قالت مجلة Foreign Policy الأمريكية إن المجلس العسكري في السودان لا يبدو أنَّه مُنصِت لأصوات المتظاهرين المطالبين بنقل السُّلطة إلى المدنيين، مشيرة إلى أن «الثورة المضادة انطلقت بحماسة في البلاد».
وبحسب المجلة، فإن ما بدأ في ديسمبر/كانون الأول 2018، باعتباره احتجاجاتٍ عفوية في مختلف أنحاء السودان بسبب الاقتصاد المتعثر، وانتهى بعزل الديكتاتور العسكري عمر البشير الشهر الماضي (أبريل/نيسان 2019)، بات الآن يواجه عقبة كبرى: لقد رحل البشير، لكنَّ نظامه يقاوم. فمع أنَّ المجلس العسكري تعهَّد بتسليم السلطة إلى المدنيين عند عزله للبشير، يبدو أنَّ جيش البلاد العنيد يتنكَّر لهذا التعهُّد.
المجلس العسكري يرفض حتى تقاسم السلطة
يقول حيدر الصافي شبو، أحد المفاوضين المدنيين السودانيين، لـForeign Policy: «المجلس العسكري أراد الاحتفاظ بالسيطرة، بل رفض حتى مقترحاً من المدنيين يقضي بتأسيس مجلسٍ يضم عدداً متساوياً من الشخصيات المدنية والعسكرية».
ومن جانبه يرى كاميرون هدسون، الباحث بالمجلس الأطلسي، أن «المجلس العسكري تعلَّم في عهد البشير كيف يقضي وقتاً طويلاً يجادل في التفاصيل الدقيقة ويُبقي الناس يدورون في حلقات؛ وهو ما يؤدي إلى إضعاف المعارضة لنفسها».
لكنَّ هذه الاستراتيجية قد تكون سلاحاً ذا حدين. فهناك أيضاً دلائل على انقسام داخل المجلس العسكري، ويخشى المسؤولون الغربيون من تحوُّل الصدع إلى مزيدٍ من العنف الجماعي.
فبحسب رويترز، قالت النيابة العامة السودانية الثلاثاء 21 مايو/أيار 2019، إنَّها حاولت إلقاء القبض على مدير المخابرات السابق القوي صلاح قوش، لكنَّ حرَّاسه تصدوا للمحاولة. وهذه علامة على أنَّ جهاز المخابرات بالبلاد، المتهم بالتعذيب وارتكاب فظائع في عهد البشير، يغنِّي على ليلاه.
ونفى قوش سابقاً لمجلة Foreign Policy، ادعاءات تفيد بأنَّه قيد الإقامة الجبرية، ولم يردَّ على طلباتٍ من أجل التعليق على المسألة يوم الثلاثاء. وكان قوش يتمتع بعلاقة وثيقة مع وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، وكان جزءاً من مخطط انقلابي تباحث بشأنه مع مسؤولين أمريكيين عام 2012 ضد البشير.
الجيش يريد تقويض المفاوضات بأي شكل
وهناك أيضاً دلائل على وجود صدعٍ أوسع داخل جيش البلاد، إذ شاهدت «Foreign Policy»، الأسبوع الماضي، رجالاً يرتدون زي قوات الدعم السريع، وهو وحدة شبه عسكرية يسيطر عليها المجلس العسكري، يضربون المدنيين ويهاجمون الاعتصام. وكان واضحاً أنَّ أحداً من الجيش يريد تقويض المفاوضات. جرى نقل ضحايا الأعيرة النارية واحداً تلو الآخر إلى داخل الاعتصام، وشكَّل المحتجون حلقة حماية حولهم، في حين كان الأطباء يعالجونهم.
يقول دين الفتاح، وهو أحد المحتجين، وسط إطلاق النار: «لسنا خائفين. نريد حريتنا بالطرق السلمية، لكن لا أحد يساعدنا».
