تحليل: عربي بوست
على مدار ربع قرن، شكَّلت الولايات المتحدة علاقات السودان مع العالم الخارجي. إذ روَّجت واشنطن للسودان باعتباره دولة راعية للإرهاب، وأطلقت صواريخ كروز على مصنع في العاصمة الخرطوم، وفرضت عقوباتٍ على خلفية جرائم الحرب في دارفور.
لكن الآن بعد رحيل الرئيس السابق عمر البشير الذي حكم السودان طويلاً وأطاح به جنرالاته عقب أشهر من الاحتجاجات القوية في الشوارع، فإنَّ الولايات المتحدة غائبة إلى حدٍ كبير عن الانخراط الدولي مع السودان في اللحظة ذاته الذي بات فيه مستقبل البلاد لقمةً سائغة، بحسب تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
تدخل خليجي قوي
وتدخَّلت دول الخليج القوية، مُلوِّحةً بمليارات الدولارات في صورة مساعدات وبالقوة الدبلوماسية رفيعة المستوى، في محاولةٍ لقلب الموازين لصالح جنرالات السودان، الذين يقاومون مطالب المحتجين المتعلقة بالحكم المدني الفوري. وفيما يتجادل قادة الاحتجاج والجنرالات بشأن مَن ينبغي أن يدير البلاد، لم يُقدِّم المسؤولون الأمريكيون إلا كلاماً مُبتذَلاً بشأن دعمهم لسودانٍ ديمقراطي.
ويدل غياب الانخراط هذا على توجهٍ أوسع نطاقاً في الدبلوماسية الأمريكية، حيث فشل الرئيس ترامب في ملئ المناصب الرفيعة الشاغرة بوزارة الخارجية وعبَّر عن ازدرائه للتدخُّل الأمريكي في الخارج.
قال بايتون نوبف، وهو دبلوماسي أمريكي عمل في السودان في عهد إدارة الرئيس جورج بوش الابن، إنَّ الولايات المتحدة في زمنٍ آخر كانت لتعقد لقاءً رفيع المستوى مع الحلفاء المتشابهين معها فكرياً عقب إزاحة البشير من أجل رسم خارطة طريق للديمقراطية في السودان.
لكن في هذا العصر، تأخر الرد الأمريكي كثيراً جداً عن ردود الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي.
قال نوبف: «هذه هي أهم التحوُّلات الجيوسياسية في منطقة القرن الإفريقي منذ فترة ما بعد الحرب الباردة. آنذاك، كانت الولايات المتحدة هي التي شكَّلت الهيئة التي بدت عليها تلك البيئة، سواء كان للأفضل أو للأسوأ. لكن الآن لا يوجد ما يدل على أنَّ الولايات المتحدة تتعامل مع تغييراتٍ بمثل هذا الحجم التاريخي بنفس قدر الاهتمام أو حتى قريباً من هذا القدر».
وبحسب الصحيفة الأمريكية، أمسكت كلٌ من السعودية والإمارات بزمام المبادرة في السودان، وهما اللتان تعهَّدتا نهاية الأسبوع الماضي بحزمة مساعدات بقيمة 3 مليارات دولار، تضمَّن ضخ 500 مليون دولار نقداً وتحويل مواد غذائية ووقود وأدوية. وسافرت خمس مجموعات معارضة سودانية، بينها العديد من الفصائل المسلحة، إلى العاصمة الإماراتية أبوظبي لعقد مباحثات بشأن الانضمام إلى حكومة يقودها الجيش.
الدعم الدبلوماسي المصري
وقدَّمت مصر، الحليف المقرب للسعوديين والإماراتيين، يوم الثلاثاء 23 أبريل/نيسان دعماً دبلوماسياً عن طريق هندسة مشروع قرار في الاتحاد الإفريقي يمدد المهلة الممنوحة لجنرالات السودان من أجل تسليم السلطة من 15 يوماً إلى ثلاثة أشهر.
