كتب/ بلال الطيب
في يوم نهايته المحتوم، تغدى الرئيس إبراهيم محمد الحمدي بمنزله، بمعية أحد الوزراء، ولم يشارك باقي الوزراء تناول وجبة غدائهم غير الأخير في منزل نائبه أحمد حسين الغشمي الملاصق لمنزل علي عبدالله صالح، والواقع جوار سفارة المملكة العربية السعودية، ومن هذا المنطلق فإن اسم برنامج قناة الجزيرة (الغداء الأخير) لا يتفق كمدخل لتلك السردية المأساوية المُكررة.
لم يأت برنامج الجزيرة بأي جديد، وهو إلى البرامج الوثائقية أقرب؛ بل وبعيد كل البعد عن التحقيق الاستقصائي الشامل، الذي - كما درسنا - يجيب عن تساؤل واحد، وينتهى بإجابة قطعية شافية، ولا يضع المُطلع أو المشاهد أمام الاحتمالات المفتوحة.
الاستعانة بتصريح علي عبدالله صالح لقناة (روسيا اليوم)، والذي اتهم به السعودية بشكل مباشر بجريمة الاغتيال أمر مهم، والأكثر أهمية، لو كان معد البرنامج استعان بتصريح (صالح) لأكثر من صحفي، بأنه وصل الى السلطة عبر مسدسه، وخنجره، وسبق لعبد الباري عطوان أن صرح بذلك صوتاً وصورة، وكان بالإمكان استضافته، والاستعانة بشهادته مرة أخرى.
ما دام والبرنامج يحكي قصة جريمة الاغتيال المأساوية، كان بالإمكان الاكتفاء - لا أقلل هنا من حضور الشهادات الأجنبية - بشهادة حاتم أبو حاتم، ومجاهد القهالي، وعبدالله سلام الحكيمي، وأخ الحمدي غير الشقيق، ومرافقه المُتحمس كشهود عيان عايشوا تلك اللحظة، وما يزال بجعبتهم الكثير، إلا أن القائمين على البرنامج لم يجيدوا نبشها.
في تصريح له أخير أورد مجاهد القهالي تفاصيل مهمة عن تلك الجريمة، وكيف استدرج (الغشمي) عبدالله الحمدي إلى منزله، بعد أن أخذ مفاتيح سيارات عسكرية صرفت للأخير، وأن (الحمدي) توجه إلى منزل (الغشمي) بمفرده، وأن صالح الهديان كان حاضراً لحظة تنفيذ جريمة الاغتيال، وأن الرئيس الشهيد خضع لمحاكمة عاجلة، تركزت أسئلتها حول مشروع (دول البحر الأحمر) الطموح، شبيهة لتلك التي حدثت للصحفي جمال خاشقجي في تركيا.
ولـ حاتم أبو حاتم تصريحات كثيرة، سبق نشرها في صحيفتي (الجمهورية) و(الشارع)، تحدث فيها عن طبائع (الغشمي)، وساديته، وتباهيه بجريمته تلك، وتهديده لمعارضيه بإلحاقهم بصاحبهم؛ إن لم (يبطلوا بعسسه)، وهكذا تصدر الرئيس الخائن واجهة المشهد، وظل بنظر الجميع المُتهم الأول والرئيس، الأمر الذي اتفق وإرادة المخرج الكبير، الذي تلقى في مدينة جدة السعودية خبر تلك الجريمة المروعة بشفرة (الصابونة وقعت).
الغشمي واحدٌ من شركاء كثر، نفذوا جريمتهم تلك بإشراف وتخطيط كبيرين من قبل الشقية الكبرى، مصدر شقائنا، وهو لم يكن في الأصل سوى (مُحلل) لمن أتي بعده، وما دامت التهمة لاصقة به، وشعبيته في الحضيض، فمن الأنسب أن يتحمل جريرتها لوحده، وأن يدفن معها، وهو ما كان.
تلك كانت جزئية مُهمة غفل عنها البرنامج، وكان بإمكان المُعد أن يثير هذا التساؤل: (من المستفيد من مقتل الرئيس الغشمي؟)، الذي لحق بسلفه بعد ثمانية أشهر وثلاثة عشر يوما، خاصة وأن ثمة تسريبات متصلة أشارت بأن الجريمة الأخيرة نفذت بأشراف المخابرات السعودية والأمريكية، وأدواتها في الداخل، - من استفادت من ذلك الوضع وما زالت - وأن حقيبة الحاج (تفاريش) استبدلت بمطار صنعاء، بعد أن قام محمد خميس باستقباله.
رغم أن البرنامج جاء في إطار المناكفات (الخليجية – الخليجية)، إلا أني لا أقلل من أهميته، وإن كان معده (جمال المليكي) في برامج سابقة قد حمل علي عبدالله صالح وحده مسؤولية اجتياح الحوثي لصنعاء، ولم يشر حينها لتورط السعودية في ذلك، رغم توفر الاستدلالات؛ لأن قطر كانت حينها عضواً في ذلك التحالف، ومن لحظتها صار مُتهماً بإظهار جزء من الحقيقة لطمس الجانب الآخر الأكثر أهمية.
البرنامج كشف بعد بثه سذاجة بعض المتحزبين، الذين لا يعيشون إلا في وحل المناكفات، ولا يعتاشون إلا على غثائها، أظهر تناقضاتهم الباهتة، ووجدنا هؤلاء ومن على شاكلتهم في وسائل التواصل الاجتماعي يبرؤون السعودية من جريمة اغتيال الحمدي، نكاية بالجزيرة وقطر والإخوان، وعلق أحدهم أن المخابرات القطرية دبرت تلك الجريمة، ناسيا أن قطر حينها كانت مجرد تابع للنظام السعودي لا يؤبه لها.
وفي الجانب الآخر، وقبل بث برنامج قناة (الجزيرة) بيومين، بثت قناة (سهيل) من السعودية برنامجاً عن الرئيس الحمدي، اسمه (الاغتيال المزدوج)، مضمونه هو الآخر بعيد كل البعد عن العنوان، ولا ادري هل البرنامج جديد أم مُعادٌ بثه؛ حتى أجزم بأنه رد استباقي من الرياض على برنامج الجزيرة، وبواسطة عملائها الأغبياء.
البرنامج ركز على العلاقات اليمنية السعودية في البدايات الأولى لحكم الحمدي، ولم يتناول تفاصيل توتر تلك العلاقة فيما بعد، لا من قريب ولا من بعيد، واكتفى بالإشادة بالسعودية، وما قدمته من مساعدات، وأن الأمور ظلت بين الدولتين الشقيقتين، وحتى مقتل الحمدي سمن على عسل، والأشنع أنَّه برأ المملكة من تهمة الاغتيال تلك، وحملها تلميحا عملاء الأخيرة، وكأن الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والد صاحب القناة - أو مؤسسها - لم يكن واحدا من هؤلاء.