وصرَّح الأطباء الذين يعالجون المصابين، للمجلة الأمريكية، بأنَّهم أمسكوا بضابط مخابرات يرتدي زي قوات الدعم السريع. وأطلق الجنود النار على المدنيين باستخدام الذخيرة الحية، فقتلوا ستة أشخاص وأصابوا 77 آخرين. وقالت بعض الدول الغربية إنَّ العنف يُمثِّل محاولة لاستفزاز المحتجين. وحذَّرت الحكومة السودانية أيضاً السفراء الأجانب من زيارة الاعتصام، قبل أيام من وقوع العنف، وهو ما يعتبره البعض مؤشراً على أنَّ الهجوم كان مُعدّاً سلفاً.
توجد كذلك انقسامات كبيرة داخل تحالف المجموعات المدنية المعروف باسم قوى «إعلان الحرية والتغيير». ففي لقاءٍ بعد المفاوضات التي جرت صباح الثلاثاء 21 مايو/أيار 2019، عبَّر بعض الأعضاء عن خيبة أملهم من تقدُّم المُفاوِضين بعرضٍ لتقاسم السلطة مع الجيش. وكان البعض ممتناً لرفض المجلس العسكري للعرض، وتكهَّن بأنَّ المتظاهرين ما كانوا سيقبلون به.
الداعمون للثورة المضادة
وفي الوقت نفسه، ما زالت كثير من الخلافات بشأن مستقبل السودان مستمرة خارج البلاد. إذ يُنظَر إلى ثلاث دول عربية باعتبارها تدعم المجلس العسكري، لكن لأسبابٍ مختلفة.
فيقول مسؤولون غربيون إنَّ الإمارات والسعودية تدعمان الجيش لحماية مصالحهما المالية والعسكرية. إذ يُقدِّم السودان جنوداً يقاتلون بجانب التحالف العربي في اليمن. ودعم كلا البلدين الجيش بتقديم 500 مليون دولار إلى البنك المركزي السوداني، لكن هناك تكهُّنات تشير إلى أنَّ الأموال قد تُستخدَم لشراء الدعم داخل الجيش.
فقال نونيهال سينغ، مؤلف كتاب «Seizing Power: The Strategic Logic of Military Coups» عن الانقلابات العسكرية والمنطق الاستراتيجي وراءها: «المال القادم من الخارج أكثر إثارة للاهتمام. وربما سيذهب المال كله لشراء أعضاء تحالف الجيش، وهو ما من شأنه أن يشير إلى ضعفٍ داخلي».
أمَّا مصر، فيُنظَر إلى دعمها للمجلس العسكري باعتباره حاجزاً في وجه انتشار الديمقراطية وصعود الإسلام السياسي. فالعلاقات العسكرية بين البلدين وثيقة، وتلقَّى كثير من كبار المسؤولين السودانيين تعليمهم في مصر. قال هدسون: «يتبع المصريون نهجاً متشدداً للغاية مع المجلس العسكري، دافعين إياهم للاحتفاظ بالسيطرة على الحكومة».
حميدتي في قلب الثورة المضادة
يعد محمد حمدان دقلو «حميدتي»، قائد قوات الدعم السريع -التي بثَّت الرعب بإقليم دارفور- من الناحية الرسمية هو الرجل الثاني في سُلم قيادة الحكومة السودانية حالياً، لكنَّه يخبر الدبلوماسيين الأجانب بأنَّ الإطاحة بالبشير كانت فكرته هو. وتولى حميدتي مركز الصدارة في التفاوض مع المدنيين.
كما أن حميدتي مقرب من حكومتي أبوظبي والرياض، وكانت أول زيارة خارجية له منذ تعيينه نائباً لرئيس المجلس العسكري في السودان، هي للسعودية، حيث ذكرت وكالة الأنباء السعودية أن ولي العهد محمد بن سلمان اجتمع مع حميدتي، مساء الخميس 24 مايو/أيار 2019.
وبحسب تقارير إعلامية، فقد تركزت المباحثات بين الرجلين على بقاء القوات السودانية المشارِكة ضمن التحالف العربي باليمن، مقابل دعم المملكة للسلطات الجديدة في السودان بكل السبل.
وبحسب ما نقلته وكالة «سونا» السودانية الرسمية، فقد أكد حميدتي في المقابل بقاء قوات بلاده المشارِكة ضمن التحالف العربي باليمن «حتى تحقق أهدافها».
