خير الله خير الله
حان أوان التخلي عمّا بقي من أوهام الوحدة والشطرين. ثمة واقع جديد في اليمن.
المشهد في الجنوب الآن
في الذكرى التاسعة والعشرين للوحدة اليمنية، لا مفرّ من الاعتراف ان تلك الوحدة صارت من الماضي. شهدت ولادة الوحدة في 22 ايّار – مايو 1990، وشهدت انتهاءها في بلد لم أكن اتصوّر يوما اني سأتعلّق به وبأهله اهله الى الحد الذي تعلّقت به.
دفعني ذلك التعلّق الى وضع كتاب عن اليمن صدر قبل ثلاث سنوات تحت عنوان "حرائق اليمن". كتبت مقدمة للكتاب تحسرت فيها على اليمن بعدما شعرت ان لا عودة الى بلد موحّد، بل ستكون هناك كيانات عدّة سترى النور في يوم من الايّام. صدر الكتاب قبل ان يغتال الحوثيون علي عبدالله صالح بدم بارد أواخر العام 2017.
كان لديّ شعور دفين بان الحوثيين سيقدمون على هذه الخطوة بعدما غلب عليهم شعور بانّ وجودهم في صنعاء ابدي وانّه لم تعد لديهم حاجة الى المحافظة على حياة الرئيس السابق الذي كان اوّل رئيس لليمن الموحّد وآخر رئيس له. اعتقد علي عبدالله صالح انّه سيكون قادرا على تدجين اليمن واليمنيين. استسلم في نهاية المطاف لقدره. ربّما كان يعتقد انّ الحظّ لن يتخلّى عنه يوما بعد نجاته من محاولة الاغتيال التي تعرّض لها في الثالث من حزيران – يونيو 2011 في اثناء تأدية صلاة الجمعة في مسجد دار الرئاسة. لا تزال شهادتي عن اليمن التي كانت مقدّمة كتابي صالحة الى اليوم، خصوصا ان الأسئلة المطروحة منذ ثلاث سنوات لا تزال هي نفسها.
كتبت وقتذاك: "عرفت اليمن قبل ان تطأ قدماي ارضه. كنت مهتّما بما كان يدور في الجنوب خصوصا ايّام ’جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية‘. ففي هذا البلد وصل حزب شيوعي عربي الى السلطة. كان الحزب الاشتراكي اليمني، الحزب الشيوعي العربي الوحيد، الذي استطاع ممارسة السلطة. سمح لي اهتمامي باليمن بان اكون شاهدا على نهاية دولة الجنوب. كان ذلك في العام 1986، يوم الثالث عشر من كانون الثاني ـ يناير تحديدا، عندما حصل الانفجار الداخلي وتبيّن ان لا وجود لشيء اسمه حزب قائد وحاكم بل قبائل وعشائر ماركسية تقاتلت في ما بينها من منطلق مناطقي اثر خلاف على السلطة.
شهدت بعد ذلك المرحلة التي مهْدت للوحدة اليمنية بين 1986 و1990، ثم توقيع اتفاق الوحدة وما تلا ذلك من تجاذبات ادّت الى حرب صيف 1994 حين هزم علي عبدالله صالح بدعم من الميليشيات الاسلامية المختلفة وبعض الجنوبيين المشروع الانفصالي بقيادة الحزب الاشتراكي الذي كان على رأسه علي سالم البيض.
شهدت ايضا الصراع الذي دار في البلد بين 1994 و2011، عندما اضطر علي عبدالله صالح الى تسليم السلطة اثر المحاولة الانقلابية التي تعرّض لها والتي كان الاخوان المسلمون رأس الحربة فيها. حصلت ثورة شعبية حقيقية في 2011 قادها شباب متحمّسون من ذوي النيّات الحسنة الذين اثّر فيهم ’الربيع العربي‘، لكن الاخوان عرفوا كيف يخطفون تلك الثورة وصولا الى ذلك اليوم (الثالث من حزيران ـ يونيو) الذي ارادوا التخلّص جسديا من علي عبدالله في مسجد النهدين داخل دار الرئاسة.
سلّم علي عبدالله صالح، الذي بقي في السلطة ثلاثة وثلاثين عاما، الرئاسة بموجب المبادرة الخليجية الى نائبه عبد ربّه منصور هادي الذي اصبح في شباط ـ فبراير رئيسا انتقاليا لمدة سنتين، يبدو انّهما ستدومان الى ان يقضي الله امرا كان مفعولا...