وهذه التحركات المُنسَّقة نموذج للسياسة التي تقودها السعودية في المنطقة، التي تُفضِّل المستبدين المدعومين من الجيش على الانتفاضات الشعبية والحركات الديمقراطية. وفي السودان، ولَّدت مثل هذه المناورات ارتياباً عميقاً بين المحتجين الذين يخشون إحباط ثورتهم.
فانطلقت هتافات «لا نريد مساعدتكم» يوم الإثنين وسط حشدٍ من المحتجين المعتصمين خارج مقر الجيش السوداني، بعد يومٍ واحد فقط من إعلان حزمة المساعدات البالغة 3 مليارات دولار.
ويشعر الخبراء بالقلق من أنَّ التدخُّل الذي تقوده السعودية يُمثِّل سبيلاً للفوضى، في ظل وجود إمكانية لتمزيق الوضع السياسي الهشّ في السودان أو تعزيز حرب الوكالة بين المتنافسين الإقليميين. ففي حين يدعم السعوديون جنرالات الجيش السوداني، تصطف قطر وتركيا إلى جانب إسلاميي البلاد.
ويخشون من أنَّ إدارة ترامب، إمَّا بلامبالاتها أو مناصرتها للحلفاء السلطويين –السعوديين، والإماراتيين، والمصريين- لن تفعل شيئاً يُذكَر لمنع هذا.
«خطف الثورة»
فقال زاك فيرتين، المسؤول السابق بإدارة أوباما الذي عمل على شؤون السودان ومؤلف كتاب حديث عن جنوب السودان: «لن يكون فقط من المحبط أن نرى اختطاف الثورة الذاتية للشعب السوداني تُختَطَف من جانب أجندات أجنبية، بل وسيكون الأمر كذلك مُزعزِعاً بقوة للاستقرار. لا يمكن أن يكون السودان ساحة معركة أخرى لحرب وكالة أكبر بين خصوم الشرق الأوسط».
وسافر ياسر عرمان، نائب قائد إحدى الحركات المتمردة التي تقاتل الجيش السوداني في جبال النوبة، مؤخراً إلى أبوظبي للقاء المسؤولين الإماراتيين.
وقال: «لسنا راضين عن الدور الأمريكي. عليهم فعل المزيد للانخراط مع الشعب الذي قام بالثورة».
وتُمسك الولايات المتحدة ببطاقة قوية في السودان تتمثَّل في تصنيف الإرهاب. فمع أنَّ واشنطن رفعت العقوبات عن السودان عام 2017، يعيق التصنيف الإرهابي الذي فُرِض منذ عام 1993 الاستثمارات من الغرب ويحرم البلد من تلقّي المساعدات المالية المطلوبة بشدة مثل الإعفاء من الديون أو الحصول على خطة إنقاذ من صندوق النقد الدولي، بحسب الصحيفة الأمريكية.
ولم تُسلِّط ماكيلا جيمس، إحدى مبعوثات الخارجية الأمريكية، الضوء علناً على هذا التصنيف أثناء زيارةٍ لها إلى الخرطوم هذا الأسبوع حين التقت القائد المؤقت للبلاد الفريق أول عبدالفتاح البرهان. لكنَّها أكَّدت على أنَّ الولايات المتحدة «ترغب في رؤية حكومة مدنية في أقرب وقتٍ ممكن».
لكنَّ الكثير من السودانيين قلقون من إمكانية تحويل الرئيس دونالد ترامب سياسته سريعاً، تماماً كما فعل مؤخراً بشأن ليبيا، حين أعلن دعمه لهجوم رجل ليبيا القوي الطامح خليفة حفتر على العاصمة طرابلس.
هدَّد ذلك الإعلان بالتراجع عن سنواتٍ من الدعم الأمريكي لحكومة ليبيا المتعثرة، المدعومة كذلك من الأمم المتحدة. لكنَّ تحوُّل ترامب يتماشى بشكلٍ وثيق مع مصر والسعودية والإمارات، الداعمين للواء حفتر.