إلى ذلك، توجد تقديرات استخباراتية مختلفة لحكم قوات حميدتي، فتقول بعض الدول إنَّ حميدتي لديه 20 ألف جندي إجمالاً، يوجد بضعة آلاف منهم في العاصمة الخرطوم. وتقول دول أخرى إنَّ حميدتي لديه 20 ألفاً متمركزين في الخرطوم وحدها، وعشرات آلاف آخرين في دارفور ويقاتلون باليمن لمصلحة السعودية والإمارات.
وأيّاً كان الرقم الحقيقي، فإنَّ جنود حميدتي مُسلَّحون جيداً في أنحاء الخرطوم ولديهم مجموعات من القذائف الصاروخية المحمولة على ظهر الشاحنات. وربما يحصل كذلك على المساعدة من موسكو: تحدَّثت بعض قوات حميدتي لمجلة Foreign Policy بلغة روسية بسيطة. وحصل الجيش السوداني على الإمدادات من شركاتٍ تدعمها موسكو، وقال سكان إحدى القرى في دارفور، وهي قرية أم دافوق، إنَّ الأعلام الروسية ترفرف فوق ظهر القوافل في المدينة.
ما خيارات «تجمُّع المهنيين» في مواجهة الثورة المضادة؟
مع تنامي قوة الثورة المضادة في السودان، ردَّ تحالف المدنيين الذين نظَّموا الاحتجاجات، بالطريقة الوحيدة التي يعرفونها. فقالت سارة عبدالجليل، المتحدثة باسم تجمُّع المهنيين السودانين، إنَّ القادم سيكون «تصعيد الحراك السلمي نحو التغيير الديمقراطي الكامل».
وطوال أسابيع، كان تجمُّع المهنيين السودانيين، الذي نظَّم الاحتجاجات بالأساس، يستعين بهدوء بمجموعات عمالية مثل جمعيتي النقل والكهرباء، للانضمام إلى إضرابٍ على مستوى البلاد في حال انهارت المباحثات مع الجيش. وجرى تفعيل تلك الخطة بعد انهيار المفاوضات صباح الثلاثاء. وقالت سارة إنَّ «هدف الإضراب هو شل البلاد، ومنع اتخاذ أي إجراءات ضد المتظاهرين، ورفضاً لإحجام المجلس العسكري الانتقالي عن القبول بحكومة مدنية».
لكنَّ آخرين يقولون إنَّ فاعلية الإضراب على مستوى البلاد قد تكون محدودة في الوقت الراهن. فقال صِدِّيق يوسف، أحد المُفاوِضين المدنيين ورئيس الحزب الشيوعي السوداني، إنَّ البلاد تعيش الآن شهر رمضان وفي حالة احتجاج، ولا أحد يعمل في أثناء النهار على أي حال.
ما موقف الحكومات الغربية من المشهد السوداني؟
الدول الغربية منقسمة حيال ما ينبغي عمله في السودان. فقال بعض الدبلوماسيين للمجلة الأمريكية، إنَّهم سيرفضون الاعتراف بالجيش إن احتفظ بالسُّلطة، في حين أنَّ ردود دول أخرى كانت أقل صرامة.
وكثيراً ما تُوصَف السياسة الأمريكية في السودان بأنَّها متلعثمة أو غير موجودة. ويعتقد البعض في البيت الأبيض أنَّ تجمُّع المهنيين السودانيين قد يكون مرتبطاً بالإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي لا توجد دلائل عليه.
وتعد العلاقات الأمريكية مع تحالف المدنيين متوترة، إذ تحدث أربعة أعضاء بتحالف المجموعات المدنية عن صعوباتٍ مع كبير المسؤولين الأمريكيين في السودان ستيفن كوتسيس، قائلين إنَّه كان غير مكترث ومُتطلِّباً في أثناء اللقاءات. ورفض كوتسيس طلباً لعقد مقابلة. ولم تردَّ وزارة الخارجية الأمريكية والبيت الأبيض على الأسئلة.
لكنَّ مسؤولاً في المعارضة قال إنَّهم لن يحضروا اجتماعاتٍ مع السفارة الأمريكية بعد الآن. وأضاف: «إنَّها مضيعة للوقت».