالباً إلى المخ ويؤدي إلى موت مؤلم ورهيب، ما لم يُزل الفك. وحتى حين يُزال لم يكن استمرار الشخص المصاب في البقاء على قيد الحياة مضموناً.
ولكن مع أن المخاطر كانت واضحة كانت تلك طبيعة العمل في ظل الثورة الصناعية، قبل أن يصبح أصحاب العمل ملزمين قانوناً بتهيئة ظروف عمل آمنة.
وهذا يعني أن النساء اللائي يتقاضين أجوراً منخفضة كنَّ يواصلن العمل لساعات طوال، فيما يتعرضن للتأثير السام للفوسفور الأبيض، والعواقب المدمرة على صحتهن التي قد تترتب على ذلك.
حقوق المرأة
كان العديد من هؤلاء النساء يعملن لدى شركة Bryant and May (وهي لا تمت بصلة لشركة Bryant and May الحالية التي تعمل أيضاً في صناعة الثقاب)، وكنَّ مهاجرات أيرلنديات.
كن يعشن في فقر مدقع، وفي مساكن قذرة غير صالحة للاستخدام الآدمي، وكن في أغلب الأحيان يقضين ساعات طوال من العمل الشاق. ولكن على الرغم من الاستغلال المتواصل، والأجور المنخفضة والغرامات المُبالغ فيها، التي تصل إلى الفصل من العمل، لمجرد تأخر إحداهن أو إسقاطها لعود ثقاب أو تحدثها إلى الآخرين، اضطررن لمواصلة العمل في ظل هذه الظروف العصيبة، ولكن دوام الحال من المحال.
العبودية البيضاء في لندن.. فضح ما يتعرضن له
إذ فضحت آني بيزنت، وهي اشتراكية معروفة، ظروف العمل داخل المصنع في مقالها White Slavery in London «العبودية البيضاء في لندن».
وأثار ذلك غضب أصحاب المصانع، وحاولوا إجبار العاملات على التوقيع على ورقة تفيد أنهن سعيدات بظروف عملهن. ورفضت النساء الامتثال وبعد إقالة إحداهن، قررن أن يتحركن. وبالفعل، شاركت 1400 امرأة وفتاة في إضراب.
في نهاية المطاف، رأت عاملات الكبريت جميع مطالبهن تتحقق، ولكن ما يبعث على الإحباط أن الفسفور الأبيض لم يصبح غير قانوني في صناعة الثقاب حتى عام 1906، أي بعد حوالي 20 عاماً، وقضى هذا المنع على المرض في المملكة المتحدة.
وبالمثل، في الولايات المتحدة، فضلت الحكومة فرض «ضريبة عقابية» على ثقاب الفسفور الأبيض، وكانت الضريبة مرتفعة للغاية، مما جعل تصنيعها غير ذي جدوى.
الأدوية الحديثة
كان يُعتقد أن الممارسات الحديثة المتبعة في العمل أنهت مرض «غرغرينا الفك»، ولكن في أحد تقلبات القدر، أعاد الطب المعاصر هذا المرض إلى الواجهة من جديد. إذ من الممكن أن تتسبب مجموعة من العقاقير المعروفة باسم بيسفوسفونات، والتي يشيع استخدامها في علاج السرطان وتقليل تأثير هشاشة العظام، في تدهور حالة الفك.
ينخفض الخطر نسبياً ويصبح العلاج أقل خطورة في حال العناية الجيدة بالفم والأسنان والفحوص المنتظمة والعلاج بالمضادات الحيوية، لكن هذا الأمر يوضح كيف أن تطوير طرق جديدة ومبتكرة لعلاج الأمراض -التي من المفترض أنها تعمل على تحسين ظروف الحياة وإطالة الأعمار- يمكن أن يسبب مشاكل أخرى عن غير قصد.
تخبرنا مأساة الفتيات العاملات في صناعة الثقاب والعديد من أمثالهن عن الظلم الاجتماعي الذي ساد عبر التاريخ، ولكن ما يبعث على الإحباط أن هذه المعاناة لا تزال حاضرة في المجتمع اليوم.
إذ تشير الأبحاث إلى أن العاملين في المستشفيات لا يزالون يتعاملون مع آلام النساء بصورة أقل جدية، مقارنة بتعاملهم مع آلام الرجال، وإلى أن وقتاً قليلاً يُنفق على علاج النساء اللائي يزيد احتمال تشخيص حالاتهن تشخيصاً خاطئاً.
لم تعد النساء على استعداد لقبول تردّي الحالة الصحية باعتباره نتيجة لا مفرّ منها لحياة القهر التي يعشنها.
واليوم، لا بد أن نستمر في تعزيز المساواة بين الجنسين، إذا أُريد لأطفالنا وأحفادنا أن يعيشوا حياة هنيئة ومُرضية. ولتحقيق ذلك، نحتاج إلى أن نتحلى بالقوة والشجاعة مثل عاملات الكبريت، لنتحرك ضد المنظومات القهرية التي لا تزال حاضرة في المجتمعات الذكورية.