ومع أنَّ وزارة الخارجية الأمريكية عبَّرت عن دعمها لانتقالٍ إلى حكمٍ مدني في السودان، لم يفعل البيت الأبيض الأمر نفسه، ما يشير إلى أنَّ «التشبيه مع ما حدث في ليبيا يبدو صائباً» مثلما يرى رئيس مجموعة الأزمات الدولية روبرت مالي.
لماذا تهتم السعودية بالسودان؟
لكنْ حتى المنتقدون يُقِرُّون بأنَّ السعودية والإمارات لديهما اهتمام كبير ومشروع بمستقبل السودان. إذ يُصدِّر السودان الكثير من الماعز التي تُذبَح في السعودية احتفالاً بعيد الأضحى، وتستضيف البلاد ملايين العمال المهاجرين السودانيين. وفي السنوات الأخيرة، تهافتت الكثير من دول الخليج على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية السودانية يأملون أن تزرع يوماً المحاصيل لبلدانهم الصحراوية، بحسب الصحيفة الأمريكية.
كما أنَّ السودان ترسٌ مهم في آلة الحرب التي تقودها السعودية في اليمن، حيث يقاتل الآلاف من القوات السودانية ضد الحوثيين في مشاركةٍ جلبت للخزينة السودانية عدة مليارات من الدولارات لكن ثَبُت أنَّها لا تتمتع بشعبية بين الجماهير السودانية.
وكان أقوى رجلين في السودان، القائد المؤقت عبدالفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو، وهو قائد لقوات شبه عسكرية ويُعرَف باسم «حميدتي»، قائدين رئيسيين في الحملة السودانية باليمن.
لكنَّ الشكوك السودانية من الدوافع السعودية زادت الأسبوع الماضي بعودة شخصية مثيرة للجدل وماكرة إلى الخرطوم.
عودة الرجل المريب إلى السودان
إذ فرَّ طه عثمان الحسين، المساعد السابق للبشير، من السودان إلى السعودية في 2017 وسط اتهاماتٍ بأنَّه كان تابعاً للاستخبارات السعودية. وبعد شهرٍ من ذلك، عُيِّن في الديوان الملكي السعودي مستشاراً للشؤون الإفريقية.
ووفقاً للعديد من المسؤولين الغربيين، عاد الحسين الأسبوع الماضي إلى الخرطوم، الأمر الذي أجَّج الشكوك بين المحتجين الذين ندَّدوا به في ملصقاتٍ باعتباره عاد للقيام بأعمالٍ سرية لصالح المملكة، بحسب الصحيفة الأمريكية.
استُؤنِفَت المباحثات بين المحتجين، يقودهم تجمُّع المهنيين السودانيين، والجيش يوم الأربعاء 24 أبريل/نيسان بعد توقفٍ قصير. وانضم مصرفيون وقُضاة إلى الاعتصام، الأمر الذي يُعزِّز قوة المحتجين. وفي الأيام الأخيرة، تحدث الجيش وقادة الاحتجاج بصورة إيجابية عن إمكانية إقامة مجلس لتقاسم السلطة يدير السودان قبل الانتخابات المقرر إجراؤها بعد فترة قد تصل إلى عامين من الآن.
لكنَّ السؤال الأساسي، المُتعلِّق بما إن كان جنرال في الجيش أو قائد مدني هو الذي سيتمتَّع بالسلطة العليا خلال تلك الفترة، لا إجابة له بعد. ولا يزال قادة الاحتجاج يأملون أن يتمكَّنوا من جذب السعوديين والإماراتيين إلى صفهم.
فقال محمد يوسف، الأستاذ الجامعي وأحد قادة الاحتجاج: «أنصحهم بالتواصل مع الممثلين الحقيقيين للشعب السوداني، وعدم إبرام صفقات مع أي طرف ليس مرتبطاً بالشعب. إن رأى الشعب أي محاولة لفرض شيءٍ يتعارض مع مصالحه، قد ينتفض مجدداً».