شهدت اخيرا، ولكن من خارج اليمن، المرحلة الاخيرة من صعود الحوثيين الذين صاروا ’انصار الله‘ وتمدّدهم ثم انكفائهم بعد شن التحالف العربي بقيادة المملكة العربية السعودية ’عاصفة الحزم‘.
شهدت في الواقع انهيار دولة الجنوب ثم قيام دولة الوحدة ثم انهيار هذه الدولة، مع ما يعنيه ذلك من تفتيت لليمن. كان اليمنيون يخشون من الصوملة (نسبة الى الصومال). حدثت الصوملة وهم الآن في مرحلة ما بعد الصوملة.
لا ادّعي ان في استطاعتي الاجابة عن سؤال من نوع: اليمن الى اين؟ كلّ ما استطيع قوله ان اليمن الذي عرفناه لم يعد موجودا وانّ العودة الى صيغة الشطرين، اي الى مرحلة ما قبل الوحدة ليست واردة. السؤال الوحيد الذي يمكن طرحه كم عدد الدول او الكيانات التي ستقوم في اليمن في مرحلة ما بعد انتهاء حروبه الطويلة؟ هل تنتهي هذه الحروب يوما، خصوصا بعدما وجدت ’القاعدة‘ مقرّا لها في الاراضي اليمنية يعوض ما خسرته في افغانستان؟
كنت مؤيدا للوحدة اليمنية ومتحمّسا لها في مرحلة معيّنة. نلت ’وسام الوحدة‘. لم اخجل من ذلك. ما زلت مؤمنا بان الوحدة وفّرت على اليمن واليمنيين في تلك المرحلة الكثير من الدماء. لولا الوحدة، لما كان في الامكان رسم الحدود البرّية بين اليمن وجاريه، المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان، والحدود البحرية مع اريتريا التي سعت في مرحلة معيّنة الى احتلال جزر يمنية مثل جزيرة حنيش في البحر الاحمر. قبل الوحدة لم يكن الجنوب قادرا على رسم الحدود مع السعودية بسبب مزايدات الشمال. ولم يكن الشمال يتجرّأ على خطوة من هذا النوع بسبب مزايدات الجنوب.
الأهمّ من ذلك كلّه، ان الوحدة كان يمكن ان تؤسس لنظام ديموقراطي قائم على التعددية الحزبية، يكون فيه تبادل سلمي للسلطة وحرّيات من كلّ نوع، خصوصا في مجال الاعلام. لكنّ كلّ ذلك بات من الماضي، كذلك احتمال قيام لامركزية موسّعة تسمح لكلّ مكوّن من مكوّنات اليمن التعبير عن نفسه بحريّة.
الآن، لم يعد ممكنا الدفاع عن الوحدة. صارت الوحدة اليمنية جزءا من الماضي، خصوصا انّه لم يعد واردا حكم اليمن من ’المركز‘، اي من صنعاء، خصوصا ان الصراع راح يدور ابتداء من العام 2010 داخل اسوار العاصمة.
لن احاول الدخول في التكهّنات او الخوض فيها. اقول ما اعرفه وعندما لا اعرف، اقول لا عرف واكتفي بالسكوت. لم اكن سوى صحافي شغوف باليمن احب اهله واحترمهم وخرج، بعد ثلاثين عاما من مرافقة شبه يومية للحدث اليمني بانطباع واحد هو الآتي: كلّما عرفت اليمن واليمنيين، كلما اكتشفت كم انك تجهله وتجهلهم".
هنا تنتهي مقدّمة الكتاب الذي شكل محاولة متواضعة للإحاطة بالظروف التي رافقت تشظي اليمن والأسباب التي تدعو الى التفكير في البلد من منظار مختلف بعيد كلّ البعد عن الوحدة التي كانت خيارا لا مفرّ منه في العام 1990، مثلما ان خيار البحث عن صيغة جديدة لليمن هو خيار السنة 2019 او خيار السنوات الثماني الماضية بعدما سهّل الاخوان المسلمون بانقلابهم على علي عبدالله صالح، وصول الحوثيين الى صنعاء واقامتهم امارة إسلامية اقرب ما تكون الى نسخة شيعية عن الامارة التي اقامتها "حماس" في غزّة ابتداء من منتصف العام 2007.
في ذكرى الوحدة اليمنية، يبدو ضروريا اكثر من ايّ وقت، ولأسباب عملية اكثر من ايّ شيء آخر، التخلي عمّا بقي من أوهام، بما في ذلك وهم امكان العودة الى صيغة الشطرين، او الدولتين المستقلتين في اليمن. ستكون هناك حاجة الى سنوات طويلة قبل ان نعرف هل سيبقى شيء ما من الوحدة اليمنية غير ذكرى قيامها في يوم من الايّام.